كانت هذه الجالية الروسية من أولى نقاط الوصل بين روسيا الحديثة وأرض تونس، فقد أسس هؤلاء المهاجرون مدرسة حربية في المدينة أُغلقت سنة 1924 بقرار من المستعمر الفرنسي وكذلك كنيسة أرثوذكسية، عُرفت باسم كنيسة القديس ألكسندر فينسكي. غادر جل هؤلاء المهاجرين بنزرت بعد سنوات من المنفى ليبقى متحف “سرب البحرية الروسي” الصغير ببنزرت شاهدا على بواكير العلاقات بين روسيا وتونس. وبعد استقلال البلاد عن المستعمر الفرنسي، لم ينفكّ الاتحاد السوفياتي يدعم تونس في عديد المحطات السياسية، وخصوصا منها قضية الجلاء عن بنزرت، تلك المدينة التي شهدت الوجود الروسي الأول، حيث استقبل رئيس الوزراء السوفياتي أندري قروميكو الصادق المقدم كمبعوث دبلوماسي عن الرئيس الحبيب بورقيبة حينذاك، وقام الرئيس السوفياتي نيكيتا خروتشوف بدعم تونس دبلوماسيا في مجلس الأمن والتصويت لصالح الموقف التونسي.

 

علاقة في تطور بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي

 

رغم انخراط تونس في المعسكر الغربي خلال تلك الفترة، إلا أن العلاقات مع الاتحاد السوفياتي ظلت مستمرة وودية عموما، قبل أن تشهد العلاقات بين البلدين تطورا بعد انهيار الاتحاد وبروز “جمهورية روسيا الاتحادية” على عديد المستويات، كالمجال المائي، حيث قامت شركة “سيلخوز بروم أكسبورك” الروسية سنة 1999 بإنجاز “سد سيدي البراق” وإنجاز خطّ ثان لأنابيب الماء “سجنان جومين” و”سجنان-مجردة”. كما تتالت اجتماعات اللجنة الثنائية التونسية الروسية وخصوصا إثر سنة 1999، إذ تم توقيع اتفاقية تأسيس مجلس الأعمال الروسي التونسي في مارس 2006 وإنشاء أول مؤسسة روسية تونسية مشتركة لتعبيد الطرقات في تونس سنة 2008، إضافة إلى إسداء ترخيص للتنقيب عن النفط في تونس لصالح المؤسسة الروسية الفيتنامية المُشتركة في نفس السنة.
إلا أن المُنعرج اللافت في العلاقات التونسية الروسية قد تطور منذ ثورات الربيع العربي التي انطلقت شرارتها من تونس. يُشير الخبير الروسي في العلاقات الروسية-المغاربية فاسيلي كوزنيتسوف Vassily Kuznetsov ضمن هذا السياق إلى أن النخبة الأكاديمية الروسية قد توقعت تماما هذا الحدث عبر دراستها العميقة للتحولات الاجتماعية والسياسية التي يمر بها العالم العربي، غير أن هذه القراءة الاستشرافية لم تكن مماثلة لدى السلطة في موسكو، حيث أصاب السياسة الخارجية الروسية شيء من الارتباك في بداية عهد الثورات العربية، خصوصا في الملف الليبي، قبل أن تحسم موقفها مع امتداد الثورة إلى سوريا، التي يشكل نظامها أحد أقوى الحلفاء التاريخيين لروسيا في الشرق الأوسط.

 

طموح إستراتيجي متوسطي

 

عموما، خضع التعاطي الروسي مع المنطقة المغاربية إلى جملة من الأطر من بينها علاقة المغرب العربي بملفات الشرق الأوسط أولا واستراتيجية موسكو في التمدد السياسي والاقتصادي ضمن منطقة البحر الأبيض المتوسط. هذا الطموح الروسي تجاه المتوسط ازدادت آفاقه أثناء عملية ضم القرم من أوكرانيا سنة 2014، إذ فتح هذا الحدث مجالا جيو-استراتيجيا جديدا أمام الروس مع استغلال موانئ القرم نحو توجه أكثر للمياه الدافئة، وهو هدف استراتيجي روسي قديم يعود إلى أيام سطوة الامبراطورية الروسية، غير أن معاهدة “مونترو” Montreux لنظام المضائق البحرية قد قيدته بشكل كبير منذ توقيعها سنة 1936، خاصة وأنها وضعت حدودا لحركة الأسطول العسكري السوفياتي -والروسي فيما بعد -عبر مضيقي “البوسفور” و”الدردنيل”. كما أدى التدخل الروسي في سوريا وتطوير البنية التحتية للقاعدة العسكرية الروسية في ميناء طرطوس وقاعدة حميميم التي تم إنشاؤها قرب مدينة اللاذقية إلى مزيد من الاهتمام بمنطقة البحر المتوسط والسعي إلى البحث عن موطئ قدم آخر في غرب هذا البحر، وهو ربما ما يفسر التدخل الروسي في الأزمة الليبية كذلك ودعمها في مرحلة ما لمساعي وطموحات الجنرال الليبي خليفة حفتر لحكم البلاد.

 

فتور وفضيحة تجسس

 

وبالعودة إلى تونس، فقد شهدت العلاقات منذ سنة 2011 مدا وجزرا. فبعد فترة من عدم الوضوح خلال الفترة بين 2011 و2014، بدأت محاولات لإعادة الزخم للعلاقات، منذ زيارة الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي إلى موسكو ولقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين” ووزير الخارجية سرغي لافروف، والتي كانت بالمناسبة آخر زيارة خارجية له. إلا أن العلاقات مرّت إثر ذلك ببعض المطبات، ومن بينها حدث أخذ صدى إعلاميا في تونس، ويتعلق بالكشف عن شبكة تجسس تعمل لصالح روسيا في تونس في جويلية 2015، وقد أفادت المعطيات حينذاك بتورط روسيين اثنين وخمسة موظفين تونسيين في البلديات ضمن العملية التي تم كشفها أثناء الاشتباه في تحركات باحث روسي حول ملف الروسيين المهاجرين إلى بنزرت في بداية القرن العشرين، قبل أن ينسج نفس هذا الشخص الذي قدم نفسه لاحقا كدبلوماسي بالسفارة الروسية مجموعة من العلاقات مع موظفين وأعوان بلديات ويتمكن من النفاذ إلى بعض قواعد البيانات والمعطيات الخاصة بمواطنين تونسيين من مواليد سنة 1987.
رغم ما رافق القضية من جدل، شهدت الأشهر التالية تحولا مفاجئا في العلاقات، إذ بدأت عديد المحاولات في اتجاه إرساء أسس للتعاون الاقتصادي، فقد تم النقاش حول تطوير التبادل التجاري والسعي لتوقيع اتفاقيات شراكة للتبادل الحر، فضلا عن اتفاقية أخرى لاعتماد الروبل الروسي والدينار التونسي في المبادلات التجارية بين البلدين، كما تمّ طرح فكرة إحداث خطّ بحري بين ميناء صفاقس وميناء “نوفرسيسك” الروسي على البحر الأسود لدفع السياحة الروسية إلى تونس والترفيع من عمليات تصدير المنتجات التونسية إلى روسيا.

 

انتعاشة سياحية

 

معظم هذه المشاريع لم يجد طريقه إلى النور بعد، غير أن السياحة الروسية إلى تونس تطورت بشكل كبير ابتداء من سنة 2016 خصوصا، وبلغت مستوى غير مسبوق سنة 2019 قبيل جائحة الكوفيد بتوافد 630 ألف سائح روسي خلال تلك السنة، مما أنعش السياحة التونسية نوعا ما بعد فترة من الركود على إثر عمليتي باردو وسوسة الإرهابيتين سنة 2015 وتراجع عدد السياح من الاتحاد الأوروبي عقب تلك الأحداث.
كان تنامي الأدفاق السياحية الروسية تجاه تونس في تلك الفترة نتيجة لظروف أمنية أساسا، طرحت تونس كوجهة بديلة للروس عن مصر وتركيا، بعد حادثة إسقاط طائرة “سوخوي” في تركيا وتنامي العمليات الإرهابية التي استهدفت عددا من السياح، إضافة إلى حادث سقوط طائرة الآرباص الروسية في سيناء بمصر يوم 31 أكتوبر 2015 والتي أسفرت عن مقتل 220 راكبا روسيًّا. غير أن ربيع السياحة الروسية في تونس لم يتواصل بالنسق الذي كان عليه سابقا بسبب تداعيات الأزمة الوبائيّة خلال سنتي 2020 و2021 قبل أن تضيف الأزمة الأوكرانية خلال السنة الحالية مصاعب أخرى لتوافد السياح من روسيا تتعلق أساسا بالعقوبات المالية الغربية على روسيا والقيود التي فُرضت على حركة الطيران الروسي.

لم يمنع التراجع في الحركة السياحية الروسية التونسية تجاه تونس من جوانب أخرى للتعاون، أهمها التعاون في المجال الجوفضائي، حيث تم إطلاق أول قمر صناعي تونسي يحمل اسم “تحدي1 ” يوم 22 مارس 2021 من قاعدة “بايكونور” في كازاخستان عبر تعاون بين شركة “تلنات” التونسية وشركة GK Launch Services الروسية المسؤولة عن الإطلاق بصاروخ “سويوز 2” وشركة “سبوتنيك” الروسية هي الأخرى للمساعدة على التطوير. كما تم الإعلان يوم 13 أوت 2022 بمناسبة عيد المرأة عن 8 مترشحات لمهمة أول رائدة فضاء تونسية سيتم اختيارها لمهمة في محطة الفضاء الدولية بعد سنة من توقيع شركة “تلنات” لاتفاق مع وكالة الفضاء الروسية يشمل تدريب رائدة فضاء تونسية وإرسالها إلى الفضاء سنة 2024.

 

حذر روسي وغموض تونسي

 

لا يخفي هذا التعاون الذي تنوّعت أوجهه السنوات الأخيرة جملة التحديات التي تمرّ بها العلاقات التونسية الروسية اليوم تبعا للتغيّرات المتسارعة على الساحة الاستراتيجية. لازالت روسيا تنظر بعين الحذر تجاه التصويت التونسي لصالح قرار صادر عن الجمعية العامّة للأمم المتحدة قد أدان الغزو الروسي لأوكرانيا، على عكس المغرب والجزائر مثلا اللتين امتنعتا عن التصويت. يُفهم هذا الموقف من قبل تونس على أنه نوع من الاستجابة للضغوطات الغربية خصوصا، في سياق محادثات الدولة التونسية مع الأطراف الدولية المانحة، غير أن حالة من التذبذب الدبلوماسي تجاه روسيا قد لوحظت على إثر تصريحات أدلى بها السفير التونسي في موسكو طارق بن سالم لوسائل إعلام روسية أواخر شهر أفريل المنقضي فُهم منها تنظيم زيارة لرئيس الجمهورية قيس سعيد إلى موسكو “في أقرب وقت ممكن”. وهو ما نفاه السفير التونسي في الكونغو عادل بوزكري الرميلي على حسابه في تويتر الّذي قال إنّ زميله بموسكو قد تحدث عن “زيارات رسمية مستقبلية ” رفيعة المستوى. وبغض النظر عن فحوى التصريح وما تداعى عنه، تمر العلاقات الروسية التونسية بمنعرجات جديدة، فاقمها غموض الرؤية السياسية في تونس وتداعيات العقوبات الغربية على روسيا.

تقف العلاقات الثنائيّة اليوم في مرحلة مصيرية، تشهد تمدّدا للنفوذ الروسي في مناطق ضمن العمق الاستراتيجي لتونس ابتداء من منطقة الساحل والصحراء، وخصوصا مالي التي شهدت حضورا روسيا متناميا، سواء عبر صفقات الأسلحة (على غرار صفقة طائرات الهليكوبتر الهجومية MI 35 M في مارس الماضي) أو تواجد المدربين العسكريين الروس في البلاد الذين تعتقد بعض المصادر انتماءهم إلى مجموعة “فاغنر” ذائعة الصيت. كما رسّخ الروس حضورهم في دول أخرى داخل القارة على غرار أفريقيا الوسطى والسودان. هذا عدا عن العلاقات الروسية المتميزة مع الجزائر، خصوصا أن روسيا تسعى للقيام بمناورات عسكرية مشتركة معها في شهر نوفمبر المقبل ضمن عملية “درع الصحراء” في ولاية “بشار” المتاخمة للحدود المغربيّة، وهي عملية تأتي كردّ مباشر على عمليّة “الأسد الإفريقي” في جوان الماضي التي قادتها قوات الأفريكوم الأمريكية بمشاركة تونس والمغرب. هذه التطورات عموما تعمّق من أزمة الخيارات لدى الدبلوماسية التونسية تجاه روسيا، بين آفاق التعاون الاقتصادي خاصة والضرورة السياسية في التعامل مع قوة دولية متنامية لموازنة الضغوطات الغربيّة المتواصلة في عدد من القضايا، وبين تأثيرات النفوذ الروسي كذلك على استقلالية القرار الوطني وعلى علاقات تونس الاستراتيجية الأخرى ومنها خاصة دورها كحليف غير عضو في حلف شمالي الأطلسي. بين كلّ هذه التقاطعات، تحتاج السياسة الخارجية التونسيّة تجاه روسيا إلى “رؤية معرفية” مواكبة للأحداث مستجيبة للمتغيرات المتسارعة مع الحرص على تنفيذ أهداف السياسة العامة للدولة، لا النظام السياسي فقط.

لا تتمتع تونس بنوع من “الأريحية الاستراتيجية” تجاه روسيا على عكس الجزائر مثلا التي تعتبر الحليف الأبرز لروسيا في المنطقة المغاربية أو المغرب التي نجحت إلى حد ما في الموازنة بين مصالحها الاقتصادية والسياسية مع روسيا من جهة وارتباطاتها التاريخية مع الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي من جهة أخرى.