انقسام البيت الداخلي

شهدت العلاقات بين مؤسسة الرئاسة التونسية ورئاسة البرلمان ممثلة في راشد الغنوشي توتّرا منذ تشكيل حكومة إلياس الفخفاخ أو ما اصطلح على تسميتها بـ”حكومة الرئيس“ بعد فشل حكومة الحبيب الجملي في منح الثقة إليها في البرلمان. سحب البساط من تحت أقدام راشد الغنوشي وحركته في مسار تعيين رئيس حكومة ممن يرضون عنها أو حتى من بين دائرة أصدقائهم والمقربين منهم لم يهضمه رئيس الحركة خصوصا وأن رئيس الحكومة المكلف من قبل رئيس الجمهورية إلياس الفخفاخ حافظ على ولائه لقيس سعيّد وأبقى على مسافة تفاهم محترمة معه، ولم يخضع لحدّ الآن لضغوطات الغنوشي وحركته من أجل توسيع الحكومة، وضمنيا تغييرها عبر سياسة ”الدوسيّات“ (فتح ملفات حسّاسة غالبا ما تكون شخصيّة) وافتعال قضايا فساد لم يحسم القضاء فيها بعد.

الضغوطات من أجل اسقاط حكومة الفخفاخ ومن ورائها عزل الرئيس سعيّد لم تتوقف عند هذا الحد، بل تطوّرت للّعب على ملفات خارجية ثقيلة وحسّاسة. فالبرغم من الالتقاء الظاهري بين رئيس الحركة ورئيس الدولة في الموقف الدبلوماسي التونسي من الملف الليبي عبر الاعتراف بحكومة غرب ليبيا كممثل شرعي للشعب الليبي حسب ما أقره اتفاق الصخيرات بالمغرب الذي اعترفت به ودعمته منظمة الأمم المتحدة، إلا أن حسابات الحقل ليست بالضرورة كحسابات البيدر. فحركة النهضة لم تخفى يوما دعمها العميق لحكومة غرب ليبيا، وقد كانت التهنئة التي تقدم بها راشد الغنوشي لفائز السراج بمناسبة استرجاع قاعدة ”الوطيّة“ الجوية الاستراتيجية من قبضة قوات شرق ليبيا القطرة التي أفاضت الكأس وكشفت بشكل علني وصريح عن التأييد المطلق لأحد أطراف الصراع في ليبيا، وهو ما يتعارض مع موقف الدبلوماسية التونسية في ليبيا القائم على ”الحياد الإيجابي“ تجاه مختلف أطراف الأزمة هناك، ودعم ”الشرعية الدولية“ لإيجاد حل سلمي للصراع.

المكالمة التي أجراها الغنوشي مع السراج أخرجت كذلك الصراع الصامت بين رئاسة البرلمان ورئاسة الجمهورية للسطح لأن موقف الغنوشي اعتُبِر تدخّلا صريحا في صلاحيات رئيس الجمهورية المرتكزة أساسا على الدبلوماسية الخارجية، وهذا ما دفع سعيّد لتوضيح هذه المسألة الدستورية، معتبرا ”إن الدولة التونسية واحدة. ولها رئيس واحد في الداخل والخارج“.

انتفاضة سعيّد لم تكن دفاعا عن صلاحياته الخارجية فقط وإنّما كذلك لخشيته من عزلته السياسية والدبلوماسية التي خطّط لها جيّدا رئيس الحركة منذ مدّة على نار هادئة عبر إثارة ”ملفات فساد“ للحكومة والقفز على صلاحياتها الدستورية ومحاولة إخراج قيس سعيّد بمظهر الضعيف داخليا وخارجيا.

تأثير الاقتصاد على الموقف الدبلوماسي

أكثر ما شدّ الانتباه في زيارة قيس سعيّد لفرنسا هي تصريحاته التي فهم منها تغييرا، ولو جزئيا، في الموقف من الملف الليبي، عندما تحدث عن الشرعية ”المؤقتة“ لحكومة الوفاق في العاصمة طرابلس.

من الملاحظين من وجد في موقف سعيّد معطى جديدا لم يكن يتطرّق له في خطاباته وتصريحاته السابقة حول ليبيا والذي فهم منه أن هذه الشرعية يمكنها أن تنتهي وتفقد غطاءها الأممي، وبأن الموقف التونسي الداعم للشرعية في ليبيا لن يتواصل إلى ما لا نهاية. بالمقابل رأى الأطراف الداعمون لحكومة الوفاق في طرابلس سواء من تونس (حركة النهضة) أو من ليبيا (حزب العدالة والبناء) بأن موقف الرئيس قيس سعيّد الجديد يعكس إما عدم فهم للصراع الدائر في ليبيا أو خضوعا لضغوطات باريس (سياسة العصا والجزرة الاقتصادية).

موقف حزب العدالة والبناء (إخوان ليبيا) من تصريحات سعيّد ترجمه رئيس ما يسمى بالمجلس الأعلى للدولة في ليبيا بالترحّم على الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي في إشارة سياسيّة مبطّنة لموقف هذا الأخير المحايد من الصراع في ليبيا.

مسألة وجود ضغوطات اقتصادية مارسها ماكرون على قيس سعيّد لا تبدو واقعيّة في السياق الراهن. فبالرغم من غياب النديّة المكتملة بين الطرفين فإن السلوك السياسي لقيس سعيّد في مواقف مماثلة لا يعكس شخصيّة ليّنة يسهل إخضاعها للضغوطات مهما كان نوعها. ولعلّ موقفه من زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتونس وتصريحات هذا الأخير عن وجود تطابق في وجهات النظر مع الرئيس قيس سعيد بخصوص الموقف من ليبيا، والرد التوضيحي للرئاسة التونسي بأنها ضد التدخل الأجنبي في ليبيا وبأنها مع الحل السلمي ”الليبي – الليبي“ دليل على صعوبة انقياده لمواقف خارجية لا يكون مقتنعا بها أو راضيا عنها.

علاقة المسألة الاقتصادية بالتغيير المفاجئ في موقف سعيّد غير مستبعدة خصوصا إذا ما علمنا أن فرنسا تدعم المشير خليفة حفتر قائد جيش شرق ليبيا وتونس في حاجة ماسّة للقروض والدعم المالي في هذه الفترة الصعبة التي تعيشها البلاد بسبب أزمة انتشار وباء كورونا ومخلفات السياسات الاقتصادية الفاشلة للحكومات السابقة. في هذا السياق، ربما يمكن اعتبار القرض بقيمة 350 مليون دولار الذي وعد ماكرون بتقديمه لتونس، بمثابة الترجمة لهذا الود الدبلوماسي بين الطرفين والتقارب الجزئي في المواقف من ليبيا.

عقب أخيل الدبلوماسية التونسية ما بعد ثورة الحرية والكرامة في علاقة بالملف الليبي وغيره من الملفات الخارجية سواء في فترة حكم المرزوقي أو السبسي أو سعيّد يكمن بالأساس في عدم محافظتها على ثوابت تتلاءم وحجم تأثيرها في السياسات الخارجية للدولة. فالاصطفاف السياسي المفضوح ورا، المحاور الإقليميّة، قطر وتركيا من جهة، و الإمارات و السعودية من جهة أخرى، في فترة رئاسة المنصف المرزوقي مثلا، لم تجلب لتونس إلاّ العداوات التدخلات الإقليمية والخارجية. كما أن الانقسامات الداخليّة والصراعات السيّاسية الحادّة، تعكس في مجملها غياب النضج لدى غالبيّة النخب السياسيّة في تونس، ولم تكن أبدا في صالح موقف دبلوماسي تونسي موحّد من الملفات الإقليمية التي لها انعكاس مباشر على الوضع الاقتصادي والأمني بالبلاد.