المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

aid

بقلم فرحات عثمان،

نحتفل اليوم بعيد الأضحى الذي سمّي كذلك بِأَوَّلِ زمان إتيان الأضحية، وهو الضُّحَى. وكان أول فرض هذه الشعيرة فِي السَّنَةِ الثَّانية من الْهجرةِ. وسوف نعرض له في هذه المقالة من زاوية غير معتادة، ألا هي زاوية علم الإجتماع.

فلا يخفى على العارفين في دين الإسلام أن العديد من العادات فيه والاحتفالات لم تكن منه ولا أتى بها الإسلام بالمرة، بل دخلت إليه من جراء تغلغل عادات غريبة عنه، منها الكثير مما سمّي بالإسرائيليات، فعدّت إسلامية غلطا وأصبحت مع الزمن مما يُعتبر ضرورة منه.

1 – ما لا يقال عن عيد الإضحى كشعيرة من شعائر الإسلام

نعرض هنا، ونحن في أيام عيد الأضحى الذي أصبح من أهم المواسم الإسلامية، إلى خاصيتين لهذا العيد لم يعد المسلم يعيرهما اهتمامه؛ الأولى تخص السنّة المؤكدة المتعلقة بالأضحية، والثانية العلاقة بين عيد الأضحى والحج.

أما بالنسبة للأولى، فقد اجتمعت الأمة على أن سنة الأضحية تحي ما جاء به القرآن من فداء ذبح إسماعيل بكبش فداء. هذا ما يردده اليوم المسلمون مجمعين عليه، بينما لم يكن الحال تماما كذلك عند السلف الصالح.

فلنعد لقراءة ما قاله الإمام الطبري مثلا في تفسيره للآية عدد 107 من سورة الصافات حيث يقول تعالى :»وفديناه بذبح عظيم«. فبعد أن استعرض كعادته كل ما قيل في الموضوع، ومنها أقوال قليلة بأن الذبيح هو إسماعيل، وأقوال أكثر عددا من أنه إسحاق، يعلّق الإمام الجليل قائلا : »وأولى القولـين بـالصواب فـي الـمفْدِيّ من ابنـي إبراهيـم خـلـيـل الرحمن علـى ظاهر التنزيـل قول من قال: هو إسحاق، لأن الله قال: { وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيـمٍ } فذكر أنه فَدَى الغلامَ الـحلـيـمَ الذي بُشِّر به إبراهيـم حين سأله أن يهب له ولداً صالـحاً من الصالـحين، فقال: { رَبّ هَبْ لـي مِنَ الصَّالِـحِينَ }. فإذ كان الـمفدِيّ بـالذبح من ابنـيه هو الـمبشَّر به، وكان الله تبـارك اسمه قد بـيّن فـي كتابه أن الذي بُشِّر به هو إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، فقال جلّ ثناؤه: { فَبَشَّرْناهُ بإسَحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إسحَاقَ يَعْقُوبَ } وكان فـي كل موضع من القرآن ذكر تبشيره إياه بولد، فإنـما هو معنّى به إسحاق، كان بـيِّناً أن تبشيره إياه بقوله: { فَبَشَّرْناهُ بغُلامٍ حَلِـيـمٍ } فـي هذا الـموضع نـحو سائر أخبـاره فـي غيره من آيات القرآن.

وبعد، فإن الله أخبر جلّ ثناؤه فـي هذه الآية عن خـلـيـله أن بشَّره بـالغلام الـحلـيـم عن مسألته إياه أن يهب له من الصالـحين، ومعلوم أنه لـم يسأله ذلك إلا فـي حال لـم يكن له فـيه ولد من الصالـحين، لأنه لـم يكن له من ابنـيه إلا إمام الصالـحين، وغير موهوم منه أن يكون سأل ربّه فـي هبة ما قد كان أعطاه ووهبه له. فإذ كان ذلك كذلك فمعلوم أن الذي ذكر تعالـى ذكره فـي هذا الـموضع هو الذي ذكر فـي سائر القرآن أنه بشَّره به وذلك لا شك أنه إسحاق، إذ كان الـمفديّ هو الـمبشَّر به.

وأما الذي اعتلّ به من اعتلّ فـي أنه إسماعيـل، أن الله قد كان وعد إبراهيـم أن يكون له من إسحاق ابن ابن، فلـم يكن جائزاً أن يأمره بذبحه مع الوعد الذي قد تقدم فإن الله إنـما أمره بذبحه بعد أن بلغ معه السعي، وتلك حال غير مـمكن أن يكون قد وُلد لإسحاق فـيها أولاد، فكيف الواحد؟ وأما اعتلال من اعتل بأن الله أتبع قصة الـمفديّ من ولد إبراهيـم بقوله: { وَبَشَّرْناهُ بإسحَاقَ نَبِـيًّا }. ولو كان الـمفديّ هو إسحاق لـم يبشَّر به بعد، وقد ولد، وبلغ معه السعي، فإن البشارة بنبوّه إسحاق من الله فـيـما جاءت به الأخبـار جاءت إبراهيـم وإسحاق بعد أن فُدِي تكرمة من الله له علـى صبره لأمر ربه فـيـما امتـحنه به من الذبح… وأما اعتلال من اعتلّ بأن قرن الكبش كان معلقاً فـي الكعبة فغير مستـحيـل أن يكون حُمِل من الشام إلـى مكة. وقد رُوي عن جماعة من أهل العلـم أن إبراهيـم إنـما أُمِر بذبح ابنه إسحاق بـالشام، وبها أراد ذبحه.«

أما في ما يخص ارتباط عيد الأضحى بموسم الحج، فقد اختلفت الآراء أيضا وكثر الجدل بين المسلمين في العالم. فبعضهم يرى أن عيد الأضحى في كل العالم يجب أن يكون في اليوم الذي يلي يوم الوقوف في عرفة. أما البعض اللآخر فيقول أن عيد الأضحى ليس مرتبطاً بيوم عرفة أو بشعائر الحج، إنما هو شعيرة إسلامية منفصلة ومستقلة بذاتها، يجب أن تحدد تبعاً للرؤية المحلية للهلال. هذا، وقد كان الأمر تاريخيا على هذه الحال الأخيرة من تعدد أيام الاحتفال بعيد الأضحى كما رواه مؤرخو الإسلام، وكما بيّنه مثلا ابن حجر العسقلاني.

2 – عيد الإضحى كمهرجان في الإسلام الشعبي

لعل ما يميز الإسلام عن غيره من الأديان تعلّق أتباعه بطقوسه وشعائره حتى وإن كان ذلك بصفة غير تامة أو مخالفة لصريح النص في بعض تجلياتها، كأن يحرص المسلم علي الصيام وهو ركن هام من أركان الدين دون الصلاة الذ هو ركن أهم؛ أو كأن يضحّي بأضحية العيد دون العمل على القيام بما هو أوكد، ألا وهي الحج.

إن هذا النشاز الذي نراه في مجتمعاتنا الإسلامية بين ما هو نظري في الإسلام وما هو من العادات والتقاليد لهو ولا شك ما مكّن لهذا الدين ويمكّنه له من الدوام في النفوس رغم الهزات العنيفة التي حاولت تقويض صرحه وتداوم على ذلك.

فالإسلام بصفته صلة وثيقة ومباشرة بين الله وعبده، مع انعدام كل واسطة من نوع الكنيسة أو حتى المرجعية الفقهي،ة يؤسس لحرية العبد في التصرف في تفاصيل دينه ما دام يأخذ بأسّه ولبّه. لذا رأينا الإسلام الشعبي يختلف أحيانا، بل وكثيرا، عن الإسلام الرسمي، ورأينا هذا الأخير مضطرا لأن يغض النظر عن كل ذلك ما دام الأصل لا إخلال فيه.

إن المتمعن في العادات والتقاليد الإسلامية ليس له إلا ملاحظة مدى تعلق المسلم بدينه وحريته في طلاقة فهم هذا الدين في نفس الآن، فهو لا يشك في الأخد بدينه كما يجب لتشبثه بالتقاليد التي ورثها عن آبائه وعهدها منذ صغره. فلا مجال بالنسبة له للشك في حسن هذه العادات، ولا مجال للنقاش فيها أو حتى التمعن في ما اختزنته من رواسب من الماضي السحيق؛ فهي من الدين وإن لم يكن الدين منها.

والشعائر عند المسلم مواسم؛ والموسم، كل موسم، عيد أو فرصة سانحة لإقام العيد والاحتفال والمهرجان. لذا، فلا عيد بدون احتفاء واحتفال، ولا إقامة شعائر بدون مهرجان في الإسلام الشعبي الذي يبقي من أهم تجليات الإسلام.

تلك هي حال عيد الأضحى التي تقتضي وجوبا عند أغلب المسلمين، لا طقوس دينية ضرورة – بما أن الإسلام في سماحته لا يفرض ما لا طاقة للمسلم به -، بل ما من شأنه تحقيق ملتزمات المهرجان من احتفال وبهجة حتى وإن كان في ذلك تعنّت على النفس وتعب نفسي ومادي. فرب العائلة يحرص، أيا كانت ظروفه ، على أن يمكّن صغاره من نفس الجو الاحتفالي الذي عرفه في صغره، وكأنّ ذلك من أركان الدين لا يصح إلا بها.

والحقيقة أن مثل هذه النظرة للدين سليمة في توجهها النفساني إذ هي تضمن من الزواية الإجتماعية تأصل هذا الدين في نفسية المؤمن ورسوخه بها لما في ذلك من جوانب بهيجة وعوامل إيجابية ترّغب ولا تنفّر وتجلب فلا تُبعد وتُقصي.

إن هذه الخاصية لإسلامنا الشعبي لهي ميزة كبيرة تجعله ذلك الصرح المنيع في الأنفس، يتناسب ويتناغم مع مقتضيات الزمان الحاضر، أي زمن مابعد الحداثة؛ وهو هذه الحقبة الزمنية المتميزة بنزعة روحانية طاغية مع شدة تعلق بكل ما هو من باب الُمتعية ووجوب الاستمتاع بالوقت الحاضر والتلذذ بمباهجه. ولا شك أنه لا أكبر وأعلى من مباهج ليس لها فقط صبغة الحلال، بل وأيضا فيها تمام الدين.

بذلك قُلت وأقول أن هذه الخاصيات مما يؤهل الإسلام بأن يكون بحق دين ما بعد الحداثة بلا منازع.