الجزء الثاني
هنا سنتناول باختصار مباني العقلانيه الاسلاميه:
الف. جميع الموجودات، خلقت من قبل الباري لغرض معين. و الانسان من تلك المخلوقات، بل اشرفها. و علي الانسان في الحياه ان يعمل علي اساس «وظيفته» لكي يصل الي السعاده. و العمل بالوظيفه يؤدي الي مرضاه الله و التقرب اليه؛ و هو السعاده الحقيقيه للانسان. و قد ارسل الله الانبياء مبشرين و منذرين. لكي يرشدوا الناس الي وظائفهم و يدلوهم الطريق.
باء. الانسان «موظف» في كل الاحوال و كلما ازدادت المسافه بين العمل و هذه الوظيفه الحقيقيه، كان اكثر تخلفاً. و من اولي نتائج العقلانيه الاسلاميه، تحديد الوظيفه في كل حاله او ظرف. و ما الفقه و الحديث و السنه و التفسير و .. الاّ جداول تصب في بحر العقلانيه.
جيم. بعد تحديد الوظيفه، لابد من الوصول الي افضل طريق للعمل بها و ضمن فضاء العقلانيه الاسلاميه و كلمه «الافضل» تعني اكثر الطرق «مشروعيه»! و في هذه المرحله يستفاد من احدث الانجازات العلميه و التكنولوجيه، و لكن لابد من توضيح «مشروعيه» كل مسير. و رغم ان النجاح يحتاج الي بذل اقصي الجهود، لكن مجرد العمل بالوظيفه له الاصاله. فلسنا مسؤولين عن النتائج. فمسؤوليتنا هي معرفه «وظائفنا» و بذل اقصي الجهود و اختيار افضل السبل للقيام بها. اما الباقي فنوكله الي الله تعالي!
دال. كما اشرنا، «الوظيفه» مفهوم محوري في العقلانيه الاسلاميه و ليست محدوده بالحياه الفرديه. فمن اهم وظائف المسلمين اقامه الدين، و لا يتم ذلك الاّ باقامه الحكومه علي اساس العقل الاسلامي. اي مع عدم وجود حكومه مشروعه. فان اهم وظيفه و مسؤوليه هي السعي لأقامتها، اما لو كانت موجوده فان دعمها و اسنادها هي الوظيفه و المسؤوليه الاهم. و مشروعيه الحكومه في العقليه الاسلاميه تأتي علي اساس ولايه الفقيه. لكنها من حيث الكفاءه الفاعليه تتبع افضل الطرق و الاساليب الموجوده.
هاء. لابد ان يكون عمل الفرد في حياته الخاصه ايضاً علي اساس العمل بالوظيفه. فمن ناحيه تبيّن الحدود الشرعيه جمله اطر للعمل، و من ناحيه اخري، فان السعي للقيام بالوظائف، يعدّ سعياّ دائماً «تسابقياً» محركاً!
واو. لابد ان يكون تحديد «الوظيفه» علي اساس عقلاني. لذلك تكون الاصاله في «الرجوع الي العالم» باعتباره اعقل اسلوب. و لهذا «الرجوع» في مختلف المجالات تفرعاته الخاصه، نجد بعضها في امر الاجتهاد و التقليد. لان دور العالم في توعيه الناس بوظائفهم، ابعد من مجرد بيان الاحكام. و يستنتج من ذلك ان دور واهميه علماء الدين في الحياه الانسانيه (في الفضاء العقلاني الاسلامي) لا تأتي من خلال سيطره جهاز معين (مثل الكنيسه باعتبارها جهازاً منظماً Institution) بل من خلال مسار عقلي تماما، و هو رجوع الناس الي العالم.
ثامناً: و من اجل بيان مدي تأثير المواضيع التي طرحناها حول العقلانيه الاسلاميه في مسار عمل (الفرد/ الجماعه)، و من الضروري جدا توضيح نتائجها في مختلف اركان العمل:
الف. الركن الاول للعمل الارادي، هو الوضع الحقيقي الذي يعد الارضيه لظهور العمل. فما هي الصوره التي يمكن للانسان امتلاكها عن الوضع الحقيقي؟
المستوي الطبيعي و الامل هو البيئه الماديه ـ الاجتماعيه، و الذي يمكن التعبير عنها بـ«ايكولوجيه العمل». فبالنسبه للعقلانيه الليبراليه، يكفي ان السعي وراءها ليس له مبرر. لكن المسأله تختلف بالنسبه للعقلانيه الاسلاميه: فالعمل ينظر الي نفسه باعتباره عبداّ لله القهار و القوي و المسيطر. فهو مسلط عليه و علي العالم في نفس الوقت. و هو ـ اي الله تعالي ـ الرحمن الرحيم و ملجأه الامن و احسن الناصرين. و بالنسبه للامكانيات التي يمتلكها. فهي جزء من النعم الالهيه التي جعلها الله بيد العامل. لذلك فالفرد في فضاء العقلانيه الاسلاميه، لا يعتبر بيئه (ايكولوجيه) العمل منتهي الامكانيات التي يمتلكها، بل يري ان نهايه الوضع تتسع مع سعه الاراده الالهيه. و من جهه اخري، علي العامل متابعه ذلك الوضع بلحاظ الوظيفه الخاصه الملقاه علي عاتقه، اضافه الي ضروره دركه و معرفته للوضع و الظروف المحيطه، لانه يؤمن بوجود الله تعالي معه في اي وضع كان و انه معرض لامتحان.
باء. و في الركنين الثاني و الثالث. تتضح آثار العقلانيه الاسلاميه:
اولاً: الهدف النهائي محدد. و هو رضي الله تعالي! و لا يتيسر ذلك الاّ من خلال القيام بالوظيفه. ثانياً. لابد من اختيار افضل السبل للوصول الي الهدف. و هنا يتضح دور العلوم و التكنولوجيا: يمكن اختيار افضل السبل و انسبها للوصول الي الهدف بمساعده احدث المنجزات العلميه و التقنيه. ثالثاً. الخطوات التي تتخذ في الوصول الي الهدف لا تنظر فقط الي اقرب السبل في ذلك فقط، بل لابد ان تكون تلك الخطوات و السبل مشروعيه ايضاً! و العقلانيه الاسلاميه تضع حدوداً من الناحيه العلميه في الوصول الي الهدف. رابعاً. لابد ان يري العامل نفسه دائماً في سباق من اجل الوصول الي الهدف، و ان عدم تحركه يعني عدم العمل بالوظيفه الملقاه علي عاتقه1.
تاسعاً: ان المجتمع الاسلامي و الحكومه هما في الحقيقه اهم نتائج العقلانيه الاسلاميه علي المستوي الاجتماعي. و المجتمع الاسلامي، هو المجتمع الذي تحكم العقلانيه الاسلاميه تحركاته الفرديه و الجماعيه.
و علي هذا الاساس نصل الي نتائج مهمه هي:
الف. لو لم يكن تأسيس المجتمع ـ اي الجماعه البشريه التي ترتبط مع بعضها بشكل منتظم ـ علي اساس طبيعي او مصلحي، فانه بالتأكيد وظيفه! فالعقلانيه الاسلاميه تردعنا عن الحياه الفرديه و تجيز لنا المجتمع المدني.
باء. تعد الحكومه اسمي حالات التجمعات العامله في المجتمع، و للعقلانيه الاسلاميه رأي في اساس مشروعيتها و في بنيه كفاءتها و فاعليتها ايضاً.
ففي اساس المشروعيه يكون الملاك هو «صلاحيه القيام بالوظيفه»، لذلك فأن ولايه الفقيه هي بيان لهذا الموضوع ـ علي وجه الدقّه ـ و تستوجب الوظيفه، الاخذ بأكثر الاوجه كفاءه و فاعليه في رسم التشكيله الحكوميه العامه. و من منجزات هذا الالزام فعاليه و نشاط المشاركه السياسيه الشعبيه. و علي اساس ذلك تكون الديمقراطيه العلميه 2 احدي النتائج البيّنه للعقلانيه الاسلاميه.
جيم. ما مدي صلاحيات الدوله و دائره عملها؟ و في جواب ذلك نقول ان الحكومه في العقلانيه اسلاميه لها وظيفه كما هو الفرد، و ان كيفيه تحديد الوظيفه و العمل لها يبيّن مدي فاعليه النظام كفاءته و مما يعد من منجزات البشريه في اواخر القرن العشرين هو القول؛ كلما كانت الدوله اصغر و كلما زادت مشاركه الناس في الامور، كانت الامور تسير بشكل افضل. و علي اساس هذا الانجاز العلمي (في علم السياسه) علي الدوله ان تراعي اصل عدم التدخل في الامور، و تجعل دورها مقتصراً علي التوجيه و الاشراف. و اري ان ذلك احدث فكره في مجال الحكومه! لانه يتضمن استعداد دائم للاستفاده من المنجزات العلميه البشريه في مجال الحكومه.
دال. العقل الاسلامي و التسامح؛ ان التسامح المطلق من نتائج العقلانيه الليبراليه و مصدره رفض فكره الوظيفه. و من باب المصلحه، تضع الحكومات الليبراليه قيودا متعدده علي التسامح، اهمها «الامن» و «العفّه العامه»، و العقلانيه الاسلاميه ترفض التسامح المطلق سواء علي مستوي تصرفات الفرد و سلوكيات الحكومه.
و هذا شرح للقضيه فيما يتعلق بمسأله الحكومه:
تسامح الحكومه يتناسب مع التحسس العام، فكلما كانت الحكومه مسؤوله عن الامن و الصحه الجسديه. فانها مسؤوله ايضاً في الوقوف امام الافكار التي تتعارض مع الاسلام. و اذا كانت الجماهير نفسها تتحسس من التصرف و الفكر المعارض للحث، ففي هذه الحاله لا حاجه لتدخل الدوله في هذا الامر. و لكن اينما ضعف هذا التحسس، لزم تدخل الدوله. فالاصل الاساس، هو تقويه هذا التجسس الي المستوي اللازم، و حتي يحصل ذلك تبقي الدوله تتدخل في المسأله.
* و التسامح بالشكل الوضعي منه ضروري ايضاً و بهذا الصدد تجدر الاشاره الي ثلاثه مجالات مهمه:
المجال الاول؛ التسامح في تقويم و نقد اعمال المسؤولين و القائمين بالامور في اي مستوي كانوا.
المجال الثاني؛ التسامح في تقديم فهم مختلف عن الدين، و لابد ان يطرح هذا ابتداء ضمن محافل تخصيصيه ـ علميه، و بعد ان تثبت قوه براهينه و يتساوي مع الفهم الآخر، يمكن عرضه علي عامه الناس.
المجال الثالث؛ التسامح في المواضيع التي هي نتائج لعقلانيه غير اسلاميه، لكنها لا تتعارض مع الاسلام في الظاهر علي الاقل. و هذه القضيه مهمه جداً في العلاقه و الارتباط بين الحضارات.
هاء. و المسأله الاخري التي يجب توضيحها علي اساس العقلانيه الاسلاميه هي «حريه التعبير». ففي العقل الليبرالي لابد من وجود تسامح مطلق من الناحيه النظريه، لذلك و كما جاء في اعلان حقوق الانسان، ان الشخص حرّ في تغيير الدين الذي يؤمن به، و الدعايه للدين الجديد … و من الناحيه العلميه تلزم الدول الليبراليه نفسها بذلك مادام الامر يتعارض مع مسألتي الامن و العفه العامه. علي سبيل المثال. منعت الحكومه الفرنسيه الفتيات المسلمات من ارتداء الحجاب في المدارس. و يعلل السيد باسكوا، وزير الداخليه في عهد ميتران ذلك بالقول: هذا الامر يعد ترويجاً لفكره لو انتشرت ستهدد الطبيعه العلمانيه للنظام، و الحكومه الفرنسيه. تجد أن للفكره ارضيه مهيئه للانتشار: و «حريه التعبير» في العقلانيه الاسلاميه، فيها الصحيح و الخطأ كما هي سائر اعمال الانسان. فاذا كان «التعبير عن العقيده» يهدف الي تثبيت الاسلام، فهو حسن وجيد و اما اذا كان عكس ذلك فهو رديء و سيّيء. لذلك، اذا كان تحسس الناس بمستوي يستطيعون به تحديد العقائد الباطله، عندها لا حاجه لتدخل الدوله، اما في غير ذلك، فمن مسؤوليه الدوله الوقوف امام انتشار الافكار و العقائد الباطله و المنحرفه. كما لا يمكن وضع امكانيات بيت المال من قبيل الاذاعه و التلفزيون الرسميين و الصحف الحكوميه، بل حتي الجامعات التابعه للدوله في خدمه الدعايه للافكار و العقائد التي لا تنسجم مع الاسلام و تتعارض معه.
واو. دور علماء الدين في العقلانيه الاسلاميه من المسائل التي لابد من شرحها علي اساس العقلانيه: علي الجماهير و الحكومه الرجوع الي علماء الدين في تحديد وظائفهم، و طبعاً لابد من وجود آليه معينه في ذلك الرجوع، و ذلك من باب الفاعليه و لكي لا يعيش الناس و النظام حاله اضطراب. و دور علماء الدين لا يعني سيطره مؤسسه علي أخري بل يندرج بشكل طبيعي في اطار المجتمع الاسلامي.
……………………….
الهوامش:
[1] -انظر: محمد جواد لاريجاني، الحكومه: بحث في المشروعيه و الفاعليه، طهران: نشر مؤسسه سروش، 1374 هـ ش (1995 م)، الفصل الثاني (بالفارسيه).
[2]- Functional Democracy
iThere are no comments
Add yours