في المقابل تستحق المقاومة العراقية البطولية وقفة تأمل جدية. و عوض تحويلها الى “أسطورة” (كما يحدث الان في الكثير من الاوساط العربية) من الأفضل الانتباه الى أنها حقيقة واقعية و نتيجة ضرورية لمجموعة من العوامل الموضوعية. إن أفضل تحية لمقاومي الفلوجة التأكيد على انتمائهم للعالم المادي و ليس للعالم الاسطوري. و الايمان بضرورة نصرهم يكمن تحديدا في بشريتهم و ليس في الوهيتهم. إن قوة الايمان الديني كدافع معنوي رئيسي لدى مقاومي العراق يحقق ادميتهم و لا يزيلها.
المشهدية و الرمزية لدى المحافظين الجدد: كراوثمر في سموكينغ يتحدث عن الفلوجة
لا تتماهى البراعة الفكرية دوما مع الحضور الكارزمي. و هكذا فإن أغلب المفكرين المميزين لا يتمتعون ضرورة بتأثير لافت عند احتكاكهم المباشر مع الجمهور. و تلك معضلة أبدية: فأغلب المعبرين المؤثرين سياسيا عن أفكار و استراتيجيات ضخمة ليسوا المسؤولين الاساسيين عن صياغتها. هناك, في ذلك الفراغ الكارزمي لأغلب المنظرين, ينشأ الزعماء الكارزميون. و لكن في الحالات القليلة التي يمكن لمفكر مميز أن يصبح فيها قأئدا سياسيا كبيرا فإننا بصدد حالة تتحول بسرعة على المستوى الذهني الى ظاهرة أسطورية. تروتسكي “النبي” بدون سلاح مثال شيق. في المقابل هناك الظاهرة السمجة المتمثلة في رغبة سياسي كبير في التحول الى مفكر كبير. لن نعدد الأمثلة في هذه الحالة.
لا يوجد في أوساط المحافظين الجدد مفكرون كارزميون. فشخص مؤثر من الناحية الفكرية مثل ويليام كريستول ممل و قليل البديهة على الركح الاعلامي و من ثمة السياسي. في المقابل رامسفيلد و الذي لا توجد له أبحاث تذكر حيث ترعرع في الاوساط البيروقراطية في واشنطن يملك التأثير الاعلامي الأكبر و هو الشخصية الكارزمية الرئيسية لتيار المحافظين الجدد. غير أن هناك شخصية مميزة في هذا الخليط: تشارلز كراوثمر.
أول المنظرين الفعليين للبرنامج السياسي الراهن للمحافظين الجدد كان تشارلز كراوثمر. تم ذلك في سبتمبر من سنة 1990 في خضم التحضيرات للحرب على العراق و قبيل السقوط المدوي للمعسكر السوفياتي (أنظر: الطاهر الأسود “نشأة و تطور الاستراتيجيا الاستباقية” تونس نيوز 11 نوفمبر 2003). يتمتع كراوثمر بمواهب تنظيرية مميزة في فريق المحافظين الجدد مما جعله يتمتع باحترام دائم من قبل أقطابه و بكره بالغ من قبل المعادين له. عدى ذلك فلكراوثمر طقوس خاصة لحضوره الاعلامي: فقد حول الشلل النصفي الذي يعاني منه الى أحد الوسائل المشهدية أثناء تبليغه لرؤاه. الأهم من كرسيه المتحرك (و الفاخر بالمناسبة) يحرص كراوثمر على الظهور إعلاميا (وخاصة من خلال قناة فوكس نيوز المتعصبة للمحافظين الجدد) مرتديا… سموكينغ.
طبعا يدرك أغلب محترفو السياسة الوجود الموضوعي للكاريزما و يدركون على الأخص أنها تتحدد بعناصر مشهدية (Visual). و اللباس أحد هذه العناصر. و هكذا اختار كراوثمر البحث عن كارزمية خاصة من خلال الظهور بمظهر من يعالج مسائل مصيرية كأنه ذاهب الى سهرة.
ظهر كراوثمر من برجه العاجي و على ركح الفوكس نيوز خلال الأسابيع الاخيرة و بطاقم السموكينغ بكامله ليقول الاتي: لقد أخطأ الجيش الامريكي باختياره طريق التفاوض مع إرهابيي الفلوجة؛ من الضرورة تحويل الفلوجة الى مثال للاخرين لكي يعتبروا؛ استراتيجيا الجيش الامريكي الملحة الان يجب ان تكون تدجين الفلوجة؛ من الحكمة عدم ضرب المقدسات الدينية في النجف لأنها ستفجر ثورة شعبية و ستخسر الولايات المتحدة حليفا رئيسيا أي الشيعة؛ يجب محاصرة الصدر في النجف و استئصال جيش المهدي من بقية المدن؛ …. النصر سيكون حليف الولايات المتحدة.
المشكل الاساسي ليس السموكينغ في ذاته. المشكل الأساسي هو أن حكمة استراتيجية عريقة تقول: الحرب ليست حفلة عشاء.
حول الوضع العسكري الراهن: معركة الاحتلال الثانية
من الواضح الان أن المعطيات الدنيا المتوفرة حول الصراع العسكري في العراق تشير الى تحول نوعي أتى بعد تراكم طويل للمجهود القتالي للمقاومة العراقية كان قد مر أساسا بتحولات مسترسلة, بطيئة و لكن عميقة. و قد أشرت في سلسلة من المقالات في شهر نوفمبر 2003 في تونسنيوز الى تحول انذاك في الوضع العسكري يتمثل بالأساس في الخصائص التالية:
أولا, نضج المقاومة العراقية و نجاحها في تحويل نفسها من مجموعات صغيرة معزولة في المزارع المحيطة ببعض المراكز الحضرية (و هو الوضع الذي تلى سقوط بغداد و تشرذم الجيش العراقي) الى مجموعات صغيرة منبثة داخل سكان المراكز الحضرية. و بعكس الحروب الشعبية التي تنشأ في مجالات ذات طابع ريفي أساسا (الصين و الفيتنام خصوصا, و بشكل ما حرب جنوب لبنان التي خاضتها المقاومة اللبنانية خلال التسعينات) فإن شرط الحروب الشعبية في مجالات ذات طابع حضري أساسا (و ينطبق ذلك على العراق الراهن و الذي هو مختلف عن عراق ثورة العشرين مما ينعكس طبعا على الطبيعة العسكرية للانتفاضتين) لا تتحقق إلا بتمركزها في المدن. و في الحالتين (اي في مجالات ذات هيمنة ريفية او حضرية) على المقاومة الشعبية أن توجد أين يوجد أغلب السكان. أي أن السمك يجب أن يوجد حيث يوجد الماء, و طبعا كلما كانت المياه أعمق كلما كانت ظروف المقاومة اللوجستية و السياسية أفضل. و بسرعة نلاحظ هنا أن المقارنات الكثيرة التي برزت في الأشهر الأخيرة بين المقاومة الفلسطينية و العراقية, لا ترجع أساسا للعلاقات الخاصة بين الولايات المتحدة و اسرائيل كما لا ترجع لما يُروج حول “تعلم” الجيش الامريكي أساليب الجيش الاسرائيلي, بل تعود رئيسيا الى مسألة أهم و هي بالتحديد تشابه أسلوب عمل و تحرك المقاومين في القطرين و خاصة نزعتهم للتمركز في المجال الحضري و الانطلاق منه لمهاجمة القوات المحتلة. فمبادرة المقاومة الشعبية هي التي تسير و توجه عادة رد فعل قوات الاحتلال, و هي أحد أهم خصائص حرب العصابات الناجحة و التي تفرض على الجيش النظامي توقيت و مكان و أسلوب المعركة و ليس العكس.
ثانيا, ببطء و لكن بخطوات لا رجعة فيها, أصبحت وتيرة الهجمات أقوى بحلول الخريف الماضي, الى الحد الذي أصبحت فيه أحياء كاملة من كثير من المراكز الحضرية, و خاصة خلال الليل تحت سيطرة المقاومة, و شمل ذلك حتى أحياء في بغداد. و قد كانت أحد أهم موشرات هذا التحول هو إلتجاء القوات الامريكية لأول مرة منذ الإعلان عن “إنتهاء العمليات القتالية الرئيسية” لاستعمال الاسلحة البعيدة المدى مثل الصواريخ إضافة الى استعمال المدفعية و التزايد الملحوظ لاستعمال المروحيات القتالية (تم ذلك في محيط بغداد و تكريت و الموصل). و جميع هذه العناصر أشارت انذاك الى توجه القوات الامريكية الى تجنب الاشتباك الميداني المباشر مع المقاومة الشعبية المتصاعدة و التي واصلت أسلوب اضرب و اهرب و هو ما قضم بشكل تدريجي من مجال و حرية حركة القوات الامريكية.
لقد تم كل ذلك و المقاومة العراقية غير موحدة تماما و لا تملك قيادة سياسية واحدة. و هو ما يعتبر إنجازا كبيرا خاصة في ظل الانهيار الحاصل في أفريل 2003.
و على أساس الانجازين أعلاه واصلت المقاومة العراقية مسيرتها للارتقاء الى مستوى أعلى و هو الوضع الراهن. فلقد توصل القادة العسكريون الامريكيون و على صدمة ما حدث في الفلوجة الى حقيقة اساسية, و هي أن توجههم الرئيسي لتجنب المواجهة الميدانية المباشرة مع المقاومة قد جعل الأخيرة تسيطر براحة كبيرة و في وضح النهار على مراكز حضرية مهمة مثل الفلوجة. و أكثر من ذلك أصبح من الواضح أن المجموعات العراقية المسلحة التي من المفترض أن تساعد القوات الامريكية (“الشرطة العراقية”, “قوات الدفاع المدني”…الخ) هي إما مخترقة تماما لا بل يشارك بعض أفرادها في عمليات المقاومة أو هي بكل بساطة غير قادرة على أداء المهمة المعلقة عليها امريكيا. و لأسباب سنحاول مناقشتها أسفله (حول الدور الشيعي الراهن) تقاطعت الصدمة الامريكية في الفلوجة و قرارها بمواجهة المقاومة, مع ولادة أول مقاومة شيعية مسلحة ذات تأثير في العراق. و هكذا و بشكل سريع نشأ وضع جديد, كان في الواقع حصيلة تراكمات طويلة و لكن أيضا (وخاصة على الجبهة الشيعية) تحولات جديدة و طارئة. و يمكن تلخيص الوضع العسكري الحالي فيما يلي:
— تكرس وضع فقدان الاحتلال للسيطرة الكلية على أجزاء هامة و كبيرة من المراكز الحضرية العراقية من المحافظات الجنوبية الى مراكز محافظة الانبار. بينما حافظت مراكز المحافظات الشمالية (أساسا الموصل و كركوك) على وتيرة الأشهر الاخيرة أي تكتيك اضرب و اهرب خاصة خلال الليل. و بشكل عام و بعد حوالي العام من إحتلال العراق من الواضح (و كما أشار الى ذلك محللون امريكيون) ان على الجيش الامريكي و حلفاءه إعادة إحتلال العراق من جديد, و الذي يتجسد عمليا في تمركز قوات الاحتلال خارج المدن او على أطرافها في مهمة حصار و إعادة السيطرة عليها. و أكثر من ذلك فالمقاومة العراقية أصبحت تتحرك بحرية كبيرة و بشكل مكشوف, حتى أنها تتحكم بطرقات رئيسية في العراق (مثل طريق بغداد-عمان) و تقيم نقاط تفتيشها الخاصة. و هكذا فإن عنصرا اساسيا من مقومات اي هجوم أو حصار عسكري أمريكي أي ضمانة سلامة الامدادات قد تم الالتفاف عليه من قبل المقاومة. و مرة أخرى التجأت القيادة العسكرية الامريكي الى أجثر أسلحتها فتكا (الصواريخ المحمولة جوا و برا) غير أنها غير ناجعة في حالة الانتشار الكبير المنظم و المختلط بالمدنيين لعناصر المقاومة, كما أنه ليس من مصلحة القوات الجوية الامريكية تدمير الطرقات حيث سيعقد ذلك مهمة الامدادات. و هجذا فإن أهم أسلحة الجيش الامريكي (التفوق الجوي) لم يعد له قيمة لمواجهة هذا الوضع.
— المقاومة في الفلوجة نجحت في تحقيق تفوق سياسي من خلال سعي القيادة الامريكية للتفاوض أولا ثم لطلب وقف لإطلاق النار. كانت معركة الفلوجة نموذجا أساسيا ستعمل على أساسه المقاومة في بقية أنحاء العراق. حيث أن المرحلة القادمة ستكون أساسا مرحلة المعارك المفتوحة في وضح النهار في شوارع المناطق السكانية مقابل التخلي تدريجيا عن أسلوب اضرب و اهرب. و قد بدأ نقل هذا الاسلوب الجديد من المواجهات المفتوحة الى بغداد و خاصة الى منطقة الأعظمية و مدينة الصدر. و في أحد البيانات الاخيرة لأحد فصائل المقاومة تم التعرض بشكل علني الى النية في نقل أسلوب معركة الفلوجة الى داخل بغداد. و بالرغم أن هذا البيان لا يمثل بالضرورة مسار تطور الوضع في الايام القادمة فإنه يعكس وعيا استراتيجيا عاليا للوضع العسكري من قبل عناصر المقاومة. إن المقاومة العراقية بصدد التعلم من معاركها و لديها الكثير مما ستستفيد منه في حين لا يملك العدو الكثير لتعلمه: فنقطة القوة الاساسية للقوات الامريكية ليست على مستوى المواجهات الميدانية في مناطق سكانية, بل نقطة قوتها الاساسية هي في سلاحها التدميري الهائل خاصة من الجو. و الحال أنها لن تدمر بذلك المقاتلين و لكن عائلاتهم تحت أنظار وسائل الاعلام العالمية. فالانجاز الامريكي المتمثل في تحويل المعركة الى مشهد تلفزي دعائي يسير في الاتجاه المعاكس الان. و هكذا مرة أخرى فإن القوة المركزية للجيش الامريكي (التفوق الجوي) مضرة أكثر منها مفيدة في هذه الظروف العسكرية. و حين يتعلق الامر بالمواجهات الميدانية المباشرة في شوارع اهلة بالسكان بين مقاتلين يدافعون في كثير من الاحيان عن عائلاتهم و جنود امريكيين ينتظرون بفارغ الصبر الرجوع الى بلدهم فإن النتيجة ستكون محسومة لصالح المقاومة.
— ليس من الواضح في المدن الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية و خاصة البصرة و الناصرية و كربلاء و الكوت و العمارة و السماوة طبيعة الوضع بالتحديد في اللحظة الراهنة.[1] و بالرغم من عدم وضوح الصورة بدقة و بالرغم من عدم وقوعها تحت سيطرة واضحة للمقاومة فإنها لا تخضع أيضا للإحتلال.
— النجف: تحت الحصار الامريكي و التهديدات بالاقتحام في نفس الوقت الذي تعمل فيه الادارة الامريكية بمحاصرة الصدر سياسيا من خلال تكثيف الوساطات و بالتالي العمل على عزله شيعيا. غير أن المدينة و حتى أطرافها تحت سيطرة جيش المهدي, بل أن الحصار الامريكي لا يبدو قادرا على إغلاق منافذ المدينة حيث أن العديد من المقاتلين الاتين من بقية مدن العراق و خاصة من مدينة الصدر ببغداد بصدد الالتحاق بالقوات المرابطة هناك. و سواء في النجف أم في غيرها من المناطق الشيعية فإن جيش المهدي بدى أقوى مما روج له غالبية المحللين الامريكيين, و الاهم من كل ذلك أنه يلقى دعم السكان, و هو ما يعكس تزايدا في شعبية الموقف السياسي لمقتدى الصدر المعادي للإحتلال.
حول مقتدى الصدر و جيش المهدي
تنافس في الايام السابقة محللون امريكيون كثيرون غارقون في خليط من الكذب و صدمة الاحداث في تبرير المأزق الامريكي و خاصة في علاقة بالقراءة الروتينية للمشهد الشيعي و التي سيطرت على المشهد الاعلامي الامريكي خلال السنة الاخيرة. و قد لعبت هذه القراءة تقريبا دورا تخديريا لأغلب المحللين هنا جعلهم يفهمون بصعوبة “كيف يستطيع الصدر تجميع قطاعات واسعة من الشيعة خلفه” في الوقت الذي كانوا خلقوا فيه بأنفسهم أوهام كثيرة مثل “هامشية جيش المهدي و محدودية الشعبية السياسية للصدر” و “ثقة الشيعة بالولايات المتحدة و تعاطفهم معها”. طبعا أخذ هؤلاء المحللون وقتا قبل الإعتراف (و مثلما يفعل أي صحفيين في بلد من العالم الثالث) بالتزامن مع أوساط داخل الادارة الامريكية بأن المواجهات المسلحة في المدن ذات الغالبية الشيعية بعد نداء الصدر للمقاومة لا تتعلق ب”الفين على أقصى تقدير” من عناصر جيش المهدي, بل بانخراط غالبية السكان الشيعة خلف الزعيم الشاب. و لمواجهة هذا الوضع تضطرب التحاليل لتصل الى حد البلاهة و الحديث عن “ضرورة تدمير هذا الخميني الجديد في المهد” و “تدمير ميليشيات الملا” و طبعا لا أحد من هؤلاء المأجورين يشير في جوقة البروباغندا التي يقودها البنتاغون الى أن “التدمير” في هذه الحالة يعني المواجهة الشاملة مع ملايين السكان. غير أن زيارة مايرز الاخيرة للعراق و إشرافه بشكل مباشر على سير الاحداث و هو ما تزامن مع الطلب الامريكي من ايران للتدخل في العراق (في الوقت الذي لمح فيه المقربون من الادارة عند بداية المواجهات ان تدخل ايراني كانت وراء اندلاع الاحداث !!!) الى استيعاب الولايات المتحدة لحقيقة انقلاب الوضع الميداني لغير صالحها.
إن هناك أمر اساسي يجب توضيحه الان: شعبية الصدر داخل الشيعة و علاقة التيار الصدري بالسيستاني.
يتميز تيار الصدر عن بقية الأطراف الشيعية بما فيهم ايات الحوزة و السيسيتاني بأنه التيار الوحيد الذي استطاع التنظم و التعبير السياسي عن قطاعات واسعة من الشيعة العراقيين خلال السنوات الأخيرة من حكم صدام حسين. و من المعروف أن قرار الصدر الاب بإقامة صلاة الجمعة كانت اداة سياسية أساسية في تأطير كثير من الأجيال الجديدة لشيعة العراق. فهؤلاء لا يعرفون عمليا الأحزاب القديمة و التي ذابت في الذات الايرانية و تم الإجهاز عليها في ظروف الحرب مع ايران حين مال أغلب شيعة العراق ضد ايران. و عمليا فعند سقوط النظام العراقي بقدوم الاحتلال كان الطرف السياسي الرئيسي المعبر عن شيعة العراق التيار الصدري. بالاضافة الى ذلك فإن مقتدى الصدر الشخص الاهم المتبقي من عائلة الشخصيتين الدينيتين الأكثر بروزا سياسيا لدى شيعة العراق (عمه محمد باقر الصدر و أبيه محمد صادق الصدر) و أهمية ذلك أن التوريث العائلي للإمامة أمر معتاد. و هذه نقاط كثيرا ما يتجاهلها بعض المحللين الذين يرغبون أساسا في التركيز على “عزلة” هذا التيار.
إن العلاقة بين التيار الصدري و الحوزة و خصوصا السيستاني (أو بين “الحوزة الناطقة” و تلك “الصامتة”) معقدة بشكل بالغ, و هي بالتأكيد ليست كما يريد أن يصورها البعض من أنها علاقة تسير في اتجاه واحد من التنافر و التباغض. فلم يبن السيستاني رصيده قبل قدوم الاحتلال على اساس سياسي, بل بالعكس فرصيده يرتكز اساسا على التركيز على سير الحياة العقدية اليومية و ضمان الحد الادنى من ارتباط الشيعة بمؤسسة الحوزة سواء من خلال تلقي الدعم المالي او من خلال توفير مؤسسة للفتوى في الامور التي لا تمس القضايا السياسية. و هكذا فبالرغم من عدم موافقة السيستاني على إقامة صلاة الجمعة فإن تنشيط التيار الصدري للقواعد الشيعية كان يصب بالضرورة في مصلحة الحوزة بشكل عام (بناطقيها و صامتيها) من خلال توسيع هيبتها في الاوساط الشيعية المتدينة أكثر فأكثر. و عندما قرر السيستاني التدخل في الامور السياسية في الاشهر الاخيرة فإنه قام بذلك باحتشام كبير (و لنقل بتخفي حتى من الناحية الفيزيائية حيث لا يستقبل السيستاني صحفيين مثلا). و عمليا (و الاحداث الاخيرة تؤكد ذلك) حافظ التيار الصدري على الصدارة في التعبير السياسي عن غالبية الشيعة في حين بقيت هيبة السيستاني نافذة إلا في مجال التعبير عن الامور القدسية العامة: حيث ما يستطيع ان يقوم به هو إصدار دعوات عامة للتهدئة تقف في النهاية مع موقف الصدريين بما أنها تحمل الاحتلال مسؤولية ما يجري كما أنه يساهم في تعبئة الشيعة مع الصدر من خلال تحذيره القوات الامريكية من اقتحام النجف. و في النهاية لا يستطيع السيستاني تكوين جبهة سياسية مقابلة للصدريين لأنه لا يملك و لا ينوي امتلاك رصيد سياسي. و لا يعني كل ذلك أن هناك تقاسما واعيا للأدوار (سنترك هذا الاستنتاج للمغرمين بنظرية المؤامرة و خاصة لأولائك الذين يبالغون بأهمية التقية في تفسير أي موقف شيعي) بل يعني ببساطة رؤيتين مختلفين لدور المؤسسة الدينية, لكنهما يدافعان عن بعضهما البعض في وقت الازمات و خاصة في ظل ممارسات العقاب الجماعي للقوات الامريكية.
الديمقراطية و الحرب
تتمثل أحد مفاصل الخطاب التبريري للمحافظين الجدد في ما يلي: “ما دام من البديهي أن الولايات المتحدة ستقيم ديمقراطية في العراق فإن الأعمال المسلحة تضر بهذا الهدف الأعلى. و طبعا فلأن الالة العسكرية الامريكية لا تقهر فإن أعمال المقاومة لن تؤدي إلا الى تأخير تحقيق الديمقراطية و ليس إلغائها… و على سبيل المثال فإن الصدر يريد إقامة جمهورية إسلامية غير ديمقراطية على الشاكلة الايرانية… غير أن إيران فشلت و سيفشل الصدر.”
و طبعا لا يقدم مثل هذا العرض المتناسق سوى أقطاب المحافظين الجدد, و تحديدا أشخاص مثل ويليام كريستول و روبرت كاغان. أما النسخ العربية من طرح المحافظين الجدد فلا تقوى حتى على ذلك. يكفي إلقاء نظرة على الكتابات المتوترة ل”صحفيين” مثل: عبد الرحمان الراشد و أحمد الربعي وعثمان العمير و أمير طاهري و فؤاد عجمي و مأمون فندي… إلخ.
و لهذا لن نحفل بكتابات الاخيرين. بل فقط ب”المؤصلين” من المحافظين الجدد.
يعرف هؤلاء أنه لا يمكن التهرب من تعريف الوجود الامريكي في العراق على أنه احتلال. فذلك يعني بداية خللا أساسيا في التبرير لفكرة أن الوجود العسكري الأمريكي بالذات في العراق يخدم بناء الديمقراطية: أي حكم الشعب العراقي لنفسه. و لذلك يتهرب المحافظون الجدد بسرعة الى الحديث عن الاستثناء الأمريكي. و يتم تمرير مقولة الاستثناء من خلال الرجوع الى أمثلة محددة: الوجود العسكري الامريكي في ألمانيا و اليابان إثر الحرب الثانية. و هكذا يسترسلون في مقارنات سوريالية مثل تلك التي يجريها حتى الاعلاميون الأكثر جهلا بالمنطقة: غزو صدام حسين للكويت و غزو هتلر لبولونيا.
و طبعا فقد ساهمت الولايات المتحدة في بناء الديمقراطية في ألمانيا و اليابان. و على سبيل المثال بالرغم من الوجود العسكري الامريكي في ألمانيا فإن لجى الأخيرة إستقلالا حقيقيا تجاه المواقف الأمريكية. و ليس الموقف الألماني من الحرب الامريكية الأخيرة على العراق إلا اخر الأمثلة على ذلك. و بالتالي فالسيادة الألمانية و من ثمة المصلحة الألمانية العليا عامل رئيسي في قرارات الحكومة الألمانية المنتخبة ديمقراطيا.
غير أن الواقع الموضوعي يشير الان أن هذه المقارنة غير ممكنة. المؤشر الأساسي على ذلك هو الواقع البين لمقاومة قوية و مرتبطة بقطاعات واسعة من الشعب العراقي تتجوز المثلث السني و المستطيل الشيعي. و فقط الحالمون و المتمسكون بالأوهام هم الذين لا يزالون متمسكين بقيادة منظمة القاعدة و المدعو أبو مصعب الزرقاوي للمقاومة في العراق.
لم يحصل ذلك لا في ألمانيا و لا في اليابان. طبعا لم يراجع أي من المحافظين الجدد جدول مقارناتهم على ضوء هذه التطورات الميدانية. فمقابل القبول الشعبي الياباني و الألماني بترسيخ حكم ديمقراطي حتى في ظل الاحتلال العسكري الأمريكي, نجد مقاومة عنيدة في العراق لهذا الوجود. فهل يعني ذلك غباء العراقيين مقابل حكمة الألمان ؟ هل يعني ذلك تعبيرا عراقيا في شكله البدائي عن عقلية “الاستبداد الشرقي” و الرفض المبدئي للديمقراطية؟
أم يجب علينا التحلي بجدية أكبر و تجنب أطروحات استشراقية بالية و الاعتراف بأن الواقع أكثر تعقيدا و أن المقارنات المذكورة أعلاه هي تبسيطية بشكل سافر ؟
أتوقع أن المتوترين من المحافظين الجدد و تحت ضغط الأحداث و لهيب المقاومة الذي لا يرحم سيميلون تدريجيا الى الخيار الأول. فالهزيمة العسكرية الامريكية بالنسبة لهم ستكون هزيمة للمشروع الديمقراطي في العراق, و بالتالي فإن اي حرب شعبية عراقية إنما تهدف لإقامة نظام استبدادي. فالعراقيون استبداديون بالفطرة. و يستحقون اللطم على ذلك.
غير أن ذلك رأي متعصب و يكشف كما نعرف الانو بعد التجربة الاستعمارية الاوروبية الطويلة عن تحليل عنصري بالأساس لمسألة الطموحات الديمقراطية. و لهذا من الموضوعية الانتباه للخيار الثاني: أن الوضع أكثر تعقيدا مما يريد المحافظون الجدد تصوره.
كان الهدف الأساسي من وراء الوجود العسكري الأمريكي في في ألمانيا و اليابان مواجهة المعسكر السوفياتي. طبعا كان للمواجهة أسباب عديدة, لكن من المؤكد أن حكما سوفياتيا كان يستبعد بالأساس حكما ديمقراطيا (لأنها “ديمقراطية بورجوازية” لا غير بالنسبة للحركة السيوعية انذاك) و هو ما تحقق فعلا حيث استفادت الأحزاب الشيوعية من المناخ الديمقراطي لما بعد الحرب في بلدان (خاصة ألمانيا و ايطاليا و فرنسا و اليابان) سيطرت عليها الفاشية لفترة طويلة. و هكذا فبالرغم من أجواء الصراع الاستراتيجي الامريكي السوفياتي فإن بناء مجتمع ديمقراطي كان نقطة مشتركة للجميع, بما في ذلك الشيوعيين الغربيين. إن الإستثناء الامريكي في هذه الحالة يرجع بالأساس الى حالة إستثنائية أتت إثر حرب دولية طويلة و منهكة لم تتناقض إثرها المصالح الوطنية مع وجود عسكري أمريكي لم يكن يستهدف سياسيا الوضع الداخلي في الأقطار الأوروبية على الأقل على المستوى العلني. و هكذا نشأت ديمقراطيات حقيقية: ذات سيادة وطنية من جهة و تعتمد حكما ديمقراطيا في تسيير السلطة على المستوى الداخلي.
إن الوضع في العراق مخالف لذلك الوضع الإستثنائي. إن الاستراتيجيا الاستباقية للولايات المتحدة هي التعبير المعاصر عن الحرب الامبراطورية. و بمعنى اخر يصعب الفصل بين الطبيعة العدوانية للحروب الهتلرية و استراتيجيا المحافظين الجدد. إن الشعوب لا تنخدع بسهولة بمجرد نشر رزمة من الشعارات بالرغم من أن ذلك لا يعني دائما أنها ستقوم بالضرورة بشيء عملي محدد. فالشعب العراقي يعرف جيدا ماذا حصل. كيف كان العراق يتعرض لسنوات طويلة لحصار أمريكي خانق بالرغم من كل التنازلات التي قدمها النظام العراقي. كيف كان الطيران الأمريكي يقصف كما بدى له أية مواقع يريد على مدى 13 سنة. الشعب العراقي يعرف من أين أتت القنابل العنقودية و غيرها من الوسائل التدميرية للجيش الأمريكي خلال حرب 1991 و حرب 2003. الشعب العراقي يعرف كيف كان الجنود الأمريكيون يطلقون النار بعشوائية على المتظاهرين و المترجلين و راكبي السيارات بعد “تحريرهم” من نظام صدام حسين. إن المقاومة التي تجري الان تعبير دقيق عن حدة الرفض العراقي للاحتلال الامريكي, فبالرغم من استمرار الوضع الاقتصادي الخانق بل تأزمه (على الرغم مما يروجه البعض عن “تحسن” الوضع) فقد فقد العراقيون صبرهم الى حد باتت المخاطرة بالقيام بحرب مدمرة و شرسة مسألة ضرورية.
الأكثر من ذلك ليس العراقيون كما ترغب الادارة الامريكية معزولين عما يجري في محيطهم. فغالبية العراقيين لا زالت تقيم العداء لإسرائيل و لا زالت ترى في الحروب الأمريكية تعبيرا عن خطة تشمل المنطقة العربية. أفضل
و أحدث تعبير عن ذلك الغضب الذي اجتاح العراقيين (شيعة و سنة) عند اغتيال اسرائيل للشيخ ياسين. فصورة الولايات المتحدة في بداية القرن الحادي و العشرين محتلة العراق ليست بالتأكيد صورة الولايات المتحدة إثر الحرب العالمية الثانية محتلة ألمانيا. فللولايات المتحدة تاريخ في المنطقة و من ذلك التاريخ يستمد جمهور صورتها و ليس من أوهامهم.
إن الولايات المتحدة أعلنت بوضوح أنها لن تسلم السيادة فعليا للعراقيين في 30 جوان كما أنها لا تخفي نواياها في الابقاء على وجودها العسكري في العراق مهما كان موقف أية حكومة عراقية, و طبعا يتم تبرير ذلك بعدم “استعداد” العراقيين لحماية أنفسهم, و يجب أن نتحلى بكثير من الغباء حتى لا نتعرف في ذلك التبرير على مفهوم “الحماية” البالي للنظام الاستعماري الأوروبي. لقد فهم العراقيون كل هذه المشاريع و النوايا, و تصاعد المقاومة هو استفتاء بأصوات مسلحة و بالأعيرة النارية ضد هذه المشاريع.
ليست الديمقراطية أشكالا إجرائية فحسب. إن الاقتراع الحر و تشكيل برلمان تعددي و التداول على السلطة هي الأشكال المعاصرة لتحقيق مبدأ رئيسي: سيادة شعب ما في تسيير سلطته السياسية. و الحرب كما يقول شيخ الاستراتيجيا الجنرال كلاوسفيتز هي السياسة بأشكال أخرى. إن المقاومة الشعبية المسلحة للاحتلال هي ممارسة تأسيسية ضرورية لأي نظام ديمقراطي في العراق. إن التعبير عن رغبة العراقيين في التحكم بمصيرهم السياسي بكل الاشكال المتاحة بما في ذلك الشكل المسلح هو بالأساس ممارسة ديمقراطية. إن تبرير معاداة المقاومة بأنها ستفضي لحكم دكتاتوري هو تجني على السير الطبيعي للأحداث. فحتى لو أفضت الى حكم دكتاتوري فإن هناك أغلبية من العراقيين قد قررت أنها لن تقبل بأي ترتيب سياسي تحت الاحتلال.
ليس شكل النظام السياسي هو محل الصراع هنا بل التدخل و العدوان الامريكي على العراقيين. و عبر تصاعد المقاومة (من المثير أن البعض لا يزال يستشهد الى الان باستطلاعات الرأي) يقول أغلب العراقيون أنهم لا يقبلون بتدخل الولايات المتحدة و تنصيبها لمجموعة من الأتباع من نوع الجلبي على أساس أنها حكومة عراقية. إن الديمقراطية العراقية لا يمكن أن تنشأ من دون عراقيين.
و عبر الصراع و التعلم من تجارب الماضي و خاصة بسبب التنوع الاستثنائي في التركيبة العراقية سيفهم العراقيون أن عليهم أن يتفاوضوا على حلول وسطى لتحقيق التعايش و من ثمة عبر التنازلات المتبادلة من هذا الطرف و ذاك سيتجهون تدريجيا نحو ديمقراطية قوية و واقعية. أما الان فقد قرر غالبيتهم التخلص من الاحتلال العسكري. ما سيتكفل بتعزيز وحدتهم هو العناد و الصلف الذين سيتحلى بهما الجيش الامريكي و الادارة الامريكية خلال الاسابيع و الاشهر القادمة.
توجد الكثير من الفوارق بين الوضعين في العراق و الفيتنام. غير أنه إذا لا بد من الاختيار بين الفيتنام و ألمانيا فمن المؤسف أن الوضع الفيتنامي أقرب للواقع. أو كما قال تيد كينيدي: العراق هي فيتنام جورج بوش. غير أنه من المؤمل أن تؤسس المقاومة المسلحة في العراق لنظام ديمقراطي نموذجي, و هكذا ستتحقق نبوءة المحافظين الجدد و لكن على حساب أشلائهم.
[1] في البصرة و بعد سيطرة الاهالي على مركز المدينة يبدو أن الجيش البريطاني استعاد السيطرة على بعض أنحائها, غير أن التوتر باقي على أشده و من المتوقع في أي لحظة ان المواجهة العسكرية الجدية الاولى للبريطانيين في العراق على الابواب. و من المهم التذكير هنا أن البصرة و بالرغم من ارتباطها سياسيا بباقي العراق تبدو حركة المواجهة فيها متميزة حيث قد سبق تفجر الصراع الامريكي مع الصدر, موجة سريعة و قوية من الاحتجاجات على مطالب اجتماعية اساسا من خلال مظاهرات سلمية سريعا ما تحولت الى مواجهات مسلحة. و عموما و قبل انخراط الصدر في المواجهة كانت البصرة في حالة غليان كبير, أبرز بلاهة التحاليل التي تتحدث عن “حكمة” الاحتلال البريطاني و “خبرته” في السيطرة على الاوضاع (تتناسى هذه التحاليل أن الجيش البريطاني الحالي ليس له علاقة لا من حيث الجيل الحالي الذي يقوده و لا من حيث تكوينه السياسي بتقاليد و ثقافة جيش الامبراطورية المنهارة—و الذي خسر ب”خبرته” معركة الاستعمار في كل الاحوال—حيث يعمل الجيش البريطاني الحديث على اساس النموذج الامريكي قلبا و قالبا). أما في الناصرية فإن التراجع الكبير للقوات الايطالية و الذي أدى الى خروجها أولا من المدينة تحت ضربات جيش المهدي قد أدى الى اتفاق اولي مع المقاومة الى بقائها خارج المدينة. غير أنها نكثت بوعودها و خاضت معركة اولى حول الجسر المشهور (و الذي توقفت فيه الحملة الامريكية خلال بداية الحرب على العراق) ثم تقدمت نحو وسط المدينة. و من الواضح في أقل الاحوال أن جزءا من الناصرية بقي تحت سيطرة المقاومين من جيش المهدي و المتعاطفين معه. كما ان المدينة في حالة غليان شديدة خاصة أن القصف الايطالي العشوائي قد طال أحياء سكنية, و هذه المرة فإن الذين يقودون العمل المسلح هم على علاقة سياسيا و عشائريا بغالبية سكان المدينة و الذي طالهم القصف. و بالتالي فإن الناصرية (فلوجة الجنوب) سترهق بشكل كبير اي محاولة للسيطرة الكاملة عليها. من ناحية أخرى فإن كربلاء و هي إحدى مدينتين (الاخرى النجف) تتمتعان بحصانة دينية خاصة لتفجر الوضع العسكري فيهما, قد شهدت مواجهات طاحنة وسط المدينة و في وضح النهار بين المقاومين الشيعة و القوات البولندية, و الذي أدى الى مقتل القائد المحلي لمجموعة الصدر.
iThere are no comments
Add yours