المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

islamistes

بقلم محمد ناصر المولهي،

ونحن نبحث في مدار الحركات الإسلامية، السياسية بالأساس، وجدنا قراءات عدة عن منشئها، أولا، نكتفي بسرد أبرزها. إذ هناك من يرد نشوء هذه الحركات إلى حالة الاغتراب والصدمة الحضارية التي واجهها العرب المسلمون أمام الهيمنة الغربية الكلية، اجتماعيا وعلميا وثقافيا واقتصاديا، وهناك أيضا من يرد المنشأ إلى فشل التيارات القومية في رفع راية الهوية العربية والتأسيس لمسار عربي اجتماعي واقتصادي وسياسي منبثق من جذور الحضارة الإسلامية وأيام الزمن الضائع. هناك كذلك من يرد نشأة الحركات الإسلامية السياسية إلى ثقل استبداد الأنظمة الدكتاتورية الموالية للغرب، فجاء المشروع الإسلامي خطوة لإعادة هيكلة النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية للتأسيس لدول تستأنس بذكريات الماضي وتعيد أمجاده الراسبة في الأذهان.

قراءات عدة تفحص وتفسر منشأ التيارات الإسلامية السياسية، لكن مهما اختلفت وتباينت هذه القراءات، سواء في صحتها أو قوة مقاربتها، فإنه لم يعد البحث في المنشأ هو الأهم اليوم، بل المبحث الأساسي هو طريقة اشتغال هذه الحركات وفكرها وسبب انتشارها والمدى الذي يمكن أن تحمل إليه شعوبها، خاصة في ظل صعود هذه التيارات إلى سدة الحكم في عدة دول عربية، وتهيئها لحكم دول أخرى. هذه الحركات التي صعدت بقوة إبان ثورات الربيع العربي، التي أشعلها شباب مطالبين بالحرية والكرامة وطامحين إلى العدالة الاجتماعية والتأسيس لدول ديمقراطية، تنهي تاريخ دكتاتوريات العسكر والحزب الواحد التي خلفت ما خلفته من احتقان وتفجر اجتماعيين. ما يجعلنا نتساءل : مالذي جعل ثورات بهذا المنزع التحرري تعطي زمامها لحركات أصولية، حتى وإن أنكرت ذلك عن نفسها؟ سبب الصعود إلى الحكم ربما أصاب القائلون بمسألة الصدمة الحضارية التي يعانيها العربي والمجتمعات العربية عامة، صدمة أفرزها التخلف الشامل الذي طال كل القطاعات من ثقافة إلى سياسة إلى اقتصاد الخ، فوجد العربي اليوم نفسه مستهلكا لما لا ينتج محاطا باليأس والحاجة حتى إلى أبسط حاجيات حياته، فرد يخرج من بيئة علمية واجتماعية وسياسية لا تواكب التطور ولا تسعى إليه إلا كضرورة قصوى أحيانا. وقس على ذلك حال مجتمع بأسره سواء في المدن او الأرياف المنسية عند السفوح.

إن ما يميز المجتمعات العربية هو اليأس والكسل، سواء على الصعيد العملي او الفكري، وهما أمران ولدهما القمع وإغلاق المجال أمام كل تجديد وكل أمل أو إصلاح، من قبل الأنظمة المتعاقبة على هذه المجتمعات من ملكيات أو بايات أو رئاسات أو أنظمة عسكرية أو أنظمة وليدة الحزب الأحادي وغيرها. هذا ما جعل من الفرد العربي امرأة أو رجلا شابا أو كهلا متعلما أو أميا، الجميع مشتركون في هذا القنوط العام. حيث تنعدم تقريبا روح المبادرة الفردية، ومرد هذا ربما هو تذويب الفرد العربي في النسيج الاجتماعي الذي تحكمه التفرقة، سواء الطائفية أو القبلية أو الدينية أو غيرها. فلا قيمة للفرد في المجتمعات العربية إلى اليوم.

الحل في الحلم الجماعي، لكن كيف يكون هذا الحلم وكيف نتفق عليه؟ الشعوب المنهزمة دائما تتخلى عن مشهد الهزيمة والانحطاط وتلمع ما تتمكن من تجميعه من ذاكرتها عن ما قبل الهزيمة. هكذا إذن ولد الاتفاق الجمعي لعقول مذعورة من الغزو الحديث الشامل للثقافة الغربية، تحت غطاء عاطفي أعمى عن اهترائه، هذا المتفق هو الحلم بالعودة إلى الزمن الماضي ومحاولة إنعاش الدولة الإسلامية التي شهدت طفرة حضارية كبرى في الماضي وفق ما روته عنها الذاكرة. لذلك جاءت الحركات الإسلامية السياسية منفذا هاما يداعب عواطف الشعوب المنهكة عقولها، ويفتح لها إمكانية للحلم بإرجاع الماضي التليد، وخاصة يغذي النرجسية الغريبة الراكدة في أعماق كل مواطن عربي على اعتبار أنه خير الأمم التي أخرجت للناس.

الثنائية عند التيارات السياسية الإسلامية

تقوم أغلب التيارات الإسلامية السياسية على ثنائيات عديدة، نبدأها من ثنائية الواقع والفكر الإسلامي، إذ تقوم بأقلمة الواقع العربي مع أفكار إسلامية مشذبة أو كما هي، فتقحم الواقع في الأفكار، القديمة أغلبها، أو تزين بعض الأفكار لتأتي على مقاس الواقع، كمفهوم بيت مال المسلمين أو صندوق الزكاة اللذان يتخذان تسميات أخرى أكثر عصرية، لكن مع الحفاظ على الجوهر. طرح لا يفكر في مدى جدوة إحياء الماضي بدل السعي إلى التجديد والخلق. أضف إلى ذلك ثنائية الخطاب المنبثق عن ثنائية أخرى هي ثنائية الفكر الذي تولده ثنائية الكوادر، إذ تنقسم التيارات الإسلامية السياسية إلى شقين دائما : الشق المتشدد الذي يحافظ على أحلام اليائسين من هذا الزمن الصادم بعودة الماضي كما هو، والشق الوسطي الذي يروج في ظاهره للوسطية والحداثة تلبية للطبقات الشعبية المنادية بالتطور والحداثة المتجذرة. هذين الشقين ينتجان بالضرورة خطابين مختلفين، لكنهما تحت نفس السقف أو الحركة أو الحزب أو التيار الإسلامي السياسي. وقس على ذلك من أساليب عمل هذه التيارات التي تؤمن بالتدافع الاجتماعي وهيمنة الأغلبية على الأقلية، فهي لا تؤمن بالفرد مطلقا. وسبق أن بينا أن ما يجعل من الفرد يقبل هذا الذوبان الشبه قسري في الجماعة هو اليأس من قدرته على الإنتاج وقدرته على الفعل والمبادرة، بسبب التدافع الاجتماعي الحر.

الفوز رغم الفشل

فشلت أغلب الحركات الإسلامية السياسية في تلبية مطالب شعوبها في الكرامة والإصلاح وحتى في إعادة الزمن الضائع بين تضاريس التاريخ، بل ومارست أغلبها القمع والعنف من خلال بعض أذرعها المتشددة، لكن ما الذي يجعل من إعادة انتخابها وتصدرها للمشهد السياسي أمرا ممكنا؟

لن ندخل هذا الباب ونفسر إعادة فوز الحركات الإسلامية بالحكم من خلال الدعم الغربي لها، أو دعمها لبعضها، بل لنفترض أننا إزاء انتخابات نزيهة وديمقراطية وشفافة، ولنعد إلى الناخب الذي يتقدم كفرد ليضع ورقة في الصندوق ويختار، نعلم جميعا كل من يتقدم ليكون ناخبا في أي دولة من الدول الديمقراطية هو طامح إلى أن يغير بصوته هو كفرد في المجتمع، لكن هذا يغيب في المجتمعات العربية حيث الفرد منعزل يذوب في الجماعة، وكأنه يتفتت إن ظل بمفرده أو حلم بمفرده. الفرد العربي يسكنه اليأس والكسل كما بينا، نظرا للتركيبة النفسية الفكرية التي خلفتها فيه بيئته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. لذلك يلتجئ إلى الجماعة حتى قسرا من خلال الترهيب الإجتماعي الناعم، إذا ما أن يؤمن أحدهم بذاته حتى يرفض ويتم نبذه بل ومحاربته وتهديده أحيانا، هذا ماخلق الفرد اليائس، الذي يعد حاله مسألة قضاء وقدر وعليه الصبر والرضا، في جماعة مصابة بوهم العودة إلى الماضي، وترى نفسها بنظرة “نرسيسية” عميقة.

إذن يغفل هذا الفرد ذاته وهو لا يهتم بالبرامج الانتخابية أو غيره فقط يحركه وهم العاطفة والجماعة بعودة زمن لا يعرف عنه إلا انه زمن قوة العرب وهيمنتهم وازدهارهم. فيحاول نيل رضا الجماعة ربما ناله فتاتهم وتجنب الخروج عن عقالهم. لذلك فإعادة انتخاب الحركات الإسلامية وارد جدا بل يكاد يكون مؤكدا. خاصة في غياب المنافس الحقيقي.

هذه الحركات التي تسعى إلى إحياء الماضي بقيمه وشموليته اكثر من سعيها إلى تقديم بدائل فكرية جدية تطور مجتمعاتها وتحقق لها الإصلاح بل التثوير في مختلف المجالات، فهذه الحركات لا تؤمن بالثورة مطلقا لأن الثورة في رأيها فوضى وهدم للماضي، وهي لا تريد الهدم بقدر ما تطمح إلى حلول ترقيعية تحافظ بها على النظام كما هو لكن في جبة أخرى أكثر وهجا عاطفيا، ومن المفارقات العجيبة في المجتمعات العربية أن تمثل الثورة تيارات أصولية ضد مفهوم الثورة من أساسه ولنا في عدم مشاركتها في الحراك الشعبي العربي أبرز دليل على ذلك.

فشل اليسار والحداثيين

إن غياب المنافس الحقيقي للحركات الإسلامية الأصولية مرده انحصار الحركات اليسارية والحداثية على حد سواء، انحصار يمكن رده إلى عدم قدرة هذه الحركات على التغلغل في الجماعات المكونة للمجتمعات العربية، هذه المجتمعات التي لا تؤمن بالمواطنة بقدر ما تحركها النزعات القبلية أو الجغرافية أو الدينية أو غيرها من إفرازات العاطفة المكبوتة. ثم إن تناحر هذه الحركات في ما بينها كان ليكون أمرا عاديا لو اكتفى بالجانب الفكري وظل يحافظ على الرابط الجمعي بن مختلف الفصائل والتيارات والإيديولوجيات والتنوعات الفكرية تحت مسمى الحداثة، ولم يصل حد الانقسام والتشتت.

لكن الحداثة في ذاتها تمثل إشكالية كبرى في وجه هذه التيارات، فالشعوب العربية لم تفهم بعد الحداثة ولم تواكبها بل هي إما تتفتت عند مظاهرها أو تهابها أو تحاربها بضراوة. وكأن الحداثة غول العصر، وسبب تخلف وانحطاط هذه الشعوب. ثم حتى مفهوم الحداثة لدى الحركات اليسارية والحداثية ظل مفهوما وافدا، لم يتم تحيينه وتطويره وأقلمته وضخه في شرايين هذه المجتمعات بالطريقة المثلى. هذا ما جعل من هذه التيارات التي تغفل أن شعوبها مصابة بالوهم تفشل في خوضها لأي انتخابات كانت.