أثار إعلان قيس سعيد نيته حل المجلس الأعلى للقضاء في فيفري 2022 من مقر وزارة الداخلية وأمام الوزير والقيادات الأمنية العليا جدلا واسعا لدى الرأي العام في تونس، كيف يتخذ الرئيس قرارا يهم السلطة القضائية ويعلنه في مقر وزارة الداخلية؟ أي رسالة يريد إيصالها إلى الداخل والخارج؟ وهل عادت وزارة الداخلية إلى قلب المعادلة السياسية بعد أن ظلت لسنوات بعد الثورة بعيدة نسبيا عن القرار السياسي واهتمت بالدفاع عن نفسها وإطاراتها من التتبعات والاتهامات؟

وزارة الداخلية، منبر قيس سعيد المفضل

لم يكن ذلك الإعلان هو الاول من نوعه فقد تعود قيس سعيد إلقاء الخطب التي تتضمن رسائل وقرارات سياسية في ثكنات الأمن والجيش، وكأنه يريد القول إنه يحظى بدعم مؤسستين كبيرتين مثل القوات المسلحة العسكرية وقوات الأمن الداخلي. ورغم أن الجيش ووزارة الدفاع لم ينخرطا في اللعبة السياسية على الأقل على مستوى التصريحات والقرارات، إلا أن وزارة الداخلية انخرطت مباشرة في التجاذب السياسي وأصبحت طرفا في الانقسام السياسي في البلاد.

قبل ذلك أظهرت وزارة الداخلية تمييزا أثناء تعاملها مع المظاهرات المساندة والمعارضة لقيس سعيد، وظهر ذلك من خلال القمع الشديد لتظاهرات المعارضة في ذكرى 14 جانفي والاعتداء على المتظاهرين وإيقاف العشرات منهم قبل إطلاق سراحهم، في حين تعاملت بليونة مع المظاهرات المساندة لقيس سعيد. كما أكد الوزير توفيق شرف الدين هذا الانحياز عندما نزل إلى التظاهرات المؤيدة للرئيس في شارع الحبيب بورقيبة ودعا إلى “الوحدة الوطنية والالتفاف حول رئيس الجمهورية من أجل إنقاذ البلاد” حسب قوله.

حاجز بوليسي على مستوى شارع محمد الخامس يمنع مسيرة المعارضة من بلوغ شارع الحبيب بورقيبة، 14 جانفي 2022. تصوير : طارق العبيدي

يعتبر قرار وضع القيادي النهضاوي البارز نور الدين البحيري قيد الإقامة الجبرية، بمقتضى قرار من وزير الداخلية دون تقديمه إلى القضاء، مثالا واضحا على عودة وزارة الداخلية إلى واجهة الأحداث السياسية. فقد أذن وزير الداخلية توفيق شرف الدين بوضع البحيري قيد الإقامة الجبرية دون إحالته على القضاء، وتزامن قرار رفع الإقامة الجبرية مع الإعلان عن التركيبة الجديدة للمجلس الأعلى المؤقت للقضاء، بعد أن تم حل التركيبة السابقة من قبل رئيس الجمهورية.

أي أن الوزارة لا تتعامل مع أجهزة الدولة وفق القانون بل وفق أهواءها، وهنا اتخذت الوزارة قرارا سياسيا ليس من اختصاصها يتضمن تقييما للمجلس الأعلى للقضاء: المجلس الأعلى المنحل ليس مستقلا لذلك لن نحيل البحيري على القضاء، وبعد إعلان التركيبة الجديدة للمجلس “المستقل” نفرج عنه باعتبار أن القضاء أصبح في أيادي من عينهم الرئيس. ورغم أن نور الدين البحيري غادر مقر الإقامة الجبرية منذ مارس المنقضي إلا أن القضاء لم يتعهد بعد بالقضية ذات الصبغة الارهابية والتي أعلنتها وزارة الداخلية غداة إيقافه.

الداخلية سلطة فوق القضاء

ولم يقتصر تدخل وزارة الداخلية في الشأن السياسي على عدم اعترافها بالمجلس المنحل وترحيبها بالمجلس المؤقت للقضاء، بل إن قرارات العزل الأخيرة التي شملت 57 قاضيا وقاضية في تونس أثارت ما يُعرف بالتقارير الأمنية في حق القضاة والتي كانت وراء عزلهم. من المؤكد أن قائمة المعزولين تتضمن من تعلقت بهم تهم الفساد والرشوة واخفاء الملفات والتلاعب بالعدالة خاصة في قضية الاغتيالات السياسية، لكن شهادات القضاة وهياكلهم تحدثت عن عزل بسبب خلافات مع السلطة التنفيذية وخاصة الأجهزة الأمنية بسبب “تمسك القضاة بتطبيق القانون وعدم مسايرة قوات الأمن في تنفيذ مداهمات خارج إطار القانون ودون أدلة تدين المعنيين بالمداهمات”.

وتحدث القضاة في هذا الصدد عن أن القضاة الذين لا ترضى عنهم السلطة التنفيذية ووزارة الداخلية معرضون للعزل بسبب تقارير أمنية كُتبت في حقهم واعتُمدت لاحقا لعزلهم.

شهادة القاضي المعزول عبد الكريم العلوي، وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بقفصة، أشارت بوضوح إلى تدخل السلطة في عمل القضاة واعتماد التقارير الأمنية لاتخاذ قرارات في حق القضاة:

السبب الرئيسي لعزلي هو علاقتي بالأجهزة الأمنية التي تريد أن تمارس ما تسميه مداهمات في حين أن القانون لا يتضمن عبارة مداهمات، هناك تفتيش مقيد بالقانون وفيه شروط والضابطة العدلية لا يمكنها دخول محلات السكنى إلا إذا كانت هناك شبهة جناية أو جنحة متلبس بها، وهذا لم يعجب الأجهزة الأمنية. والسبب الآخر هو خلاف مع السلط الجهوية بقفصة التي سعت أن تضع يدها مباشرة على جهاز النيابة العمومية وقضاة التحقيق وهذا ما رفضته وقلت لا بكل وضوح وصرحت لهم بأن الفيصل بيننا هو القانون لا الانتماءات السياسية والعلاقات الشخصية.

لم تكن هذه الشهادة الوحيدة الذي تحدثت عن تقارير أمنية أطاحت بالقضاة وتسببت في عزلهم، بل كانت تصريحات القضاة المعزولين وغير المعزولين تؤكد اعتماد سياسة “الاستوفيدة” والتقرير الأمني كمبرر لعزل القضاة، طبعا باستثناء البعض منهم الذين تعلقت بهم حقيقة تهم الفساد والتغطية على الإرهاب مثل الطيب راشد والبشير العكرمي. وهذا يحيلنا مباشرة إلى تعاظم نفوذ وزارة الداخلية منذ 25 جويلية وتحولها شيئا فشيئا إلى محور للعملية السياسية وأحد أهم محركاتها، فالمشهد السياسي والقرارات السياسية أصبحت تسير وفق منطق التقارير الأمنية والتنصت على هواتف السياسيين (المصيبة أن التنصت أصبح أمرا واقعا قبل به الجميع وتعامل معه كأنه شيء مفروغ منه) والنشطاء ومراقبة تحركات الأحزاب والمنظمات من قبل فرق الارشاد وعناصر معروفة بانتمائها إلى البوليس السياسي قبل الثورة.

هذه المستجدات و غيرها لا تعني البتة أن وزارة الداخلية كانت منارة لاحترام القانون وحقوق الانسان على امتداد العقد الماضي، بل ظلت وفية لسمعتها ما قبل الثورة؛ تضييق و اعتداءات على المعارضين مقابل حظوة خاصة لأنصار السلطة و الحكومة، بلغت مداها بالتنسيق مع “روابط حماية الثورة” في مرحلة أولى وقمع انتفاضة الشباب زمن حكم الميشيشي.

كما أينعت في تلك الفترة أزهار النقابات البوليسية، نقابات ظنت أنها فاعلة في الشأن السياسي وقد بلغ الأمر ببعضها حد التكفير والاعتداء على الحقوقيين والرابطيين بمدينة صفاقس. نقابات حاصرت المحاكم وهرسلت القضاة كما حصل في قضية شهيد الملاعب عمر العبيدي، حيث يباشر المتهمون وظائفهم بشكل عادي و يمتنعون عن حضور الجلسات و تكافئهم الوزارة مشكورة بالترقيات رغم كل ما حصل.

وهنا قد لا يختلف اثنان على دراية الرئيس سعيد بكل ذلك، و لكن الاختلاف قائم في تفسير سبب سكوته عن هذه الانحرافات، لا سيما وأنه يقدم نفسه كمثال في محاربة الظلم واستغلال النفوذ والضرب على الأيادي المنتهكة لكرامة المواطنين.

فهل هو تغاض تكتيكي من الرئيس كسبا لود الداخلية وحاجة لها في التصدي لخطط عودة النهضة وحلفائها؟ أم أن نقاء ماضي الرئيس من أي نشاط حقوقي قبل الثورة جعله ينتصر للبوليس ويتغاضى عن تجاوزاته؟ وهل فعلا التقط جهاز البوليس لحظة 25 جويلية على أنها نهاية للفسحة الحقوقية في تونس، بما تحمله من ذكريات السلطة المطلقة زمن الدكتاتورية؟ وإلى متى سيواصل الحقوقيون من أنصار الرئيس صمتهم أمام شبح الدولة البوليسية الذي بدأ يطل بحياء البدايات؟ فرضيات و تساؤلات لا يبدو أنها ستبقى دون أجوبة، خاصة أمام المواعيد السياسية والاجتماعية الهامة التي تنتظر تونس قبل موفى السنة.