العابرون فوق ما تبقى من أرصفة شارع سيدي حسين الرئيسي كل منهم يكتم “داه في دراه” كما يقول المثل التونسي. يمشي بعقل مثقل، “مُخفيا جراحه وراء ثيابه” [1]بينهم من يبحث عن عمل لسد قوت يومه، ومنهم من يراقب حركة الشاحنات حتى ينقض على واحدة منها ويعلن نفسه “هباطا” للسلعة من أجل ثمن كسكروت وعلبة سجائر وماء وبعض الملاليم لخبز وحليب وزيت وعجين منهم أيضا البرباش الذي ينتقي زبالته بعناية.

سيرا وراء أحدهم ممن يعرفون منطقة سيدي حسين جيدا، تم اكتشاف العدد الهائل من الذين يقتاتون على الأنشطة الطفيلية من أجل البقاء. حُسين “الهباط” كهل أربعيني بطول لا يتجاوز المتر والسبعين سنتمترا تقريبا، أسمر، لفحة الشمس ظاهرة بوضوح على جسمه. وعندما يرفع الصندوق من على الشاحنة تظهر مناطق بياض خفيف على أعلى ذراعيه لأن أشعة الشمس لم تطل تلك المنطقة بحاجز كم قميص رمادي وسروال أخضر فاتح وحذاء رياضي. قال وقد ظهرت على فمه علامات العطش “خوخ بوطبقايا اليوم، هانو الواحد ينطرش عشرآلاف حق قهوة ودبوزة ماء”.

الظرف الذي تم اللقاء فيه بحُسين الهباط كان حافلا بآخرين من ذات نوع نشاطه. مجرد أن تأتي الشاحنة الخفيفة بالسلعة يأتي الهباطة على جناح السرعة، الأقرب أن كل هباط يعرف شاحنته أو أن هناك تنسيق مسبق بينهم، إذا لم يلاحظ أي تداخل بين هؤلاء. المهم أن أغلب الهباطة لا يبعدون كثيرا عن حسين في حركته وهيئته ومآل العشر دنانير التي سوف يتحصلون عليها.

غير بعيد عن عالم حُسين المحصور في بعض الأمتار المربعة قبالة باب سوق سيدي حسين، ينتصب أحد الباعة المميزين بصوت يسعى إلى التقاط انتباه المارة، لم تسنح الفرصة لسؤاله عن اسمه بعد أن شك في كيفية وقوفنا قبالته، ربما ظن أننا مراقبة الأسعار والصحة. كان الرجل يبيع “الملسوقة” كأنه يبيع الورد. يقف صديقنا على “شلاكة بلاستيك” كتبت عليها علامة FILA وسروال قماشي أزرق وقميص أبيض بخطوط وأزرار سوداء. عَرِفت الصدفة في أن تجعله منتصبا بملسوقته بجانب أحد الباعة البسطاء من الذين يبيعون الحشائش المجففة: زعتر، شيح، نعناع جاف وأعشاب أخرى، أو أنهما معتادان على الانتصاب بجانب بعض دائما. كمية الملسوقة التي يبيعها تشي بأن دخله في ذلك اليوم ـ إذا باعها كلها ـ لن يتجاوز العشر دنانير، تماما كصديقنا حُسين الهباط. كان ينادي “ملسوقة جديدة دياري” بلحن خاص.

الشارع الرئيسي لسيدي حسين يحوي المتناقضات في صميم مدلولاتها. هناك، تجد أنواعا عديدة من الانتصاب الفوضوي أمام مقر البلدية نفسها، أكشاك موضوعة بشكل مبتكر وعشوائي  تستقر بأنفة أمام مقر القباضة المالية، أحيانا قد يصعب الولوج إلى مركز الشرطة الذي على الطريق نتيجة كثرة “النصابة” أما عن مقر المعتمدية فقد زحفت “النصب” على الرصيف بشكل يخفي كل داخل أو خارج من مقر المعتمدية عن أعين أي مشاهد يقبع في أحد أركان الشارع.

تحملك الخطوات إلى محيط السوق، خاصة المساحة التي تقبع وراءه، أين يوجد سوق للمدرسة خاصة وساحة كبيرة… في هذه المنطقة توجد بعض المصبات المكثفة للنفايات وهي المكان المفضل لعدد من الرجال والنساء الذين أغرتهم بعض البقايا فجاءوا لالتقاطها. قال الدليل عند المرور بهم “هؤلاء البرباشة”.

يقف البرباش أمام زبالته كأنه يختار حذاء على واجهة محل، مطلا على حاوية النفايات من فوق وبانتباه وتركيز شديد، وبحركة بطيئة تشبه الحذر يبدأ البرباش في البحث وسط القمامة عن شيء يصلح. هذا يجد قطعة حديد وتلك تلتقط حذاء باليا وآخر يجذ ضالته في القوارير البلاستيكية أو البلورية أو علب البيرة “حكك” وأخرى تعثر على قطعة قماش.

يتميز البرباش برموز تحيط به أينما حل، ومن المعتقد أن تلك الرموز قد أضحت عالمية. أولا البرباش يحمل كيسا كبيرا لتخزين الأشياء التي عثر عليها، في الغالب تكون تلك الأكياس محملة على عربات أو “شاريوات” مبتكرة، تعلوها قذارة واضحة فرط المرور بها على مكبات النفايات. ثانيا للبرباش أو البرباشة يد من الصعب تحديد لونها الأساسي وأصابع تعلوها آثار البحث الطويل في مكبات الزبالة. لباس تعلوه في الغالب بقايا أكل قد علقت على واجهة اللباس وأكمام القمصان التي احتفظت بمحتويات بقايا الأكل المرمية أو زيوت مختلفة. في الأغلب يتم بيع المواد البلاستيكية والألمنيوم والحديد الذي تم التقاطه إلى المصانع، وإذا تملّك الجوع أحد البرباشة فاحتمال كبير أن يتناول طعامه في مكان عمله.

كل هذا يحدث في أقل من مئة متر مربع، تمثل الممر الرئيسي لسيدي حسين أين تتلخص حياة العشرات من الناس، كل منهم ومصدر رزقه ومكمن قوت يومه، يبدأ رحلته لالتقاطها منذ الصباح وإلى حدود زمنية غير محدد في بقية اليوم.

[1] قصيدة “بغداد” نزار قباني


تم دعم هذه الفيديو من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ من خلال الدعم المقدم لها من وزارة التعاون الاقتصادي و التنمية الألمانية.
إن محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية موقع نواة ولا يعبر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.