احتجاجات قادها الصحافيون النقابيون في المركز والجهات، بلغت حد الاشتباك مع قوات الأمن التي حاولت منعهم من التجمع أمام مقر رئيس الحكومة في القصبة لإبلاغه مدى غضبهم وسخطهم .نقابة الصحفيين التي أطّرت ودعت إلى هذه الاحتجاجات أعلنت أنها ستواصل التصعيد، ودعت إلى إضراب عام في قطاع الإعلام يوم 10 ديسمبر القادم الذي يتزامن مع ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

لماذا يحتج الصحفيون؟

يشير التقرير السنوي لواقع الحريات الصحفية  2019  إلى أنّ أكثر من ثلاث مئة صحفية وصحفي وقع طردهم تعسفيا في الفترة الفاصلة بين ماي 2019 – ماي 2020، وتؤكد دراسة داخلية أنجزتها نقابة الصحفيين أنّ حوالي 500 صحفية وصحفي أبلغوا النقابة امتناع مشغليهم تسليمهم أجورهم أو جزء منها في إبّانها. وذكرت النقابة في التقرير نفسه أنّ ازدياد الفقر وتردي الأوضاع المادية للصحفيين ساهم بشكل واضح في عودة الرقابة الذاتية وتراجع جودة المنتوج الإعلامي. كما سهّل التحكم في الصحفيين المهمشين وتوجيههم من قبل مشغليهم.

أحكم نظام بن علي قبضته على قطاع الإعلام من خلال سياسة ممنهجة لتفقير الصحفيين وتهميشهم حيث تدهورت أجورهم وساءت وضعيات الصحف المستقلة. في المقابل كان بن علي يغدق دون حساب على أبواق الدعاية، مؤسسات وأفراد .بعد الثورة مباشرة انشغل الصحفيون بمعركة الحريات، وكانت معاركهم الأساسية منصبة على ضمان حرية الصحافة، من خلال تضمينها في دستور 2014، وعبر قوانين تضمن استقلالية وسائل الإعلام والصحفيين، ومواجهة الاستبداد الجديد آنذاك المتمثل في حكومة الترويكا (2012/ 2014) التي حاولت بكل الوسائل، بما في ذلك التهديد والترهيب واستعمال الميلشيات، لوضع اليد على الإعلام.

مضمون الاتفاقية القطاعية للصحفيين

خاضت نقابة الصحفيين إضرابين عامين في قطاع الصحافة سنتي 2012 و2013. إلا أنّ هذه الاحتجاجات كانت من أجل دعم حرية الصحافة وحق المواطن في إعلام حر تعددي، رغم أنّ الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للصحفيين لا تقل حرجا عن وضعية حرية الصحافة. وكانت النقابة تدرك أنه كلما زادت وضعية الصحفيين المادية والمهنية هشاشة كلما أمكن السيطرة عليهم وعلى مهنتهم، لذلك بدأت مبكرا العمل على إيجاد حل جذري لإنهاء داء مزمن في القطاع وهو آفة الفقر، والذي فتح الباب واسعا لعلل أخرى مثل الفساد والتحكم في القطاع وتوجيهه.

بعد أكثر من خمس سنوات من النقاش والتفاوض مع الأطراف الاجتماعية، توصلت نقابة الصحفيين لأول مرة في تاريخ المهنة إلى إبرام اتفاقية إطارية للصحفيين، وقّعتها مع الأطراف المعنية بقطاع الإعلام في الدولة، بما فيها الحكومة ممثلة في شخص وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي.

الاتفاقية التي رحبت بها كل المنظمات الدولية والأممية المعنية بحرية الصحافة والتعبير، تتضمن حقوقا أساسية للصحفيين تحفظ كرامتهم، حيث حُدّد الأجر الأدنى الخام ب 1400 دينار كما تضمنت حقوقا مثل عطلة الأمومة وحق المكلية الفكرية وبند الضمير (في حال حصول تغيير جوهري في الخط التحريري لأي سبب كان، يحق للصحفي إنهاء عقده مع المؤسسة دون تنبيه مسبق ويعتبر ذلك بمثابة الطرد التعسفي) وذلك لحماية الصحفيين داخل مؤسساتهم وحماية المؤسسة الإعلامية نفسها من ارتهانها لمن يدفع أكثر.

لماذا تتعنّت الحكومة؟

ينص الفصل 38 من مجلة الشغل على أنه “يجب أن تبرم الاتفاقية المشتركة بين المنظمات النقابية للأعراف والعمال، ثم يصدر وزير الشؤون الاجتماعية قرارا بالقبول أو بالرفض المعلل ولا يمكنه أن يغيّر نص الاتفاقية المعروضة عليه. وينص الفصل 40 من المجلة نفسها: “ينشر قرار الموافقة على الاتفاقية بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية مع إضافة نص الاتفاقية المشتركة الموافق عليها”.

يوم 9 جانفي2019، أمضى وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي على الاتفاقية إلى جانب المنظمات المهنية. ويوم 30 أفريل 2019، يمضي الوزير نفسه على قرار الموافقة على الاتفاقية الإطارية المشتركة للصحفيين التونسيين .ولكن رغم ذلك، تعمّد عدم نشر نص الاتفاقية كاملا كما ينص على ذلك الفصل 40 من مجلة الشغل.

هذا الوزير تعلّل بأنّه لم يطّلع على فحوى الاتفاقية وكان توقيعه تحت الضغط في المرة الأولى ( 09 جانفي 2019). والسؤال: لماذا وقّع على القرار ثانية بعد أربعة أشهر ( 30 أفريل 2019)؟ في السياق نفسه، لم تنشر حكومة الشاهد نص الاتفاقية كاملا بتعلة أنها تواجه ضغوطا من اتحاد الشغل، الشيء نفسه بالنسبة لحكومة الفخفاخ وبالتعلات ذاتها.

الأمر الذي دفع نقابة الصحفيين إلى رفع قضية ضد الحكومة التونسية لدى المحكمة الإدارية، وقد أصدرت المحكمة حكما قضائيا استعجاليا لفائدة النقابة يوم 09 نوفمبر 2020 يقضي بالنشر الفوري للاتفاقية. ولكن لماذا يغامر المشيشي وحكومته بعدم تنفيذ قرار قضائي قد يضعه في المستقبل القريب تحت طائلة المسؤولية الجزائية؟ وماهي مصلحة الحكومة في حرمان الصحفيين من إطار قانوني يضمن لهم حقوقهم الشغلية ويحفظ كرامتهم؟

والعجيب أنّ نشر الاتفاقية وتطبيقها لا يجبر الحكومة على أي التزامات مالية، فالمسألة تتعلق بتنفيذ التزامات واتفاقات بين الصحفيين ومشغليهم في مؤسساتهم الإعلامية .وهو ما يحيلنا إلى التساؤل إن كان رئيس الحكومة الحالي في خدمة طرف سياسي يسعى لمواصلة تفقير الصحفيين ومزيد إفساد قطاع الإعلام لتسهل السيطرة عليه .الإجابة تأتي على لسان المسؤولين في الحكومة حيث يؤكدون أن سبب الرفض يتمثل في الفيتو الذي يرفعه اتحاد الشغل لعدم نشر هذه الاتفاقية.

والمحصلة اليوم أنّه رغم هذا المسار من النضالات التي قادها الصحفيات والصحفيين ونقابتهم طيلة سنوات، ورغم القرار القضائي بنشر هذه الاتفاقية التي تحفظ قوت الصحفيين وكرامتهم، إلاّ أن  تحالف الحكومة ولوبيات البيروقراطية النقابية والأحزاب السياسية المخربة لقطاع الإعلام تحول دون ذلك .والمؤكد من دروس التاريخ القريب والبعيد، أنّ الصحفيين كانوا دائما الطرف المنتصر في المعارك التي خاضوها هم ونقابتهم من أجل افتكاك حقوقهم وحرياتهم… مهما كان الطرف المقابل.