صورة لسيف كوساني

استفاد قيس سعيّد من الأزمة السياسية والاقتصادية والوبائيّة ليشرع في إلغاء كلّ المؤسّسات شيئا فشيئا، بدءا بالبرلمان، وصولا إلى الهيئات التعديليّة مثل هيئة مكافحة الفساد، ثمّ المجلس الأعلى للقضاء والهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، دون أن يخفي توجّسه من الأحزاب التي قاطع أغلبها مسار 25 جويلية منذ ولادته. لا يُسمّي قيس سعيّد خصومه، ولكنّه يرفض وجودهم لأنّهم في نظره لا يمثّلون إرادة الشّعب التي اختزلها هو واحتكرها لنفسه. من هنا جاءت فكرة الاقتراع على الأفراد، حتّى يكونوا “تعبيرا عن إرادة ناخبيهم”، ويكون عضو البرلمان “مدينًا لناخبيه وليس للهيئة المركزيّة للحزب”.

الاقتراع على الأفراد: عزلة سياسيّة جديدة؟

هناك فرق بين من يحمل فكرا سياسيّا ومن يحمل حقيبة فيها أموال، ومن الطّبيعي أن يفوز من يملك المال.

هكذا لخّص محمّد الصحبي الخلفاوي أستاذ العلوم السياسيّة الطّريقة التي سيفوز بها نوّاب البرلمان القادم، في نظام اقتراع يُضعف دور الأحزاب مقابل تقوية مشاركة الأفراد. ويُضيف:

طبيعة الاقتراع على الأفراد ستجعل طموح الدّخول إلى البرلمان مُتاحًا للجميع، لأنّهم سيقيمون علاقة مباشرة مع أبناء الحيّ والعشيرة. نحن ذاهبون إلى مشهد سياسي كاريكاتوري مفرغ من أي مشروع ومن أي قدرة على التنسيق بين الناس، والبرلمان القادم لن يصلح لشيء.

من خلال متابعة السير البطيء للحملة الانتخابية ومتابعة بعض الأجزاء من فقرة “التعبير الحرّ” التي تبثّها قناة التلفزة الوطنية ومشاهدة الصور ومقاطع الفيديو على صفحات التواصل الاجتماعي لبعض المترشّحين، يبدو أنّ المشهد الانتخابي لا يرتقي إلى حجم المسؤوليّة الموكلة لهؤلاء المترشّحين في صورة فوزهم بمقعد في البرلمان، في الوقت الّذي يُنتظَر فيه أن تكون الطّبقة السياسية وليدة هذا المسار أكثر جديّة ومسؤوليّة.

يُفسّر الباحث في العلوم السياسيّة خليل العربي لنواة أنّ الطّبقة السياسيّة لها مكوّنان: مكوّن سياسيّ تُمثّله الأحزاب السياسيّة التي تخوض الانتخابات، ومكوّن غير سياسي يسمّيه محدّثنا “الجماعة المعرفيّة”، “التي تؤطر وتوفر قنوات إنتاج الأفكار والآراء في منظومة الحكم، وهي إحدى عناصر العقل السياسي الرسمي”.
في هذا الإطار، يمكن الحديث عن الأكاديميّين وأساتذة القانون والمختصّين في علم الاجتماع السياسي ودورهم في تأطير النّقاش العامّ، من خلال خوضهم انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، أو إبداء آرائهم في مشاريع القوانين والاستماع إليهم في اللجان البرلمانية، أو استئناس السلطة الحاكمة بآرائهم، مثل لجنة الحريات الفردية والمساواة التي تكوّنت صلب رئاسة الجمهورية وأصدرت تقريرا شاملا عن الحريات في جويلية 2018.
يضيف محدثنا:

سنكون إزاء طبقة تنتج من أفراد معزولين سياسيا وانتخابيا ضمن مجتمع سياسي بقي فيه الفاعل التقليدي-خاصة الاقتصادي- دون تغيير، ومؤسسات دولة عصية على الإصلاح، خاصّة الأمن والقضاء والإدارة. ستكون واجهة لتوازنات تتم خارج مؤسسة البرلمان

ممارسة السياسة من خارج الأحزاب: فكرة قديمة متجدّدة

يمنع القانون الانتخابي الجديد الأحزاب من الترشّح وخوض الحملات الانتخابية وتنظيم التظاهرات والاجتماعات، ولكنه لا يمنع الأفراد من التصريح بانتماءاتهم الحزبية واستعمال شعار الحزب وبرنامجه. ومن خلال إرساء الاقتراع على الأفراد ورفض فكرة “الأجسام الوسيطة”، يعلن قيس سعيّد القطيعة مع الأحزاب كمكوّن أساسي في العمليّة السياسيّة.

يُعادي قيس سعيّد كلّ ما يمكن أن يكون واسطة بينه وبين المجتمع. هذا الفكر يؤسس لعلاقة بين حاكم ورعيّة وليس بين حاكم ومواطنين،

يقول أستاذ العلوم السياسية محمّد الصحبي الخلفاوي لنواة، مُفسّرًا أنّ الديمقراطية قائمة على وجود قوّتَين متضادَّتين متلازمتَين، هما الدّولة والمجتمع، وأنّ “الإنسانيّة أوجدت طريقة لتعايش القوى المتصارعة اسمها الأجسام الوسيطة، مثل النقابات والأحزاب ووسائل الإعلام والبرلمان”.

 

من جهة أخرى، يرى خليل العربي الباحث في العلوم السياسية أنّ فكرة “الأجسام الوسيطة” لم تُلغَ تماما من مشروع قيس سعيّد، لأنّ:

فلسفة التنظيم القاعدي تتوسع في فكرة الوساطة نحو كل الفضاءات المؤسسية التي تلعب دورا في منظومة الحكم، عبر تغيير الهياكل والمؤسسات والإجراءات مثل إحداث مجلس الجهات والأقاليم وفرض شرط التزكية في الترشح للانتخابات.

فكرة خوض الشأن السياسي من خارج الحزب ليست وليدة منعرج 25 جويلية، ولكنّها ظهرت في شكل مبادرات “مواطنيّة” لعلّ أبرزها شبكة “دستورنا” التي تأسّست في 2011، وقدمت نفسها كـ “ائتلاف مدني” يضمّ مجموعة من المنظّمات. ترشّحت “دستورنا” في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي كقائمة مستقلّة لكنها فشلت في الظفر ولو بمقعد واحد.
وفي 2019، حملت عيش تونسي يافطة “ما تخافوش، مانش حزب” لتبثّ الطمأنينة في قلوب العديد ممّن خاب أملهم في الأحزاب واختزلوا الفعل السياسي في مكوّنات المشهد البرلماني آنذاك، ومهّدت لنفسها طريق الترشّح للانتخابات كقائمة مستقلّة، لم تنل سوى مقعد يتيم، رغم الإمكانيات المادية الضخمة التي استعملتها.

فشل الأحزاب في الصمود

منذ 2012، كان قيس سعيّد يحلم بتغيير نظام الاقتراع وإرساء البناء القاعدي الّذي ينطلق من المحلّي إلى الوطني، وأخذت الفكرة تتبلور تدريجيًّا خلال حملته الانتخابيّة. وأفلح في التقاط فشل حكومة هشام المشيشي وارتهان البرلمان لخلافات داخليّة سطحيّة للتشكيك في نظام الحكم القائم آنذاك وفي منظومة الأحزاب وفي قدرة الدستور على بناء دولة قانون ومؤسّسات.

ما طرحه قيس سعيد وأنصاره في مشروع البناء القاعدي هو أحد أعراض العجز والعطالة التي عرفتها مرحلة الانتقال الديمقراطي في تونس،

يقول خليل العربي لنواة، على اعتبار أنّ المرحلة التي تلت التأسيس (2014-2121) شهدت انفصالا بين النخبة الحاكمة ومكوّنات المجتمع، الّتي فضّلت تعبيرات أخرى من خلال اللّجوء إلى الشارع كشكل من أشكال الفعل السياسي . لكنّ منعرج 25 جويلية لم يقترح بدائل فعليّة وبقي رهين المقاربة القانونية في إيجاد الحلول، من خلال إصدار المراسيم والأوامر الرئاسية.

يمكن ملاحظة أن ما يُقدّم من الرئيس أو أنصاره هو مجرد عناوين كبرى، ظهرت عند تطبيقها حالة الارتجال والتخبط في الخطاب والقوانين والمؤسسات منذ 25 جويلية. كما أن دستور المنظومة الجديدة يُعيد هيكلة السلطة السياسية وتأطيرها، دون ضمانات حقيقية لحياة سياسية شفافة ومفتوحة على التعدد والاختلاف،

يلخّص الباحث في العلوم السياسيّة.

من جهته، يرى محمّد الصحبي الخلفاوي أنّ الخطأ في فترة البناء الديمقراطي يكمن في سوء إدارة الخلافات وعدم ممارسة السلطة بشكل جيّد. فعندما فازت النهضة في الانتخابات التشريعية في 2019، فشلت في اختيار رئيس للحكومة، وأُحيل الأمر على رئيس الجمهورية لاختيار الشخصية الأقدر على تشكيل الحكومة، تمامًا مثل حزب نداء تونس الّذي فاز في انتخابات 2014 ولكنّه اختار الحبيب الصيد رئيسا للحكومة، الّذي سحب البرلمان منه الثقة بعد سنة ونصف من الحكم.
كما تفرّع حزب نداء تونس في منتصف المدّة النيابيّة الأولى (2014-2019) وخرجت من كتلته البرلمانية مجموعة من نوّاب كوّنوا الكتلة الحرّة، ليتكوّن فيما بعد حزب مشروع تونس كتتويج لتلك المجموعة التي رفضت التوافق مع حركة النهضة في ذلك الوقت. ومع تولّي يوسف الشّاهد الّذي كلّفه الرئيس الأسبق الباجي قائد السبسي بتكوين حكومة جديدة خلفاً لحكومة الحبيب الصيد، برزت الخلافات بينه وبين ابن الرّئيس، ليخرج الشاهد من جلباب الرئيس ويكوّن أنصاره في البرلمان كتلةً “وطنيّة”، فحزبًا يحمل اسم “تحيا تونس”.

المؤسسات لم ترتكب ذنبا. الذنب هو ذنب الأشخاص والفاعلين السياسيين. ذنب منظومة سياسية يترشح فيها قيس سعيّد دون أن يكون له نوّاب في البرلمان. ضعف الأحزاب هو المسؤول على عدم الاستقرار الحكومي، ودستور 2014 هو أفضل دستور للبلاد، وخطيئته أنّه لم يجد من يدافع عنه،

يُصرّح الخلفاوي لنواة. ويضيف:

الوضع الآن أسوأ بكثير ممّا كان عليه في العشرية الماضية، على الأقلّ كنّا في تلك الفترة نشاهد الفعل السياسي يُصنع أمامنا.

صاغ قيس سعيّد قانونه الانتخابي الجديد بمفرده، ووضع فيه تصوّرًا لمشهد برلماني يكون فيه عضو المجلس التشريعي مسؤولا أمام ناخبيه الّذين بإمكانهم أن يسحبوا منه الوكالة “في صورة إخلاله بواجب النّزاهة أو تقصيره البيّن في القيام بواجباته النّيابيّة أو عدم بذله العناية المطلوبة لتحقيق البرنامج الذي تقدّم به عند الترشّح”. لكنّه غفل عن إمكانية توظيف آليّة سحب الوكالة بطريقة كيديّة، ولم يضع في الحسبان أنّ الاقتراع على الأفراد قد يفتح باب الزبونيّة واستخدام شبكات المصالح والعلاقات عوضًا عن تقييم المترشحين على أساس برامجهم.