بعد ستّة أشهر من الآن، يُعيد التونسيون انتخاب السيّد بن علي رئيسا للجمهوريّة للمرّة الرّابعة بنسب المشاركة و نتائج الاقتراع التي عهدوها. هكذا ستكون عليه الأمور، سواء دعي البعض للمقاطعة أو لم يدع، و سواء كانت هناك منافسة أو لم تكن…هكذا ستكون الأمور حتّى لو كانت أغلبية الناخبين على قناعة كاملة بأنّ السيد بن علي هو مستبد أنّه أسّس لنظام سياسي مستبد فاسد هو الأسوأ الذي عرفته البلاد منذ استقلال و من أسوأ الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي، و هو نظام يذكّر في كثير من ملامحه بنظام ” التخليط و الإضاعة” ـ بتغير المرادي القيرواني، أحد حكماء القرن الثاني عشر ـ الذي عرفته تونس قُبيل انتصاب الحماية، و الذي صوّره محمد بيرم الخامس في السّطور التالية: ” فلو رأيت ما عليه القرار، لملئت رعبًا و لولّيت منهم فرارًا، من ذئاب تغتال و ثعالب تحتال، مجتهدة في قلب الرّحال و تشتيت الرّجال، و ثعبان شاغل فاه لابتلاع الأموال. فيالها من حال يرثي لها من رام النزال و تخرّ بشدّتها شامخات الجبال، افتضحت فيها ربّات الحجاب، و هوت الإيالة إلى الزوال و تمكن من القلوب الزلزال و تقاربت الأجيال و انقطعت الآمال و عُدّ الصلاح من المحال”.

السيد بن علي مستبدّ و نظامه استبدادي و هو يتصرّف كذلك منذ وصوله إلى الحكم و سيستمرّ كذالك إلى النهاية، و هو يقوم بدوره كاملاً و بآداءٍ حسن، في لا مبالاة بمشاعر شعبه و احتقار معارضيه و مناوئيه، لأنّ الكثير منهم ساعدوه على تركيز حكمه أو أعطوه الذرائع لذلك و لأنّ الكثير منهم ينتظر إشارة للرجوع إلى بيت الطاعة. ثمّ أنّه يتصرّف كذلك لأنّه مسنود من قبل الدّول الكبرى، الإتّحاد الأوروبي و هو الأهمّ في المعادلة التونسية حتّى موفّى سنة 2008 على الأقلّ، و الولايات المتّحدة إلى أن تجد له خلفَا جديدَا و ناصعَا يفي بمواصفات المستبدّ الحليف الطيّع في حربها الافتراضية على الإرهاب.


مخض شكوة الماء:

لهذا نعتقد أنّ التمادي في التشخيص و وصف طبيعة النظام و تعداد نقائسه و تُرّهاته، هو مضعية للوقت و الجهد و هو كمن يمخض الشكوة ماء، آملاَ في الحصول على الزبدة ! و ما من تونس، صغيرًا أو كبيرًا مثقّفًا أو أمّيًا، في الدّاخل أو المهجر إلا و يعرف أنّ الرّجل مستبدٌّ، يؤدّي مهامه بكفاءة عالية و مستويات رفيعة، لا يعبأ بأحد، في الدّاخل أو الخارج.

و يكفينا لومه على استبداده و التأشيرة بأفعاله و الاحتجاج على خروقاته للقوانين و مصادرته للحقوق و انتهاكه للدستور و نهبه للخيرات… فكلّ ذلك معلوم للجميع، و هو في صلب طبيعته، و لو فعل عكس ذلك لمستحقّ أن يُكرّس بالمستبدّ من قبل شعبه و العالم بأسره.

ثمّ يكفينا أيضًا التنكّه بتواضع مستواه الثقافي و التندّر بزلاّته و السّخرية من بساطة وعيه السياسي، فقد استطاع الرّجل أن يهندس لمعمار سياسي، أدخل فيه الجميع وسعى إليه سعيًا كلّ الذين ابعدوا عنه، و جميعهم من كبار المناضلين و ممن يحملون الشهادات العليا و يقدّمون أنفسهم على أنهم رجال فكر و مصلحين و مجتهدين. لقد غلب صاحب “الباك ناقص ثلاثة” أصحاب ” الباك زايد ثلاثين”، فرادى و مجتمعين و ليس دائمّا بالترهيب. الوعود الكاذبة… و الوعد الصادق

كلّ التونسيين يعرفون الوعود الكثيرة التي وعدهم بها بن علي يوم انقلابه، و كلّهم أدركوا بعد كلّ هذه المدّة الطويلة أنّه أخلّ بها جميعا و كذب فيها جملة و تفصيلاً.

و قليل من التونسيّين يعرف ما وعد الرّجل به نفسه يوم دخل قصر قرطاج، و ما أسرّ به لبعض خاصّته و تسرّب بعد ذلك، من أنه لن يترك مكانه و مقامه إلاّ على نعش. هذا هو الوعد الوحيد الذي سيفي به الرّجل، و هو يتصرّف منذ ستّة عشر سنة، في السرّ و العلانية، لإنجاز هذا الوعد.

و من القلّة القليلة التي كانت على علم بهذا الوعد، أؤلائك الذين صاغوا نصّ الميثاق الوطني. و تفطّن إلى ذلك البعض ممن وقّعوا عليه، لخلوّه من أيّ إشارة للتداول على السلطة، في أيّ مرحلة من المراحل.

أيُّ ديمقراطية هذه التي يُغيّب نصّها المؤسّس كلّ إشارة للتداول على السلطة؟ و أيُّ ديمقراطيين أولائك الذين وقّعوا على نصّ وثيقة تُؤبّد الحكم المطلق لفردٍ؟

لا أذكر أنّ كثيرًا قد طرحوا القضية في المناقشات التي دارت على مدى الأشهر التي سبقت التّوقيع على النّص. و لكنّ أذكر جيّدًا أنّي حضرت ندوة نظّمها التجمّع في قصر هلال في ربيع سنة 1988 لمناقشة وثيقة الميثاق و حضّرها ثلاثة من المستشارين في الرئاسة و وزير و عديد النوّاب البرلمانيين و أعضاء اللّجنة المركزية، و طُرحت القضية و اعترضت على تمشي السلطة في زيادة أغلال معارضة مخنوقة و دعوت إلى رفض هذا الميثاق. و هو ما أثار سخط الحاضرين و خاصة السيدين عبد العزيز بن ضياء و منصر الرّوسي، و كانا المروّجان الأكثر حماسًا للميثاق.

إنّ شبه الإجماع حول الميثاق الوطني و تنافس مُمثلي الاجتماع السياسي و المدني على توقيعه، و قبول بعضهم بالالتحاق به بالوكالة، من وراء الستار و دون اعتراف بهم، هو الذي منح نظام بن علي الشرعيّة التي كان يفتقدها. فقد كان الميثاق الوطني اللّبنة الأولى في المعمار السياسي للمستبدّ و هي اللّبنة الأولى التي يحبّ إزالتها إذا أردنا فتح فجوة فيه، خاصة و أنّ النظام هو الطرف الأوّل الذي بادر بخرق الميثاق المعلول.


الفاشة

الفاشة لمن لا يعرف معناها، نياشين أو أوسمة الباي، حصل عليه المرحوم الحبيب بورقيبة في إحدى مراحل الكفاح الوطني، و ردّه للباي احتجاجًا على أحد مواقف القصر. و هكذا كانت قضية ردّ الفاشّة من العمليّات السياسية الرّمزية التي يظطرّ لها زعيم سياسي و حزبه في مرحلة ضعف لا يقوى فيها على تحريك الشارع.

إنّي لا أدري حجم تمثيل كل حزب أو شخصية معارضة في الشارع التونسي و لا أتصوّر أن أحدا يستطيع التكهّن بذلك في الظروف الحالية، و أعتقد أن التجمّع الدستوري الذي يدعي لنفسه مليونين و مائتي و خمسين ألف مشترك، لم يجد منهم الكثير يوم يفقد السلطة، و لكنّنا تتبعنا دعوة أحد التونسيين على الإنترنت لمظاهرة مليونية يوم 20 مارس 2003 و لم تقع حتى في عشرة، و تتبعنا دعوة آخر لعصيان مدني في نوفمبر الماضي و لم يحدث. كما تتبعنا دعوة للتّجمّع لمساندة حمّادي الجبالي في إضرابه عن الطعام في السنة الماضية، و وقّع إلغاءه في آخر لحظة لأنّه لم يجتمع لذلك إلا أربعة أشخاص كما تتبعنا أخيرًا الدّعوة للدعوة للتّجمّع حول بناية التلفزيون للمطالبة بحرّية الإعلام و التي حضرها أقلّ من عشرين شخصًا و نسمع الآن عن دعوات لمقاطعة الانتخابات و أخرى للمشاركة و ثالثة للمنافسة في الانتخابات الرئاسية.. إلى آخر قائمة مبادرات المناضلين التّائهين بين الرّغبة الجامحة في حلحلة الأوضاع و الواقع البائس.

و نأمل أن يساهم كلّ ذلك في حلحلة الأوضاع و تحريك بعض الملفات… و لكن الواقع الميداني محزن و لا يدعوا للتفاؤل.

فكثير من المواقع التي تمكّنت منها فصائل المعارضة قد عادت للنظام – منظمة المحاميين الشبّان، و غدا عماد المحامين ـ و فصائل المعارضة الكثيرة و المشتّتة قد زادت تفكّكًا و تجزّءًا و كثير من المعارضين، قد رجعوا، فرادى وجماعات للبلاد و لبيت الطاعة، فيما يشبه السرّية الكاملة في حين كان الكثير منهم يمنّي نفسه بالرجوع إليها منتصرًا، على الأعناق. (1)

لهذا نعتقد أنّ التصريحات الهوجاء و الشّعارات الفضفاضة لا تغيّر شيئًا و ربّما تسيء لأصحابها أكثر ممّا تسيء للنّظام، و أنّه بالإمكان لمعارضة رمزية كمعارضة التونسية ـ و التي يخشى أنّ تتحوّل إلى معارضة افتراضية ـ أن تواجه النّظام على المستوى و بالأدوات الرّمزية… على طريقة الحبيب بورقيبة في ردّه للفاشة، و إن كان الاستشهاد ببورقيبة سيغيض الكثيرين، و لكن من سواه من رجال السياسة التونسيين خلّف لنا تجربة سياسية متكاملة يمكن أن تُنير سبل حاضرنا؟


دفن الميثاق الوطني و إرجاع الأوسمة.

عندما يولد الإنسان، يسجّل ميلاده و تحرّر في ذلك بطاقة ولادة، و عندما يتوفى المرء، تسجّل الوفاة و تحرّر في ذلك شهادة دفن. و يحدث ذلك أيضا في البيع و الشراء و في المعاملات التجارية و الشراكات. تنشأ الشركة فيتمّ تسجيلها و عندما تموت يقع حلّها باتفاق الشركاء أو بحكم قضائي.

عندما يولد حزب سياسي أو تحالف أو تكتّل يسجّل ذلك في يوميّات النشاط السياسي، سواء أقُنّن الأمر رسميّا أم لا، و لكنّنا لم نسمع يومًا بإعلان رسمي يفيد بموت المخلوق… و إن كان قد مات في المهد. هناك في الساحة السياسية التونسية أحزاب ميّتة منذ سنوات و احتفظ بجثّتها بدون دفن، و إني لأحتفظ بالورقات المؤسسة لخمسة تنظيمات سياسية في المهجر، ماتت يوم ميلادها و لكن لم يعلن عن موتها. و قد سمع الجميع بميلاد التّكتل الرباعي منذ ثلاث سنوات، و لم يسمع احد رسميًا بنهايته على الرّغم عن صوته المحقّق. و هل علم احد ببلاغ عمّا انتهى إليه التحالف بين النهضة و القيادة الشرعية لحركة الاشتراكيين الديمقراطيين منذ أربع سنوات.

و ليست هذه القضية بالأمر الشكلي و الإجرائي كما قد يتصوّر البعض، إنّما هي من صلب أخلاقيات العمل السياسي و الممارسة الديمقراطية التي تشترط في جملة ما تشترطه الوضوح و الشفافية و الأمانة تجاه المواطنين. و هي أيضا سلاح سياسي رمزي في أيدي معارضة لا أعتقد أنّها تملك خيرًا منه بل هو الوحيد الذي تملكه، فالدّعوة إلى مقاطعة الانتخابات التي يُلوّح بها البعض على الإنترنت ليست مأمونة النتيجة و لن يستطيع أحد الإثبات بالدّليل القاطع أنّ الناخبين قد استجابوا لدعوته و قد تعوّد المواطنون عمليًّا مقاطعة الانتخابات بنسب هامّة و لكنّ النظام تولّى على الدّوام الاقتراع نيابة عن الغائبين.

أمّا المشاركة في الشّرعيات التي يدعو إليها البعض الآخر من المعارضين، فسوف تعطي نفس النتائج التي تعوّدنا عليها أي صفر فاصل أعشار للمعارضين مع ضمان الانتخاب للعدد المألوف من النّواب في صفوفهم و لكي يعاملهم رئيس البرلمان بما عامل به زملاءهم في النيابة الحالية. (2)

و لا مانع في أن تقع الدعوة للمقاطعة بالتّوازي مع عمليّة جماعية للخروج من الميثاق الوطني و الإقرار بموته نهائيًا و كذلك إرجاع أصحاب الأوسمة و النياشين لها، و نذكر من بينهم السّادة محمّد مواعدة و محمّد حرمل و محمّد بالحاج عمر و منير الباجي و أحمد نجيب الشابي و غيرهم كثير، و هم جميعًا حصلوا على وسام الجمهورية بتاريخ 25 جويلية 1991، و أذاقهم النّظام بعد ذلك العلقم.

أمّا من يرى هذا المقترح سخيفًا و لا يفي بحاجيات المرحلة التي تتطلّب تهييجًا للشارع التونسي و هبة جماهيرية تطيح بالنظام ـ بعضهم يرى أن نفخة واحدة تقضي عليه ـ فأرجوهم أن يسرعوا بها ويريحونا ـ أمّا نحن فليس لنا إلا المطالبة بالخروج من المعمار السياسي الرّسمي الذي أسر الجميع و مقاطعته و الدّعوة للاستقالة رئيسه.

و ثمّة قضية فرعيّة على الرّغم من أهميتها و هي التي تخصّ المساجين السياسيين و التي لم تجد حلاًّ خلال العقد الأخير عبر المطالبات المتكرّرة بإطلاق سراحهم و لا أحسب أيضًا أنّ النظام سيعفى عنهم في القريب كما يلوّح بذلك البعض.

أعتقد أنّ هذه القضيّة لن تجد حلّها إلاّ عبر مفاوضات بين النهضة و النظام، مع ما يتطلّب ذلك من مراجعات و تنازلات، كما أعتقد أنّه لو سعت قيادة النهضة نحو النّظام و بذلت في ذلك واحدا في المائة ممّا بذلته للتقرّب من الجماعات الماركسية، لحلّـت قضية المساجين من سنوات ـ لكن القضية قضيتها و المساجين لها و هي حرّة في التّصرف فيهم بما أرادت.

——————————–

* اللجنة التونسية للمطالبة باستقالة بن علي و تشكيل حكومة ائتلافية للإنقاذ الوطني تأسّس في جانفي 1993 بباريس

1- أي في النهاية في نفس الظروف التي صوّرتها في حينها جماعة آفاق العمل التونسي لرجوع المرحوم أحمد التليلي إلى تونس في 1967، حيث قالت الجماعة في أحد منشوراتها ( ياخي باش ننساو عمايلو مع الطبقة الشغيلة و تعاونو مع الأمريكان. و زيد آش عمل في الآخرة موش رجع يمرد و يلحس في سباط بورقيبة آش خلّى توّة ” العمل” تمجّد كل عام “المناضل الكبير أحمد التليلي” ).

عبد الجليل بوقرّة: حركة آفاق. صفحة 113 سراس للنشر ـ تونس 1993

2- في أفريل 2003 و قبل التصويت مجلس النوّاب التونسي على القانون الانتخابي الجديد، هتف عبد العزيز بن ضياء، المستشار الأوّل في الرئاسة، إلى رئيس البرلمان، فؤاد المبزّع و حثّه على الإسراع بإجراءات التصويت لنقاد صبر رئيس الدّولة. و ردّ عليه رئيس مجلس النّواب بأنّه سيدعو النّواب لذلك بعد يومين أو ثلاثة و سيأتون جميعًا كالكلاب للتصويت على القانون… و تمّ ذلك فعلاً و هم يعلمون ما وصفهم بهم رئيسهم.