ما هي العوامل التي تصنع الحضارات، و ما هي العوامل التي تميزها عن بعضها؟ يعد هذا من أهم ما يواجه الباحثون في مجال الحضارات، و لابد من الاجابه عليه
ما هي العوامل التي تصنع الحضارات، و ما هي العوامل التي تميزها عن بعضها؟ يعد هذا من أهم ما يواجه الباحثون في مجال الحضارات، و لابد من الاجابه عليه
اولاً: يكتفي البعض في الرد علي هذا التساؤل بطرح اجابه بسيطه (بل و ساذجه) من قبيل، ان الحضاره مجموعه من العقائد و السلوكيات و الآداب و التقاليد! و بطبيعه الحال، فان مثل هذه الاجابات لن توصلنا الي شيء. بينما الاجابه الصحيحه هي، ان الحضاره توجد عندما تعمم العقلانيه، انها تتغير بتغيرها، و تضمحل ايضاً باضمحلالها، و سنستخدم لعباره العقلانيه المعممه مصطلح «الفضاء العقلاني». و علي هذا سنواجه سؤوالين مهمين:
الف: ما هي بنيه العقلانيه قبل تعميمها؟
باء: ما هي الظروف التي تسمح بتعميم العقلانيه؟
جوهر العقلانيه
ثانياً. و الآن نتساءل عن جوهر العقلانيه؟ و في جواب ذلك نقول، انها اساس «العمل» و تقييمه. فالانسان موجود عامل، و العامليه تعني صدور «العمل الارادي» منه، و تتجلي في هذه الاعمال الاراديه جميع انسانيه الانسان! و العقلانيه ايضاً تجيبنا علي سؤال مهم و اساسي، و هو: ما العمل؟ فتقول ان للعمل الارادي ثلاثه اركان، علي المستوي العام و في الحاله الخاصه التي تعد الارضيه لظهور العمل:
الركن الاول: الصوره التي يمتلكها العامل عن الوضع. و الوضع جزء من الحقيقه الخارجيه التي ترتبط بالعامل و العمل الذي يكون علي مشارف الظهور، و من الطبيعي ان يكون كمال هذا الركن في امتلاك صوره اقرب للواقع، و هذه القضيه توضح درجه العقلانيه.
الركن الثاني: رسم صوره عن الوضع المنشور، اي اختيار العامل لواحده من الامكانيات مع كثرتها، و يقوم باتخاذ قراره علي اساسها. و العقلانيه هنا تكون الاساس في تعليل و تسويغ هذا الاختيار.
الركن الثالث: برنامج التنفيذ، اي السبيل الذي يختاره العامل لتحقيق الوضع المنشود في ضوء الامكانيات و الظروف التي يمتكلها. و عقلانيه هذا الركن تكون في استخدام افضل للامكانيات مع المحافظه علي «حدود» مشروعيه العمل.1
و قد لاحظنا ان العقلانيه تجري في جميع اركان العمل و هي ليست مجرد صبغه زائفه تلتصق به.
تعميم الحضاره
ثالثاً: ذوو الالباب يتابعون بدقه مسأله العقلانيه حتي النهايه. (و الي الجذر) و يقومون ببناء اركانها. لكن تعميمها لا يعني تكرار جميع تلك الدقه و المتابعه، بل «العموميه» تعني قبول الناس في المجتمع (او المجتمعات) للعقلانيه بالتدريج، و جعلها الملاك في تنظيم شؤونهم. و في مثل تلك الحاله تصبح العقلانيه اساس «عمل» الجماعه و تستخدم في تقويم البني الاجتماعيه لذلك المجتمع. و الاهم من ذلك، هو ان «الحضاره» تكون حصيله عمل جماعي، و لذلك تجد مظاهر تفسيراتها، و مسوغاتها اللازمه علي اساس العقلانيه الاساسيه ـ و التي اتخذت صفه عامه. كما ان التعامل بين الحضارات، يمكن تفسيره علي اساس عقلانياتها: تأثير، تأثر، تعايش او صدام. و علينا التمييز بين تعامل الشعوب و الدول، و التعامل الحضاري، لان التعامل الحضاري يكون عندما تكون هناك علاقات بين العقلانيات الحضاريه. و طبعاً، فالمسافه مع النمط المثاني لذلك تعبر عن وجود عوامل مؤثره في العمل.
من جهه اخري، يرتبط بالقبول العالم بعقلانيه معينه بعوامل منها اجتماعيه و نفسيه، الي جانب فهم فلسفي «واقعي». فمن الطبيعي علي سبيل المثال، ان يقبل الناس الذين ضاقوا ذرعاً بظلم الكنيسه، بالدعوات المناهضه لها، اي لو نادي البعض بأن هؤلاء ـ الكنسيين ـ علي باطل، و ان الزنا و الخمره و حب الدنيا التي ذمها هؤلاء ليست اموراً سيئه كما صوروها، فان الناس ستقبل بتلك «الرزمه!» جميعها. العكس ايضا ممكن: فاذا عاني الناس في ظل نظام ديمقراطي ليبرالي من الاضطرابات و فقدان الامن و الفساد و التحلل و ضاقوا بها، فانهم سيرتضون دكتاتوراًً يفرض عليهم الكثير الي جانب استقرار الاوضاع و ثباتها!
العقلانيه الليبراليه
رابعاً: مرحله الحداثه تعشها الحضاره الحاليه في اوروبا و اميركا، يمكن تعريفها بواسطه نوع معين من العقلانيه، هي «العقلانيه الليبراليه» او «العقلانيه التقني». و الاجابه التي تقدمها هذه العقلانيه، علي السؤال الذي طرحناه مسبقاً (ما العمل؟) فيمكن تلخيصها في المحاور التاليه:
الف ـ لابد من التمييز بين سوال «ما العمل؟» و قضيه الجذور و معني الوجود.
فاخفاقات مساعي الفلسفه الاولي، بينت عدم جدوي السعي لمعرفه جذور الوجود. و من الافضل لنا نحن البشر، ان نفرض انفسنا نوعاً من الاحياء له قابليات خاصه كما هي خصوصيات كل نوع.
ب ـ و افضل حاله، هي التي يستطيع الشخص العمل بكل ما يريد! اي حريّه تامه في العمل! لان ظهور كل حسن، و الكمال الذي يدعي يكون اكثر احتمالا في مثل هذه الظروف. لكنه ليست هناك امكانيه لمثل هذه الحريه في العمل، لانه سيؤدي ذلك الي تعارض مصالح البشر، و لهذا وجدت الدول لكي تضمن اكبر مقدار محدد من الحريه و دون ايه تمايزات. و علي هذا تكون وظيفه الحكومه هي مجرد «الضمان» اي حفظ الامن في جميع ابعاده، و القانون هو عباره عن تعريف محدود حريه الافراد. اذ ليس من مسؤوليه الدوله الوعظ و الارشاد.
ج ـ و ضمن دائره الحريه القانونيه علي الفرد، أو ايه تشكيله عامله، العمل لكسب اعلي حدّ ممكن من «المنفعه»، و هذه الضابطه العقلانيه الوحيده التي يمكن الدفاع عنها في اساس العمل. و في جواب السؤال عن معني «المنفعه» يمكن تحدي طبيعتها بما يتناسب و نوعيه الاعمال.
ففي الاعمال الاقتصاديه، تكون «المنفعه» هي الربح الذي يأتي به رأس المال، و هو حصيله تبادل و سعي مبرمج عقلاني دائم، بعيدا عن استخدام القوه، فيما يقاس في الغالب ايضا علي اساس «رأس المالظ (فاكس فيبر).
«المنفعه» في العمل السياسي، عباره عن كسب اكثر قدر من السلطه و القوه السياسيه دون استخدام للقوه و بالوسائل الديمقراطيه.
و علي مستوي العمل الفردي «فالمنفعه» عباره عن الحصول علي اكبر حجم من «اللذه» بأقل مقدار من «الجهد». و لهذا فان عقلانيه عمل الشخص الذي يري لذته في الشهوات، بنفس مستوي عقلانيه عمل الشخص الذي يراها في عباده الله سبحانه و تعالي! و يمكن لعمل هؤلاء الافراد ان يكون غير اقتصادي او غير سياسي (من حيث المنفعه)!
انعكاسات و نتائج
خامساً. العقلانيه الليبراليه نتائج ضروريه، نشاهدها بوضوح اليوم، حتي لو لم نكن نشاهدها في بدايه رواجها:
الف. ان اول نتيجه مهمه للعقلانيه الليبراليه، ظهور نظام رأسمالي و التنميه التي جاء بها في مجال الاقتصاد. نأخذ علي سبيل المثال «التجاره» فعلي الرغم من تاريخها الذي يمتد الي آلاف السنين، الا ان العقلانيه الليبراليه غيرت التقاليد الجاريه و القديمه فيها تماماً:
* فقد ادي «الاستمرار» الي ان يسعي التجار الجدد للحصول علي اسواق ثابته و مطمئنه بدل حساب المنفعه في حمولات مفرده.
* وادي «التبادل» الي الحيلوله دون ركود رأس المال، و لزم تحرك رأس المال بشكل مستمر.
* و قد ادت البرمجه العقلانيه الي استخدام اكثر الاساليب تطوراً و فاعليه في مجالات المعلومات و النقل و التخمين التجاري. و قد كان نتيجه هذا النظام تطور العلم و التكنولوجيا بشكل منتظم بدل مجرد الهوايه في البحث فيهما، لان العلم و التكنولوجيا يلعبان دوراً مؤثراً و محورياً في تفعيل و تنشيط النظام الرأسمالي. و بشكل طبيعي يتجه العلماء الي البحث في مجالات تتوافر فيها الارضيه و الامكانيات اللازمه للبحث.
باء. و في مجال السياسه. ظهر نظام الديمقراطيه الليبراليه، و وجود «التمثيل» 2 دوراً بارزاً. و استندت المشروعيه علي العقد الاجتماعي، فيما اصبحت «حريه التعبير» فـ«التسامح» عقائد ضروريه. لكن حدود هذا الامر هو «الامن» فقط، فحتي مراعاه «العفه العامه» 3 هي بلحاظ ان عدم مراعاتها يؤدي الي تزلزل و فقدان الامن. كما ان حريه النشاط الحزبي و وجود برلمان و امثال ذلك من نتائج العقل الليبرالي في مجال السياسه. فالشعور بامكانيه الصعود الي السلطه بدون استخدام للقوه او النزول من عرشها بغير عنف، جميعه من النتائج الضروريه للعقل الليبرالي.
جيم: و من نتائج العقل الليبرالي في الحيه الفرديه، التحلل و الفساد و فقدان الاسره لأهميتها و استحداث اساليب مختلفه للتبرج و العري و .. الخ، حيث نشاهد فيها القبول بعقلانيه «عباده اللذه» رسمياً.
و الحضاره الغربيه المعاصره التي تتخذ من اوروبا و اميركا مقراً اساسياً لها، هي حصيله للعقلانيه الليبراليه، و يمكن بيان جميع خصوصياتها علي اساس ذلك.
و من جانب آخر، لم تعلن العقلانيه الليبراليه او تفرض بواسطه مجموعه من الافراد، بل عبثت و نشرت مبانيها و اسسها النظريه من قبل فلاسفه و علماء و كتاب علي مدي اربعه قرون، فانتشرت بالتدريج بين الناس حتي اصبحت «فضاءً عقلانياً» مقبولاً لدي الجميع، فسيطرت و امسكت بزمام الامور في كل من اوروبا و كندا و بعض الدول الاخري.
و قد شهدنا في القرن العشرين ايضا ظهور عقلانيه اخري، هي «العقلانيه الماديه الديالكتيكيه» او «العقلانيه الشيوعيه» و التي ظهرت علي الناس، فلم تمد جذورها بعمق و سقطت آخر القرن.
اي انها فقدت القبول العالم فانهارت بناها السياسيه و الاقتصاديه و الثقافيه. بينما للعقلانيه الليبراليه جذور عميقه في فكر الغربيين، و قد نمت و انتشرت بينهم بالتدريج و بشكل اكثر طبيعي. و هذا لا يعني بطبيعه الحال انها غير مضمحله او منقرضه في يوم من الايام.
النقطه الاخري، هي الانتقال الي «ما بعد الحداثه» و الذي يمكن فهمه بشكل افضل ايضاً بمساعده مفهوم العقلانيه: منذ عقدين و العلماء التقدميون (الطليعيون) في الغرب يشككون في مباني العقلانيه الحديثه، و يتجهون نحو عقلانيه جديده .. و من الطبيعي ان نتصور ظهور حضاره اخري فيما لو سادت هذه العقلانيه الجديده في جميع تلك الدول. و يمكن لحضاره «ما بعد الحداثه» هذه ان تقام علي انقاض الحضاره الحديثه، او انه ولد من صميمها دون المرور ببرنامج الاضمحالال. و انا شخصياً اتوقع الشقّ الثاني.
و عقلانيه ما بعد الحداثه لا تزال في مراحلها الاوليه، لكنها اجتازت فتره تكوين نفسها من الزاويتين النظريه و القبول العلم، معاً.
لاشراقه الجديده
سادساً. في النصف الثاني من القرن العشرين، شهدنا ظهور عقلانيه اخري في العالم الاسلامي. و قد وجدت المراحل الاولي لهذه العقلانيه قبولاً عاما في ايران. بينما خلقت تياراً عظيما استطاع ان يقيم نظاما حكوميا معنياً (الحكومه الاسلاميه)، فيما تسري امواجه بقوه الي سائر الدولل الاسلاميه. و طبعا لازلنا في المراحل الاوليه لتكوين هذه العقلانيه نظرياً و ايضاً في نشر القبول العالم بها علي مستوي العالم الاسلامي. فلو طوت هذه العقلانيه مسيرتها التكامليه. فانها ستقدم «حضاره جديده» الي العالم، و استطيع القول ان هذه الحضاره اقوي في انتسابها للاسلام مما عرف تاريخياً باسم الحضاره الاسلاميه. لان تلك الحضاره اتخذت منحاً آخر و هي لا تزال في بدايه طريقها، بعد وفاه الرسول (ص) و السؤال الاساسي الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكننا اعتبار ما ظهر من سياسه و فلسفه و معارف اخري في العصر العباسي او علي يد السلاطين الايرانيين ـ مثلا ـ عقلانيه اسلاميه بنفس ما جاء بها الرسول الاكرم (ص)؟ فلو قلنا بوجود مسافه بينها و بين فضاء العقلانيه الاسلاميه، ففي هذه الحاله يمكننا توقع بزوغ نور حضاره جديده، تقدم نفسها خالصه الي البشريه!
و هو امر صعب مستعصب يحتاج من الناحيه النظريه الي مساعي العلماء المسلمين الحقيقيين في تقديم المباني النظريه اللازمه و من ثم تنقد و تستصلح بالتدريج الي جانب قبولها العام. و من الناحيه التاريخيه، نواجه مسأله اكثر اهميه و هي اننا نعيش عصراً تسعي فيه العقلانيه الليبراليه الي السيطره علي العالم برمته.
و لذلك نجد الحضاره الغربيه تهاجم الفكر البشري بكل الوسائل و الامكانيات التي تمتلكها، و هي وسائل و امكانيات كبيره و واسعه و قويه. فلا يتعرض الاطفال فقط منذ اللحظه التي يولدون فيها الي امواج هذا الهجوم، بل و من خلال الاكتشافات الجديده في علم الجينات يحاولون الامتداد في التأثير عليهم الي ما قبل انعقاد النطف!
و لكن هل يمكن للانسان ان يتحول الي اذن صاغيه تستمع لما يقوله الآخر؟ و هل سيعطي الانسان فرصه ليتعرف فيها علي عقلانيه اخري؟ فعلي طلائع العقلانيه الاسلاميه شق طريقهم بين الجيل المعاصر علي اساس هذه الخصوصيات. و لو لم نشهد النجاحات التي حصلت في السنين الاخيره نعلن ان الامر انتهي و لا فائده من السعي. لكن المعجزه العظيمه حدثت في (بهمن ـ شباط) 1979 لقد مزّقت انوار الحقيقه استار الظلام الغربي العاتيه و تجاوزتها. و يجب ان لا نعتبر الحضاره الاسلاميه مسأله خاصه بالعالم الاسلامي، بل هي للغرب ايضاً، هديه لعصر ما بعد الحداثه!
…………………………..
الهوامش
[1]- انظر: محمد جواد لاريجاني، الحكومه: بحث في المشروعيه و الفاعليه، طهران: نشر مؤسسه سروش، 1374 هـ ش (1995 م)، الفصل الثاني (بالفارسيه).
[2]- Representation
[3]- Public Mor
iThere are no comments
Add yours