يوميات محامي-الحلقة الأولى

بقلم أيوب الصابر*

لم يكن يفصلنا عن مكان موعدنا، سوى بعض الأمتار القليلة عن جدران السجن، الذي يقيّد حرية أكثر الرجال جرأة في البلاد، الرجل الرمز الذي أحدث رجّة كبرى في ضمير كل الشرفاء في الداخل والخارج، وأربك عناصر النظام الحاكم من أعلاهم الى أدناهم، وذلك لما كتب مقاله التاريخي الذي قارن فيه بين رجلي أمريكا، والشرق الأوسط الكبير بن على وضيفه القادم شارون، وأربكه أكثر وهو خلف القضبان، إذ أحدث ثقبا كبيرا في جدار الصمت الذي فرضته السلطة على كل الأشياء، وبدأ مخاض التمرّد ينتشر ويتسرّب من قطاع لآخر، ومن جهة لأخرى، ذلك الرجل هو الزميل الأستاذ محمد عبّو، التقينا قرب السجن المدني بالكاف، سجن “الغرائب “، فمنذ مدّة ليست بالبعيدة، أحدث عشرات المساجين المقيمين به ثقبا كبيرا في جدرانه، وتمكّنوا من الفرار عبره، وما إن تمّ بناء الثقب من جديد وتقويته بالاسمنت المسلح بعد إبعاد مديره، حتى فتح فيه محمد عبو ثقبا آخر للحرية والأمل والطموح، ثقبا لا يسدّه الاسمنت مهما تسلح، ثقبا يشعّ على الدنيا، ليرى العالم ما خفي وتلبّد من ضيم وقهر يعانيه الناس في هذا الوطن…

داخل ذلك السجن نفسه، اعتبرت الزميلة الأستاذة سنية بن عمر، متمرّدة لمّا طالبت بحقها في مقابلة حريفها الأستاذ محمد عبو، طبق ما يقتضيه القانون من حق الزيارة، واتهمت بالاعتداء بالعنف على مدير السجن وأعوانه، والاضرار بالملك العام وأصبحت محل تتبّع جزائي، من هناك انطلقنا نحو العاصمة في جو ربيعي وحار حرارة الأجواء بين المحامين والسلطة، لم نبتعد كثيرا عن تلك المدينة الهادئة الراكدة الحزينة الجائعة المتألمة المحاصرة، حتى أوقفتنا دورية لحرس المرور، لم يلتقط الرادار كثيرا ممن سبقونا، ربما يكونون من اعوان الأمن وهم لا يطالهم القانون، فهم مكلفون بتطبيق القانون على الاخرين فقط، المهم أن تلك السيارات كانت تسير بسرعة أكثر من سرعتنا، ولكنه التقط سرعتنا التى فاقت قليلا السرعة المسموح بها، كما التقط إثم محام آخر وجدنا سيارته راسية قبلنا، كأنه رادارا مخصصا فقط للمحامين..

بعد كثير من النقاش أعادوا للزميل الذي يقود السيارة الأوراق، ربما بعدما تأكّدوا بأن الراكب معه ليس الأستاذ نجيب الحسني، وإلا لأبقوا لديهم الأوراق لساعات، ولكنهم حرّروا محضرا ضد الزميل.. ربّما تشفيا منه لتعمّده نقل الأستاذ الحسني بسيارته، بعدما حجزوا رخصة سياقة الاخير لثلاثة أشهر، بنفس مخالفة الرادار الذي نشط كثيرا هاته الأيام، في رصد تجاوز السرعة لدى المتمرّدين على الصمت وخاصة منهم المحامين…

عموما تمكنا من مواصلة الطريق، في ظل هذه الحواجز المتناثرة في المفترقات وغير المفترقات، كان الزميل في طريقه لاستقبال الأستاذ الحسني في مطار تونس قرطاج، العائد من الحضور كملاحظ، عن الهيأة العربية لحقوق الانسان في قضية تيسير علوني بإسبانيا..

وكنت في طريقي الى دار المحامي، الذي دشّنها المحامون بالاعتصام المفتوح، داخلها لعشرات منهم بدعوة من لجنة الدفاع عن الأستاذ عبو( سجين حرية التعبير)، وذلك حتى الافراج عنه وعن الأستاذ فوزي بن مراد (سجين حق الدفاع) إنها ليلة مساندة للمعتصمين
..
دخلت فاستقبلني صديق لي وبطل سابق من أبطال الحركة الطلابية في أحلك مراحل تاريخها، أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، قضى في سجون القهر عشر سنوات وثمانية وستين يوما، وكان اعتقل مباشرة بعد تخرّجه وحصوله على شهادة الكفاءة لمهنة المحاماة، فدخلت أنا المهنة، ودخل هو السجن ليقضي زهرة أيام شبابه في زنزانات التدمير والموت والعذاب، ولكنه خرج أقوى من الأول، إنه من القلة التى صمدت صمود الجبال، وخرج خروج الأبطال، ولم يزد الطرق أفكاره الاّ عمقا، وبعد لحظات من استذكار أيام الكلية الرائعة، حان وقت العشاء، تناولنا الأكل في جوّ عائلي مليء بالمرح والدعابة، وكانت قناة الجزيرة في الأثناء تبثّ خبرا، مفاده أن قضاة مصر يرفضون الإشراف على الانتخابات الرئاسية المقبلة، ما لم يقع تنقيح القانون، ليتمكنوا من الاستفراد المطلق بمراقبتها ضمانا لنزاهتها، وعلق أحد الزملاء ضاحكا “ومجلس قضاتنا الأعلى يصدر توصياته للسادة القضاة بالحزم تجاه المحامين، ويذكّرهم بالفصل 46 حتى لا يصير نصا مهجورا”

قضيت معهم ليلتي، أو بالأحرى قضيت ليلة أتسامر مع أبطال الحرية راضية النصراوي، عبد الرؤوف العيادي، العياشي الهمامي، نور الدين البحيري، سنية بن عمر وغيرهم، ممن ضحّوا بعائلاتهم ومكاتبهم ومصالحهم، وتخلصوا من فرديتهم واعتصموا هناك بكل صبر ورباطة جأش، في سبيل حرية زملائهم وفي سبيل أن تبقى راية المحاماة عالية خفاقة، ذابت فيها الفوارق الايديولوجية وأصبحوا كالجسم الواحد وكالروح الواحدة، تجمعهم الجبّة السوداء الواحدة وتجمعهم هواجس الحرية وأمل لاحدّ له…

تطرّقوا إلى كثير من الأسئلة التى تشغلهم، ما هي آفاق الاعتصام ؟ إلى أي حدّ يمكن أن يستمر؟ هل ستتفهم السلطة هذا الشكل النضالي الراقي؟ وهل من أمل في سلطة في حالة هيجان؟ وقال البعض إنها في أيامها الأخيرة، وأنها تجيد صنع الأزمات ولا تعرف الخروج منها، لأنها لا تجيد لغة الحوار، ولا تؤمن به أصلا وهي مدمنة على التحاور بالعصي، ولكنها لغة لا تنفع مع المحامين، تحدّثوا عن الجلسة العامة الاستثنائية التى ستنعقد صبيحة اليوم الموالي، السبت 14 ماي 2005 بأحد النزل بقمرت، وكان الهم واحد، الدفع في اتجاه تدعيم الاعتصام، والبحث عن تطوير أشكال المقاومة، لمزيد التأثير أملا في تحقيق الأهداف..

دبّ الارهاق في عيون الساهرين، ولكي ننام دخلنا دهليزا تحت الأرض، قال الحالمون مثلي أنه يشبه المقابر الفرعونية، وقال أصحاب التجارب أنه يشبه أقبية التعذيب بوزارة الداخلية التونسية.. جدرانه سميكة وعالية، قليل الأضواء الطبيعية المطلة من السقف، وحتى الأضواء الكهربائية فاترة وذابلة، توحي بحزن وقتامة ينطبقان على واقع المحاماة في واقع الاستبداد، قضيت فيه ليلة أحسست لطولها أنها ليلة من ليالي أهل الكهف، فتحيّة لمن قضوا فيها أربعين ليلة وما زالوا معتصمين، وتحية لمن تحملوا عشرات السنين في الجحور والمعتقلات، انبلج النهار، وكان علىّ أن أبحث عن مدخل حديقة دار المحاميي، إنها مكان تناول فطور الصباح، كانت قد رافقتني إليها الزميلة الأستاذة سنية بن عمر أثناء جولة استطلاعية لدار المحامي، هي عبارة عن مضيق حاد، أربعة أو خمسة أمتار على مترين في أحسن الأحوال، ميزته أنه يفتح على ضوء الشمس، وبعض الزهور تتسلق حائطه الأيسر خلسة وكأن الزهور هي أيضا ترفض التفرج على غياب الربيع، علقت أحدى المعتصمات وهي تدخله ” وكان ماجاتش ها البليصة رانا متنا”..المكان الوحيد الذي نطل منه ولا نرى أعوان أمن ..” .

وزّعت المهام بعد الفطور، إتمام اعداد الرسالة التى تعدّها لجنة الاعتصام إلى الجلسة العامة وطبعها، ومن يبقى بمقر الاعتصام ومن يذهب الى الجلسة، وكان الجميع يفضلون الجلسة العامة، وتعهّد الأستاذ نور الدين البحيري بأن يبحث عن متطوعين للبقاء مع أحدى الزميلات، التى عبرت عن استعدادها للبقاء ..

مرّ الوقت سريعا واقترب المساء، وانطلقنا نحو نزل قرطاج “بقمرت”، حيث تقام الجلسة العامة الاستثنائية، المتعلقة بمآل المطالب المهنية، والاعتداءات على المحاماة
..
في الطريق وبصمت أعددت في مخيلتي الكلمة التالية، لإلقائها على الحاضرين:

أيها الزملاء، لم أتدخّل بجلسة عامة منذ عشر سنوات كاملة، سكتت مثلما سكت الكثير منكم، ومثلما سكت الجميع في هذا البلد، حتى لم يعد بدّ من الكلام بعدما أصبحنا الهدف، هدف الظلم والتجبر والطغيان والاستعلاء، هدف الذين لا يروق لهم هذا الصوت الحر النشاز المتبقي، داخل معزوفة الصمت المطبق، التى تريد أن تفرضها السلطة بالحديد والنار..

كنت تكلمت منذ عشر سنوات، في ظرف يشبه هذا الظرف حد التماهي، عندما وقع ايقاف الأستاذ محمد نجيب الحسني، ووجهت له تهمة حق عام وحوكم بسرعة، وحرم من حق الدفاع عن نفسه، ولم يستجب لطلب المحامين تأخير القضية لوقت كاف لاعداد وسائل دفاعهم، فانسحبوا من قاعة الجلسة، ليقضى بسجنه لثماني سنوات كاملة، في ملف لا دليل فيه ولا شهادة، غير اختبار خط أنجزته وزارة الداخلية دبّر بليل، حرّر فيه أن الامضاء المضمّن بالعقد المرمي بالزور، ليس إمضاء الميت المزعوم التغرير به، كما لم يثبت للأمانة والتاريخ، ولم يشر أصلا الى أنه تعلق بخط الاستاذ الحسنى، فكان ذلكالاختبار أكثر نزاهة، من الحكم الذي صدر في القضية برئاسة القاضي المختار اليحياوى، الذي أجبر لاحقا على الاستقالة، من القضاء لفضائح تتعلق بالرشوة..
وكان المأزق في قضية الأستاذ الحسني، فلم يستطع النظام أن يقنع أحد بأن جريمة الأستاذ الحسنى جريمة حق عام، وتبنت قضيته كل المنظمات الانسانية في العالم، وأفرج عنه بالسراح الشرطي، وهو الاجراء الذي نشط في حق سجناء الرأي، ليظل مصير المفرج عنه بيد لجنة السراح الشرطي، التي يمكنها أن تجتمع في كل وقت لاعادته الى السجن، كلما أرادت السلطة ذلك.. وهو تسريح يؤكد أن العفو لا يعرف له النظام سبيلا، إلاّ لمن قاربت عقوبته على الانتهاء، وهو بالظبط ما يحدث مع الاسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال..

وكنت شدّدت في جلسة عامة استثنائية تتعلق بالبحث في قضية الأستاذ الحسنى، شبيهة بجلسة اليوم المتعلقة بالأستاذ عبّو، على التنبيه الى ضرورة التصدّى بحزم لمحاولة تركيع قطاع المحاماة، والوقوف بشدّة دفاعا عن الحسنى، وأننا سنقول يوما أكلنا يوم أكل الثور الأسود، ولكن هيأة العميد عبد الوهاب الباهي آنذاك الموظف الآن لدى النظام، والمرشح الحالي لوزارة عدله حسب بعض الأوساط، لم يبذل الجهد الكافي للدفاع عن الحسني، واكتفى بتكثيف الوساطات للسجن، للأستاذ الحسنى ليكفّ عن نشاطه الحقوقي في الدفاع عن حرفائه المسجونين، من أجل آرائهم مقابل اطلاق سراحه ، ولكنه أبى واستمسك ..

اليوم تعيد السلطة صنع الأزمة، ..وتعيد نفس الأساليب بطريقة مرتجلة مشوهة، وعشوائية في قضية الأستاذ عبو وبن مراد وسنية بن عمر ..

ففي قضية الأستاذ عبو، يختطف فور نشر مقاله المتعلق بمقارنة بن على بشارون، دون علم النيابة العمومية، ويتهّم بنشر أخبار زائفة، على ضوء مقاله الصادر في تونس نيوز في أوت 2004، المتعلق بمقارنة السجون التونسية بسجن أبو غريب في العراق، وهي تهم سقطت بمرور الزمن، طبق قانون الصحافة، ثم تصبح التهمة الرئيسية الاعتداء على زميلته التجمعية” دليلة مراد”، بعد شكايتها ضدّه المؤرخة في عام 2002 ، لتصبح القضية لدى الصحافة المأجورة في البلاد، هذه الصحافة التى تقتات على حساب حرية الناس وكرامتهم، تصبح قضية حق عام، حتى يستمرّ النظام في المغالطة، ورفع شعار أنه لا يوجد عندنا مساجين سياسيين، ولكن مساجين حق عام، وما أسهل أن تتحوّل القضايا السياسية الى قضايا حق عام، فبقدرة قادر وقبل أن يرتدّ اليك طرفك، تجد المعارض السياسي أو الناشط الحقوقي، مورّط في قضية حق عام، ويصبح مجرما خطيرا، وتتحول لكماته السياسية للنظام، إلى لكمات حقيقية لدليلة مراد ( محمد عبو ) ومدير سجن الكاف وأعوانه ( سنية بن عمر )…

ولم يصعب على القاضي محرز الهمامي، أن يضمّن قضية المقال الذي نشره عبو وقضية شكوى العنف في محضر واحد، ثم يصدر حكما بالسجن في قضية العنف لمدة عامين، لا يمكن أن تتجاوز العقوبة بشأنها لو كانت قضية حق عام عادية الخطية، وليقلل من شأن القضاء ومن صمعته لدى الناس عامة، ولدى رجال القانون بصفة خاصة، ثم يصدر المجلس الأعلى للقضاء الذي يرأسه رئيس الدولة توصياته المتعلقة بالضرب على أيدى المحامين..

وقبل أن يرى بيان المجلس الأعلى للقضاء النور، يطبّق قضاء محكمة قرمبالية التوصيات على الأستاذ فوزي بن مراد، الذي تشنج قليلا أثناء دفاعه عن أحد حرفائه، فحكم عليه بالسجن لمدة أربعة أشهر، مع النفاذ بتهمة المسّ من هيبة المحكمة، لأنه طلب من الرئيس الاستماع اليه وعدم مقاطعته…

السيد العميد: في هذا الوضع لا يمكن للمحامي أن يعمل، المحاماة مهنة حرة، ولا تعيش الاّ في جو الحرية، وإن كان يمكن أن تستمرّ المهن الأخرى تحت الضغط والترهيب، فالمحاماة لا ، لأنها مهنة الدفاع عن الحرية، ولا يمكن لأصحابها إلاّ أن يكونوا أحرارا أو يحرروا أنفسهم أولا، لا يمكن لمحام أن يبدع وهو خائف، نحن نذهب الى قصور العدالة، وقد لا نعود لتشنج بسيط، قد يحدث أمام هيأة المحكمة ، ونحن بشر قد نتشنج أو ننفعل، ونتحمّس في الدفاع عن حرفائنا، مثلما قد يتشنج القاضي، ولكن للقاضي حصانة ولا حصانة لنا، فنحن نرى أنفسنا أمام القاضي بين مطرقة توصيات المجلس الأعلى للقضاء، الداعية للضرب على أيدى المحامي، وسندان الفصل 46 من قانون مهنة المحامي، الذي يجيز حبس المحامي حينا ويجعله في وضع أقل ضمانة وأريحية…

سيدي العميد إننا لا نريد الا أن نمارس مهنتها بلا خوف، لأنها مهنة تتعارض مع الخوف، بل تحمل الأمل للناس، وتساعد القضاء على اقامة العدل، فميزانها وميزان القضاء واحد، ولا استقلال للقضاء الاّ بمحاماة قوية وحصينة وحرة ومستقلة،وعلينا الآن أن نواجه مصيرنا ونصمد، ونستميت في الدفاع عن حقوقنا ، ولنستعدّ لنفس أطول حتى تحقيق المكاسب، وهي متحققة حتما، ولنخرج الى مواجهة التحديات، وكفانا تلميعا للسيوف، ولا نكون كوضع عباس الذي قال عنه أحمد مطر
:
عباس…يقض..منتبه حسّاس..

منذ سنين الفتح وهو يلمع سيفه..

ويلمع شاربه..

صرخت زوجته :

عباس : ضيفك سرق نعجتنا ..

فمضى يلمع سيفه..

عباس : أطفالك قتلى..

فمضى يلمع سيفه..

عباس : ضيفك راودني !؟؟

فمضى يلمع سيفه.. ويلمع شاربه..

عباس : لماذا تلمع سيفك ؟

قال : لوقت الشدة..

وبدأت الجلسة العامة، وحدّد وقت التدخل بثلاث دقائق فقط، فقررت أن أستجدى العميد في قليل من الدقائق الاضافية، إكراما لسنوات الصمت العشر الماضية…

تدخل كثير من المحامين وأجمعوا على ضرورة المقاومة، والدفاع عن مكتسبات المهنة، والغاء الفصل 46 من قانون المهنة والحرية لمحمد عبو وفوزي بن مراد، وإيقاف التتبعات في حق بقية الزملاء، واقترحوا مواصلة الاعتصام وتطوير أشكال النظام، مثل اقامة اعتصامات دورية بالمحاكم في كامل تراب الجمهورية، ومقاطعة النيابة في الدوائر الجنائية بما فيها التساخير، ومنهم من دعى إلى مقاطعة دفع الضرائب حتى تقع الاستجابة للمطالب.. فعبّر المتدخلون عن حقيقة مشاغل المحامين وتوجهاتهم، وجاء دوري في إلقاء الكلمة التى طالما أعددتها كما أعددت كثيرا من الكلمات الصامتة في سنوات الصمت… وكانت سبقتني محامية تجمّعية أفقدت تركيز الحاضرين، لمّا أصرّت على عدم مغادرة منصّة المداخلات، وتمسّكت بخنق المصدح بين كفّيها رغم انتهاء الوقت، وظلت تردّد دعوة الأقلية التجمّعية الى الغاء الاعتصام، والتهديد بالواقع المظلم الذي ينتظر المحاماة ما لم تستسلم.. ضاع تركيز المحامين..ولم أستطع اعادة شدّ انتباههم بسرعة لحالة الغضب التى كانوا عليها، ولم أقل ممّا أعددت شيئا وسرى علىّ قول الشاعر :

وكنت معدّا للعتاب صحائفا فلما التقينا ما وجدت ولا حرفا.

ومطط محامو التجمع في التدّخلات قدر المستطاع، أملا في أن يغادر المحامون القاعة قلقا فتفشل الجلسة العامة، ولكن أحدا من الحضور لم يغادر وصمدوا بكل وعي حتى آخر لحظة
..
وبدأ الرئيس بتلاوة مشروع لائحة الجلسة العامة، فالتفّ وتجمهر حول منصته وأعضاء هيأته، مجموعة قليلة من محاميي التجمع أغلبهم في حالة سكر مطبق وهجموا عليه، وحاولوا افتكاك اللائحة من بين يديه، وأشبعوه سبّا وشتما وتهديدا عباراته شديدة البذاءته، ومنعوه من مواصلة قراءة اللائحة أكثر من مرة، ولكنه قاوم بشراسة ليتمها وليعرضها على التصويت، ولم يمانع بشأنها الاّ القلة من التجمّعيين، لأنّها تضمّنت المطالبة بحرية الزملاء، واعتبارهم مسجونين من أجل الحرية، ولأنها طالبت باستقلال القضاء، وبتحقيق مطالبنا المهنية وإلغاء الفصل 46 من قانون المهنة، وصفّق للائحة جمهور المحامين الغفير( قرابة ألفي محامي )، الذين بقوا لساعة متأخرة من الليل للتصويت لصالح حقوق الدفاع، ورددوا لفترات شعار محاماة مستقلة، والخلية على برّة، وظهر التجمعيون أقلية رديئة ومهرجة وفوضوية ومعزولة عن باقي المحامين، مثل عزلة الانظمة عن شعوبنا، كما أظهرت من سوء الخلق وعدم الحياء ما يكفى لاقتناع، بأننا في مواجهة أناس لا مبادىء ولا قيم ولا أفكار لها، بل قيمها العنف والعصيّ والفوضى، وتدرك أنها لن تستطيع الاستمرار إلا عبر تلك الرداءات…

في وقت متأخر من الليل عدنا الى مدينة الكاف، ومعنا هاته المرة الأستاذ محمد نجيب الحسني، فأوقفتنا دوريات المرور أزيد من ست مرات، وفي كل مرة يصيح في وجوهم الأستاذ الحسنى” اتركونا نعود الى أطفالنا حرام عليكم..نحن مرهقون..نحن لم نخالف،لماذا توقفوننا؟ اتركونا نمرّ ثم اكتبوا ما شئتم من تقارير “طبنا مررتولنا العيشة “، لقد كنت في اسبانيا، تعرفون ماذا فعل العرب بالاسبان ؟ قتلوا منهم مئات الأبرياء، كنت أتجول في مدريد ملتفتا يمينا وشمالا، اعتقدت أن لو اكتشف عروبتي اسبانيا لقطّعنى بأسنانه، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث، لم يوقفوننا ولو مرة واحدة، كانت ملامحنا العربية بارزة، ولم يتعرّض لنا أحد، وهنا في بلدي أقضي الساعات بين حواجز التفتيش، يا أخى حرام عليكم، حرام عليكم.. وأحيانا يعتذر الأعوان، ومنهم من يسبّ عمله ويتمتم ” نعلبو ها الخدمة “.. ومنهم من يقول بأنها تعليمات..

وتذكّرت ما قاله لي صديقي الصحفي الطاهر العبيدي، عمّا قرأه للقاضي البطل ورمز استقلال القضاء، المختار اليحياوي ساخرا من كثرة الحواجز المرورية الحادّة من حرية تنقل الأستاذ الحسني، من أن الأخير لو امتطى دابّة لوصل الى تونس في وقت أسرع من الوقت الذي يقضيه بالسيارة…

وأخيرا عدنا لمدينة الحصار، بعد يوم وليلة قضيناهما خارج زمن القهر … وفي جوّ المحاماة الحرّة التى لا تستكين، وبين رجال ونساء نذروا أنفسهم للدفاع عن شرف المهنة…

عدنا وعدت أنا بدوري الى مدينتي التي يطحنها القهر وتتسكع فيها الأحزان

*******************

* محامي مستقل / من تونس الخضراء/