decentralisation-municipalites-tunisie-banque-mondiale-pret-300000000-dollars

بقلم محمد سميح الباجي عكاز

العجز المتواصل في ميزانيّة الدولة وتعاظم المديونيّة وارتداداتها على الموازنات العموميّة ليست سوى جزء من المشكلة، حيث لا تمثّل تلك القروض سوى أداة لفرض الإصلاحات والبرامج المسقطة من هيئات النقد الدوليّة “لتحرير الاقتصاد التونسيّ”.
أمّا الساسة التونسيّون المتعاقبون، فتبدو إستراتيجيتهم واحدة، الإقبال على الاقتراض لتغطية تراجع أداء الاقتصاد المحليّ وتقديم التعهدّات بتطبيق البرامج والإملاءات الخارجيّة دون الرجوع إلى الأسباب الهيكليّة والخيارات الكبرى التي كانت السبب الحقيقيّ لما آلت إليه الأمور اليوم على المستوى الاقتصاديّ.

سياسة القروض المشروطة والبرامج المسقطة هي موضوع هذا المقال الثالث من ملفّ اللامركزيّة الذّي تناولته نواة خلال الفترة الأخيرة، وبعد توضيح الآليات القانونيّة ومشروع المعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية، والذّي سنستعرض من خلال تفاصيل مشروع البنك الدوليّ لتطبيق اللامركزيّة في تونس وأسلوب الابتزاز الذّي تعتمده هيئات النقد الدوليّة لتفرض مشاريعها وبرامجها الاقتصاديّة.

الحكم المحلّي ومشروع اللامركزيّة: ورقة الابتزاز الجديدة

قطاع التعليم، البنوك العموميّة، منظومة التأمين الصحيّ، وضعيّة المؤسّسات العموميّة، وأخيرا مشروع اللامركزيّة القائم على الحدّ من التفاوت الجهوي والنهوض بالمناطق والجهات التي هُمشّت طويلا نتيجة السياسات الاقتصاديّة السابقة كانت كلّها المقابل الذّي يبتزّ بها البنك الدوليّ بمختلف مؤسّساته الدولة التونسيّة في مقابل القروض وجرعات التسكين التي وإن حلّت ظرفيّا بعض الأزمات إلاّ أنّها تزيد مع كلّ قرض جديد من اختناق الاقتصاديّ التونسي واستنزاف الناتج المحليّ الخام.

في الثامن من شهر أكتوبر الماضي، وفي خضّم الاستعدادات للاستحقاق الانتخابي، مرّ خبر تمكين تونس من قرض بقيمة 217 مليون يورو من طرف البنك الدولي للإعمار والتنمية التابع للبنك الدولي، دون ضجّة تذكر ودون أن يتساءل أحد عن شروط هذا القرض والمقابل الذّي كان على تونس أن تقدّمه كما العادة.

قبل هذا التاريخ بأشهر، كان البنك الدولي قد أعدّ مشروعا يسطّر كيفيّة تطبيق اللامركزيّة في تونس ويحدّد الإصلاحات والإجراءات الواجب على الحكومة اتخاذها لضمان نجاح هذا البرنامج الهادف بالأساس إلى تقليص الهوة التنموية بين مختلف جهات البلاد.
وقد تعهّدت هيئة النقد الدولية بدعم برنامج اللامركزيّة في تونس ماديّا شريطة الالتزام بتوجيهات البنك الدولي وتطبيق الحكومة للاجراءات الواردة في المشروع الذّي قدّم رؤية البنك لسبل تنفيذ اللامركزيّة في تونس. ويمثّل هذا القرض 83% من النفقات الضرورية لتنفيذ مشروع اللامركزيّة بنسبة فائدة ستصل إلى 4% بداية من 15 جويلية 2023. العديد من الشروط والفصول ما تزال مبهمة وغامضة، وهو ما قد نتناوله في مقالات لاحقة، ولكنّ التركيز هذه المرّة سينصب حول طبيعة هذه الدفعة الجديدة من القروض المشروطة وماهية الإصلاحات والإجراءات التي جاءت في مشروع البنك الدولي لتطبيق اللامركزية في تونس.

⬇︎ PDF

صندوق القروض ومساعدة الجماعات المحليّة: الضحيّة الجديدة لإصلاحات البنك الدولي

من أهمّ ما جاء في جملة الإصلاحات المطلوبة من الحكومة التونسيّة تلك التي تتعلّق بصندوق القروض ومساعدة الجماعات المحليّة. وقد ظهرت هذه المؤسّسة العموميّة تحت اسم صندوق سلفات المجالس البلدية في 15 ديسمبر 1902، لتعاد تسميته بصندوق القروض للبلديات سنة 1932. بعد الاستقلال تعرّض هذا الأخير لسلسلة من التحويرات القانونيّة والماليّة، إذ تمّ إعادة هيكلة الصندوق بمقتضى الأمر عدد 688 المؤرخ في 16 أفريل 1992 الذي يلغي الأمر عدد 212 لسنة 1977 المؤرخ في 4 مارس 1977 المتعلق بضبط التنظيم الإداري والمالي للصندوق وطرق تسييره مع اعتباره مؤسسة عمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية ومن ثمّ وقع إدراج الصندوق ضمن المؤسسات العمومية التي لا تكتسي الصبغة الإدارية والتي تعتبر منشآت عمومية وفق الأمر عدد 564 المؤرخ في 31 مارس 1997.
يعمل الصندوق على عدّة محاور أهمّها :

_ تعبئة الموارد الضرورية للمساهمة في تمويل المخططات الاستثمارية للجماعات المحلية.

_ تقديم المساعدة الفنية للجماعات المحلية على مستوى تشخيص ودراسة وتنفيذ ومتابعة مشاريعها الاستثمارية.

_ مساعدة الجماعات المحلية على أحكام التصرف في الموارد المالية المتوفرة لديها من خلال التحليل الدوري لموازينها واقتراح الإجراءات العملية لتنمية مواردها الذاتية والاستعمال الأمثل للموارد المخصصة للتنمية.

_ ترشيد الاستثمار المحلي: في نطاق اضطلاعه بالمهام الموكولة له والمتمثلة خصوصا في تقديم الإحاطة الفنية والمالية للجماعات المحلية وحرصا منه على تحقيق الأهداف المرسومة في إطار البرامج الاستثمارية لهذه الجماعات، تتولى مصالح الصندوق القيام بزيارات ميدانية لمعاينة المشاريع للوقوف على الصعوبات التي قد تعترض حسن تنفيذها والمساعدة على تجاوزها بالإضافة إلى تحليل الوضع المالي للجماعات المحلية بناء على النتائج المالية المنجزة بالنظر للتقديرات الأولية والوقوف على المجهودات المبذولة لتعبئة الموارد الموضوعة على ذمتها واستغلال ما توفره طاقتها المالية بما يسمح بتحسين قدرتها على الإرجاع وبالتالي تحديد طاقة تداينها المتبقية باعتبار القروض التي أبرمتها.

_ النظر في المنهجية المتبعة منذ إعداد المشروع حتى نهاية الأشغال وبداية مرحلة الاستغلال.

_ وضع مؤشرات تعتمد على تقييم المشاريع لضمان جدواها.

_ وأخيرا تقييم مردودية المشروع ومدى انعكاسه على المستوى الاجتماعي والبيئي.

كما تشرف هذه المنشأة العموميّة على تقديم الدعم الماديّ من الأموال العموميّة إلى 264 بلديّة وفق مقاييس هي كالآتي:

● يتم توزيع 10٪ من الاعتمادات على 264 بلدية.

● يتم تخصيص 45٪ وفقا لعدد السكان المقيمين في المنطقة البلدية.

● يتم تخصيص 41٪ من قيمة الدعم وفقا لعائدات الضرائب المحليّة أو بصيغة أخرى تبعا للمردوديّة الجبائيّة لكلّ دائرة بلديّة

● 4٪ من قيمة الدعم يتم تخصيصها للبلديات الصغيرة تحت عناوين مختلفة كتغطية عجز الموازنات أو دعم المشاريع الصغرى وغيرها من التدخّلات السريعة في المناطق البلدية.

ratio-actuel-minicipalites-tunisie-banque-mondiale.001

إذن، تقوم هذه المنشأة العموميّة بدور محوريّ في عملية التنمية وتمويل الجماعات المحليّة وخصوصا منها البلديات وهو ما جعل منها ربّما الهدف الأوّل لبرنامج البنك الدولي الجديد الباحث عن تحييد دور المؤسّسات العموميّة في كلّ ما يهم الاقتصاد والتنمية على الصعيد الوطني والمحليّ.

المشروع الذي طرحه البنك الدولي للاعمار والتنمية كما جاء في الدراسة المقدّمة للحكومة التونسيّة تضمّن بالأساس إعادة هيكلة دور صندوق البلديات والحدّ من تأثيره في تنظيم عمل الجماعات المحليّة.

النقطة الأولى والأساسيّة في مجموعة الإصلاحات التي اقترحها البنك الدولي تمثّلت في تغيير معايير إسناد الدعم العمومي للبلديات، فعوض التقسيم المعتمد حاليا من قبل صندوق البلديات، دعا التقرير المذكور إلى اعتماد صيغة جديدة تقوم على معياري القوّة الجبائيّة وعدد السكّان، حيث تتحدّد قيمة الجزء الأوّل من الدعم المقدّر ب20% حسب مردوديّة النشاط الاقتصاديّ والعائدات الضريبيّة للمنطقة البلديّة، في ما تسند الحصّة المتبقيّة والتي تبلغ 80%وفق عدد السكّان ضمن الدائرة البلديّة.

ratio-programme-banque-mondiale-tunisie-minicipalites.001

أمّا المعايير السابقة التي تأخذ بعين الاعتبار البلديات الصغيرة ومحدودة الإمكانيات وضرورة تخصيص منحة متساوية لجميع البلديات، فقد تمّ إسقاطها من المشروع الجديد.

الصيغة الجديدة التي اقترحها البنك الدولي تتنافي تماما مع الهدف الأساسي لتطبيق اللامركزيّة، وهو التقليص من حجم التفاوت بين الجهات المحظوظة والنشيطة على الصعيد الاقتصادي وبين المناطق المهمّشة. إذ باعتماد المعايير الجديدة، الدوائر البلديّة التي تتركّز فيها الأنشطة الاقتصاديّة من مختلف القطاعات بالإضافة إلى العدد الأكبر من السكّان بحكم حركة النزوح من المناطق الداخليّة باتجاه المدن الكبرى، تظلّ هذه الأخيرة تستحوذ على النصيب الأكبر من الدعم الحكوميّ نظرا لارتفاع مداخيلها الجبائيّة وعدد قاطنيها في حين ستتواصل حالة التهميش والركود الاقتصاديّ في المناطق الأقلّ نشاطا وكثافة سكّانيّة خصوصا بعد الغاء الدعم المخصّص للبلديات الصغرى بالإضافة إلى منحة 10% المقسّمة بالتساوي بين جميع البلديات.

التقسيم الجديد لا يتعارض مع الهدف الأساسيّ لتطبيق اللامركزيّة فحسب، بل يمثّل خرقا واضحا للفصل 14 من الدستور التونسي الذّي ينصّ على أن “تلتزم الدولة بدعم اللامركزية واعتمادها بكامل التراب الوطني في إطار وحدة الدولة.” أما مشروع البنك الدولي فهو لا يأخذ بعين الاعتبار سوى ثلثي السكّان المنضوين ضمن 264 دائرة بلديّة تستجيب للمعايير الجديدة التي حدّدتها الدراسة، هو ما ورد بشكل واضح في نصّ التقرير: “المستفيدون الرئيسيون هم البلديات 264 وسكّانها الذّين يبلغ عددهم سبعة ملايين نسمة (2/3 من مجموع السكان). وسوف تستفيد هذه الأخيرة من الدعم الحكومي المكثّف لتعزيز أنشطة التنمية وبناء القدرات المؤسسية وهو ما سيطوّر بشكل فعّال البنية التحتية والخدمات البلدية وفقا للأولويات المواطنين.”

⬇︎ PDF

أمّا بالنسبة للأحياء والدوائر البلدية المحرومة والمهمّشة، فلا تشير الدراسة سوى ل229 حيّا لا يتجاوز عدد سكّانه 500 ألف نسمة. في حين سقط مليونان ونصف المليون مواطن من حسابات الحكومة ومعدّي هذّا التقرير.

اللامركزيّة وقطاعات أخرى: سياسة الارتهان والتسوّل عقيدة رسميّة

مشروع اللامركزيّة وفق رؤية البنك الدوليّ تم التمهيد له عبر المرسوم عدد 3505-2014 بتاريخ 30 سبتمبر 2014 الذّي عدّل من شروط ومعايير الدعم والمنح المخصّصة لجماعات المحليّة وخصوصا البلديات عوضا عن المرسوم المعمول به سابقا 1135-97 الصادر بتاريخ 16 جوان 1997، وقد تناولت نواة في مقال سابق تفاصيل هذا التعديل وخلفياته وارتداداته القانونيّة على منظومة الإدارة الذاتية للجماعات المحليّة.

⬇︎ PDF


هذا التعديل الجديد في القوانين المنظّمة لعمل الجماعات المحليّة وإدارة المشاريع التنمويّة كان الهدف منه الحدّ من الرقابة الحكوميّة على المشاريع والنشاطات المعهودة للسلطات المحليّة والتي تتجاوز في أحيان كثيرة صلاحيات هذه الأخيرة، بل تبدو الغاية الأساسيّة من هذا المرسوم الجديد تسليم إدارة الشأن المحليّ برمّته لرقابة وتوجيهات البنك الدولي وتعزيز منظومة الشراكة بين القطاعين العام والخاصّ عبر تكثيف حضور الخوّاص في الاستثمارات والمشاريع التنمويّة المحليّة.

⬇︎ PDF

فهذا القسط الجديد في سلسلة الديون التونسيّة التي ما فتئت تتعاظم بتتالي الحكومات، يندرج ضمن سياسة دأبت الهيئات المالية الدوليّة على انتهاجها مع تونس منذ سنوات والتي تقوم على مبدأ المقايضة. حيث تقترن القروض المسندة بسلسلة من الاملاءات والتحويرات الاقتصادية التي تتماشى وهدف هذه الهيئات فتح السوق التونسيّة على مصراعيه أمام الاستثمار الأجنبي والقطاع الخاصّ المحليّ بتزامن مع استقالة شبه كليّة للدولة من الدورة الاقتصاديّة.

عدى قروض ما قبل 14 جانفي، وعقب حالة الانهيار الاقتصادي الذّي عرفته البلاد منذ ذلك التاريخ، سعت مختلف الحكومات المتعاقبة إلى ترقيع الوضع الاقتصاديّ وتوفير نفقات التصرّف عبر التداين سواء من البنوك الأوروبيّة أو من صندوق النقد والبنك الدوليين. هذا بالإضافة إلى سلسلة من رحلات التسوّل من الدول الخليجيّة.

الوضع الخانق وسعي الحكومات لتوفير أكبر قدر من السيولة لخفض الاحتقان الاجتماعي، وفّر الأرضية الملائمة لممارسة عمليّة ابتزاز واضحة من قبل المؤسسات المالية العالميّة لتغيير صبغة الاقتصاد التونسيّ المحافظ من منظورهم والذّي ما يزال يضع بعض القيود أمام خصخصة القطاعات الإستراتيجية بالإضافة إلى دور الدولة المهمّ في الحياة الاقتصاديّة عبر المؤسّسات الإنتاجية العموميّة على غرار البنوك وشركات النقل والقطاع المنجمي والصحّة وغيرها. كما استطاعت المجموعة الوطنيّة تحقيق بعض المكاسب الاجتماعيّة على غرار أنظمة التأمين والصحّة ودعم مواد الاستهلاكيّة.

هذه المكاسب والقطاعات الحيويّة تحوّلت إلى ورقات للمقايضة في وضعيّة كانت فيها الدولة التونسيّة دائما في موقع ضعف. وقد تناولت نواة في مقالات عديدة طبيعة تلك القروض وارتداداتها، حيث كشفت هذه الأخيرة سنة 2014 عن وثيقة سريّة توضّح حجم الضغط الذّي تتعرضّ الحكومة التونسيّة آنذاك والبنك المركزيّ لإحداث تغييرات جذريّة في منظومة الدعم والرفع من أسعار المواد الاستهلاكيّة وخصوصا المحروقات مقابل الحصول على قرض بقيمة 500 مليون دولار، وهوما عملت الحكومات المتتالية على تنفيذه بدأ من حكومة السبسي مرورا بالترويكا وانتهاء بحكومة التوافق الوطني التي عمدت إلى تسريع عمليّة الترفيع في الاسعار والدفع نحو إحداث تغييرات هيكليّة في الاقتصاد الوطني من خلال الضغط على الطرف النقابيّ لتمرير تلك المشاريع خلال ما عُرف بالحوار الوطني الاقتصادي.

هذا بالإضافة إلى عمليّة هرسلة متواصلة للتفريط في البنوك الثلاثة العموميّة ومراجعة المنظومة الجبائيّة وهو ما تمّ الاتفاق عليه في اتفاقية القرض الأوروبي الأخير البالغ 300 مليون يورو والذي تمّ تمريره بشكل يشبه التحايل على نواب المجلس التشريعي.
مذكّرة التفاهم لم تقتصر على تحديد مدّة تسديد القرض او نسبة الفائدة أو غيرها من التفاصيل التقنية، بل تضمّنت ما يمكن اعتباره برنامجا اقتصاديا واجتماعيا لاعادة هيكلة الاقتصاد التونسي بمختلف قطاعته بدأ بمنظومة الدعم (مرّة أخرى) مرورا بتعزيز استقلالية البنك المركزي وانتهاء بالدعوة صراحة لتقليص رقابة وحضور الدولة في الدورة الاقتصاديّة ككلّ.

عمليّة المقايضة لم تتوقّف عند هذا الحدّ، بل شملت مراجعة منظومة الضمان الاجتماعي والصحيّ، عبر القيام بتغييرات جذريّة في قواعد احتساب الأقساط وإحداث منظومة تكميليّة على غرار المنظومة الأوروبيّة ودائما لفسح المجال امام عمليّة ممنهجة لإقصاء الدولة من أي دور اجتماعي أو اقتصاديّ.

الجميع مسؤول…

هيئات النقد الدولة لم تكن تعزف منفردة في سياستها الرامية لإجبار الدولة التونسيّة على إعادة هيكلة الاقتصاد المحليّ، وعمليّة المقايضة والابتزاز لم تكن لتنجح لولا مسايرة أطراف داخليّة عديدة لهذا المشروع الذّي يهدف لزجّ البلاد نهائيا في حالة من التبعية الكاملة والسيطرة الكاملة لتك المؤسّسات المالية العالميّة على إدارة الاقتصاد المحليّ.
العمل على تنفيذ هذه التغييرات الكبرى في البنية الاقتصادية بدأ منذ اللحطات الأولى التي تلت 14 جانفي سواء عبر حكومة السبسي الذّي استهلّ عهده بزيارته الشهيرة لمقر البنك الدولي وحضور مؤتمر مجموعة الثمانية والتعهّد بمزيد من الانفتاح الاقتصادي، لتواصل على نهجها حكومة الترويكا التي فتحت المجال في عهد الياس الفخفاخ وزير المالية آنذاك للاذعان أكثر فأكثر لاملاءات صندوق النقد الدولي خصوصا في قضيّة التعاطي مع وضعية البنوك العموميّة
أما حكومة مهدي جمعة فعملت على التسريع من نسق الإصلاحات المسقطة سواء عبر تدعيم حضور القطاع الخاصّ ممثلا في منظّمة الأعراف أكثر فأكثر في المشهد السياسي، أو عبر مواصلة انتهاج سياسة التداين. نقطة البداية مع هذا الأخير كانت من خلال خطابه الذّي توجّه به إلى العموم منذ الأيام الأولى لتولّيه منصبه ليتحدّث عن السيناريوهات المؤلمة للإنقاذ وعن حجم العجز في الموازنات العامة الذّي تجاوز 6%، لتنخرط بعده وسائل الإعلام في حرب نفسيّة رهيبة ليس هدفها تخويف الناسّ فحسب من ارتدادات الوضع الاقتصادي القائم، بل تسويق ما جاء من تصوّرات وحلول على لسان رئيس الحكومة وخصوصا في ما يتعلّق بمسألة مراجعة الدعم والمنظومة الاجتماعية والمؤسّسات العموميّة.
هذه الحملة الإعلاميّة تجاوزت مجرّد توضيح الصورة أو تبسيط الأرقام لتتحوّل شيئا فشيئا إلى جزء من حملة الترهيب التي تهدف إلى تسويق “خطّة الإنقاذ” للفريق الحكوميّ الجديد. إذ انخرطت بعض وسائل الإعلام في التشكيك بجدوى الدعم الحكوميّ وضرورة مراجعة منظومة التغطية الاجتماعية لما تمثّله من عبء على ميزانيّة الدولة بالإضافة إلى استعراض الإرتدادات السلبيّة لمواصلة الدولة تمسّكها بالمؤسّسات العموميّة التي بنيت من عرق التونسيّين وأموالهم ونضالات المنظّمة النقابيّة.

سياسة التداين والمربّع الأوّل

جميع الدول قد تلجأ إلى التداين كحلّ تكميليّ أو بغية تمويل مشاريع ضخمة تتجاوز كلفتها القدرات المالية لتلك الدول، ولكن في الحالة التونسيّة فإنّ عجز الموازنات الماليّة يعود بالأساس إلى تفاقم الاستهلاك وغياب رؤية واضحة لمخطّط تنمويّ شامل، وهو ما يجعل من الاقتراض موجّها لتغطية المصاريف الاستهلاكيّة.

تفاقم المديونيّة التونسيّة والتي تجاوزت خلال السنوات الأربع الأخيرة 25 مليار دينار تونسي، يستنزف ما يقارب 50 % من إجمالي الناتج المحليّ، وهو ما يشكلّ عائقا أساسيا للمجهودات التنمويّة، إذ إن تجنّب الدخول في مرحلة التداين الخارجي المتواصل مرتبط بشروط تتعلق بتمويل مشاريع ذات مردودية اجتماعية واقتصادية عالية تعمل على التخفيض من نسب البطالة وقادرة على تحقيق أرباح كافية لتغطية قيمة الديون من ناحية ومن ضمان استمرارية وديمومة المشاريع الاستثمارية من جهة أخرى.

أمّا السياسة الحاليّة القائمة على التداين من أجل تغطية نفقات الاستهلاك، وإن حقّقت انفراجا “وهميّا” على المدى القريب، فإنّها لا تلبث أن تعود بنا إلى المربّع الأوّل من العجز والاختلال في الموازنات المالية ويصبح الاقتصاد بحاجة لمزيد من القروض وذلك للإيفاء باستحقاقات المديونية القديمة من جهة ولضخ مزيد من السيولة في الدورة الاقتصادية.

كما أنّ الهروب نحو التداين وتجاهل المشاكل الهيكليّة لمختلف القطاعات الاقتصاديّة سيزيد من تفاقم الأزمة الاقتصاديّة وإهدار المال العام وتفاقم مشاكل القطاعات الاقتصاديّة المتراكمة منذ عقود.
إذ يجب قبل اللجوء إلى الاقتراض لإنعاش الدورة الاقتصاديّة وإعطاء دفع للنشاطات القطاعيّة المختلفة، البدء بمراجعة شاملة لمختلف الإخلالات التي تعاني منها الصناعة التونسيّة والفلاحة والسياحة حتّى تعطيّ القروض التي ستضخّ أُكلها. فالمشاكل الأساسيّة الكبرى للاقتصاد التونسيّ هي هيكليّة بالأساس وتعود لسوء التصرّف والتخطيط طوال عقود من الزمن نتيجة الفساد أو سيطرة المافيا الحاكمة سابقا على مفاصل بعض القطاعات أو لاعتبارات سياسيّة وأمنية بحتة طغت على الأولويات الاقتصاديّة.