عرفت  تونس السينما منذ عهد الأخوين الفرنسيين لوميار أواخر القرن التاسع عشر، وهما من أوائل صناع السينما في تاريخها، إذ صوّرا في 1896 مشاهد متحركة في شوارع تونس العاصمة. وفي 1897، عرض ألبير سمامة شكلي، رائد السينما التونسية، أول عمل سينمائي في تونس، وقام بتصوير أول فيلم سينمائي طويل في القارة الإفريقية في تونس في 1919 بعنوان “النبلاء الخمسة” للمخرج الفرنسي لويتز موارا. وفي العامين 1922 و1923، أنتج المخرج التونسي ألبير سمامة فيلميه “زهرة” و”فتاة قرطاج”.

أفلام مهددة بالاندثار وأخرى مكانها مجهول

يحتوي أرشيف ساتباك على مئات بكرات (شرائط) الأفلام والأحداث التاريخية المصوّرة، التي كانت تبث في شكل نشرات إخبارية أسبوعيا في قاعات السينما قبل تأسيس التلفزيون التونسي، حُفظت في أقبية لا تستجيب للمعايير اللازمة للحفظ. فالرطوبة ودرجة الحرارة المضرة تهدّدان بإتلاف جزء كبير من ذاكرة تونس المصوّرة. ويواجه جزء كبير من ملامح تونس المصورة، منذ بداية القرن العشرين إلى غاية السبعينات، خطر الاندثار لسببين: أوّلا لأنّ الدولة لا توفّر ظروف حفظ مناسبة للأرشيف، وثانيا لأنّها مقصّرة في استرجاع الأشرطة السالبة للأفلام (les négatifs) الّتي تمّ تصويرها في تونس أو التي أخرجها تونسيون.

في عام 2020، نظمت أيام قرطاج السينمائية دورة استثنائية بشعار “الذاكرة والحنين”، أساسها عرض أفلام على شريط 35 ملّيمتر. واضطر المشرفون على التظاهرة اختيار قائمة صغيرة من الأفلام القديمة المتوفّرة. ويقول السينيمائي منير بعزيز لـ”نواة”: “اختيار أفلام الذاكرة في دورة أيام قرطاج السينمائية الماضية على أشرطة 35 مليمتر كان اضطرارا، إذ لا تتوفر لدى الدولة نسخ رقمية لتلك الأفلام. فقد بحث المشرفون على المهرجان طويلا عن نسخة من فيلم “قصة في غاية البساطة” الذي أخرجه المخرج عبد اللطيف بن عمار في 1970، إلى أن وجدوا نسخة ضائعة في إحدى دول أمريكا اللاتينية، ودفعوا ثمنا باهظا مقابل شرائها. أمّا النسخة التي كانت تملكها ساتباك، فقد تلفت بسبب سوء ظروف حفظها”.

يروي الفنان منير بعزيز في حديث له مع “نواة” بأن عربة مليئة بالإسطوانات التي تحتوي على خطابات بورقيبة قد رمتها وزارة الثقافة في حاوية الفضلات إثر صعود بن علي إلى الحكم. ولا تختلف أقبية ساتباك التي تحفظ جزءا كبيرا من الأرشيف المرئي في تونس عن تلك العربة أو ربما الحاوية.

وعود طارق بن عمار الزائفة وتواطؤ مع الدولة

عام 1992، تمت تصفية الشركة التونسية للإنتاج والتنمية السينمائية ساتباك، بعد إعلان إفلاسها. كانت هذه الشركة العمومية التي أنشأت المركب الصناعي للسينما بقمرت في 1967، محتكرة لحقّ استيراد الأفلام. كما أسندت خدمات تقنية لمنتجين أجانب، بعد أن أحدثت مخابر لسينما الألوان، مثل فيلم “قراصنة” للمخرج الشهير رومان بولنسكي(1986) . بعد عشر سنوات من حلّها، احتلت مخابر شركة كوينتا كومينيكيشنز Quinta Communications هضبة قمرت على أنقاض ساتباك، وذلك بعد اتفاق بين صاحبها المنتج التونسي طارق بن عمار ووزارة الثقافة في 4 ديسمبر 2002. ويقضي هذا الاتّفاق بحصول بن عمار على حقّ استغلال كامل الأرض التي تقع عليها ساتباك سابقا بالدينار الرّمزي لممارسة نشاطه الثقافي، مقابل التزامه برقمنة الأشرطة الموجودة في أرشيف الشركة المفلسة وترميمها بأسعار تنافسية.

⬇︎ PDF

تحصل موقع نواة على نسخة من العقد الذي نصّ على أن طارق بن عمار مدير “كوينتا كومينيكيشنز”، كان قد أرسل  لوزير الثقافة آنذاك مخططا لإحياء المركب السينمائي بقمرت، وأبرم الثنائي اتفاقا لتحديد وتنظيم استغلال المركّب. وحسب الفصل الأول من العقد، تُمكّن الوزارة طارق بن عمار من حق التصرف الاستثنائي واستغلال الأرض التي يوجد عليها المركب السينمائي في نطاق نشاطه، والقيام بأشغال البناء والتوسعة، وذلك لمدة 30 سنة قابلة للتجديد، وحدد ثمن استغلاله لتلك المساحة بالدينار الرمزي. كما ينصّ العقد على أن يقدم بن عمار أسعارا تفاضلية للمنتجين التونسيين، إضافة إلى رقمنة الأرشيف الموجود في المركب السينمائي بقمرت. وينص الفصل السابع من الاتفاقية على أنه في حال أخلّ طارق بن عمار بالتزاماته الكبرى فإن الوزارة تلغي الاتفاقية وتحجز التجهيزات في المركّب الّذي يملكه بن عمار ويصبح ملكا للدولة.

وحسب الفصل الخامس من العقد المذكور، يلتزم طارق بن عمار بتركيز مخابر بتجهيزات رقمية لما بعد عملية الإنتاج. ويلتزم بن عمار وفق البند 12 من العقد بترميم الأرشيف الموجود هناك ورقمنته واستخراج نسخ بنسبة ربح لا تفوق الـ10 بالمائة.

يقول منير بعزيز لـ”نواة”: “وعد طارق بن عمار بجلب التجهيزات اللازمة لرقمنة الأرشيف وترميم الأشرطة، لكنه جلب معه تجهيزات قديمة كانت على ملك شركته التي تمت تصفيتها بعد إفلاسها”.

في ديسمبر 2011، أغلقت شركة “كوينتا أنديستري” التابعة لمجموعة “كوينتا كومينيكيشنز”، وهي الشركة التي كانت متخصصة في الرقمنة وفي عملية صناعة الأفلام وما بعد الإنتاج. ويواجه بن عمار إمكانية الحكم عليه بالسجن قد تصل مدته إلى خمس سنوات وغرامة مالية تصل إلى 75  ألف يورو وذلك بتهمة “الإفلاس الاحتيالي”، كما أنه مطالب بدفع ما يقارب  3.5 مليون يورو .

مرت عشرون سنة منذ توقيع الاتفاق الذي كان يمني كثيرين بإنقاذ مئات البكرات الأصلية التي ما يزال محتوى بعضها خاما ومجهولا، ولم يلتزم طارق بن عمار بما جاء في العقد ولم يتخذ وزراء الثقافة في الحكومات المتعاقبة أي إجراء ضد بن عمار وفق ما نص عليه العقد.

أشرطة نادرة في الشتات

يوجّه مهنيو السينما أصابع الاتهام للدولة التونسية بالتقصير في حفظ الأرشيف المرئي من التلف وينتقدون تخاذلها في استرجاع مئات النسخ من الأفلام القيمة والمحتوى المرئي النادر الذي صور في حقبة مبكرة من تاريخ تونس المعاصر.

يقول المخرج التونسي محمّد شلوف لـ”نواة” ، وهو مستشار سابق في المكتبة السينمائية، إن غالبية  الأرشيف التونسي المرئي يوجد في الأرشيف الفرنسي. ويضيف : “إنّ المحافظة على التراث السينمائي ليس ترميما  أو رقمنة فحسب، بل هي بحث عن التراث وعن الوثائق التي لها علاقة به”.

تتطلب عملية البحث عن الأرشيف المرئي التونسي في الشتات إيجاد مالكي حقوق إنتاج الفيلم. فهناك أفلام شاركت ساتباك في إنتاجها،  لكن بعد حلّ الشركة، أصبح من العسير العثور عمّن يملك تلك الحقوق. وحسب محمّد شلوف، فإن الأشرطة الأصلية للأفلام التونسية القديمة موجودة في الخارج ولم تدخل إلى تونس أبدا. في حين توجد أعمال مصورة في الأرشيف لا يمكن مشاهدتها أو الإطلاع عليها لأنها في شكل أشرطة أولية لم يتمّ استحداث نسخ منها.

لا يمكن عدّ الأعمال التونسية المصورة في فترة مبكرة من تاريخ اختراع الكاميرا ونشأة السينما، لكنّ المعلوم هو أن جميع أعمال المخرج التونسي ألبير سمامة شكلي، الذي اشتغل مراسل حرب في الحرب العالمية الأولى وصوّر مشاهد في تونس، غير موجودة في أرشيف السينما في تونس، باستثناء نسختين من فيلمي “زهرة” و”عين غزالة” اللذَين تحصلت عليهما تونس وتُفاوض من أجل الحصول على الفيلمين الأصليين.

يقول المخرج محمّد شلوف لـ”نواة” إن النسختين الأصليتين من فيلمي “زهرة” و”عين غزالة” كانتا على ملك هايدي تامزالي، حفيدة سمامة شيكلي، التي أرسلت الفيلمين لمركز السينما والصورة بتونس، حيث قام بترميم الفيلمين ووقّع اتفاقا مع عائلة شكلي يقضي بمعالجة أعمال المخرج التونسي مقابل الاستحواذ على حقوق التصرّف في تلك الأعمال النادرة. ويضيف شلوف أن ورثة شكلي يملكون بكرات، بقيت مُهملة، إلى أن قامت المكتبة السينمائية ببولونيا الإيطالية بتكريم ألبير سمامة شكلي في 2015، فاتصلت بالعائلة التي قدمت لها  تلك البكرات. كما تمكنت المكتبة الإيطالية من الحصول على كامل الأفلام التي قام بتصويرها حين كان مراسل حرب خلال الحرب العالمية الأولى، من الأرشيف العسكري بفرنسا ومن متحف خاص ببريطانيا.

قضّى المخرج محمود بن محمود فترة طويلة للبحث عن فيلم “صيد سمكة التن” الذي صوره ألبير سمامة شكلي في تونس في 1906، وذلك من أجل وثائقي أنجزه عن أول المخرجين التونسيين. وتتبّع محمود بن محمود ومحمّد شلوف بعض الإشارات التي تقود إلى فرضية وجود الفيلم في متاحف مونتي كارلو بإمارة موناكو، لكنّ جهودهما باءت بالفشل، إلى أن تحصلت عليه المكتبة السينمائية ببولونيا من أرشيف خاص ببريطانيا، والتي وجدت أيضا أعمالا أخرى لألبير سمامة شكلي في ذلك الأرشيف.

لم تكن أعمال ألبير سمامة شكلي الوحيدة الشريدة في متاحف أو أرشيف أجنبي، فالنّسخ الأصلية لأفلام مثل فيلم “في بلاد الطرنني”  (1973) لفريد بوغدير مثلا، موجودة في فرنسا. ولا تملك تونس النسخة الأصلية لأول فيلم ساهمت في إنتاجه وشارك في مهرجان كان السينمائي سنة 1966، وهو فيلم “حميدة” لجون ميشال مايون، بل توجد في فرنسا، كما هو الشأن بالنسبة لفيلم “قريتي بين القرى الأخرى” للمخرج الطيب الوحيشي الذي تحصل على التانيت الذهبي خلال أيام قرطاج السينمائية للعام 1972، الذي يحتفظ الأرشيف الفرنسي بنسخته الأصلية.

يقول المخرج محمّد شلوف إن الدولة التونسية مقصرة في استرجاع جزء كبير من ذاكرتها السينمائية والتاريخية المصوّرة، وهي لا تبذل مجهودا يذكر في التفاوض من أجل ذلك، وهو دور كان من المفترض أن تضطلع به المكتبة السينمائية التونسية عند تأسيسها في 2016.

مكتبة سنيمائية برتبة قاعة عرض

منذ افتتاحها في 2016، كان مشروع المكتبة السينمائية الحبل الذي سينقذ أرشيف السنيما في تونس والأعمال المصورة التائهة من التلف بسبب الرطوبة، ومن الضياع أيضا في رفوف أرشيف أجنبي خاص.

يقول محمّد شلوف “حين فكرنا في مشروع تأسيس مكتبة سينمائية تونسية،  وضعنا أسس عملها ومهامها المتمثّلة في الحفاظ على الذاكرة السينمائية. وكانت مهمة المكتبة السينمائية هي إيجاد تمويل لترميم الأرشيف والبحث عن النسخ الأصلية لصيانتها ورقمنتها أيضا. ومن برامج المكتبة أيضا إرسال طلبة تونسيين إلى أكبر مختبرات الترميم في بولونيا الإيطالية”.

لم يبعث يوم افتتاح المكتبة السينمائية برسالة إيجابيّة للّذين توسّموا خيرا في هذا المشروع ولا للمشاركين في وضع أسسه. ففي ذلك اليوم الّذي توافد فيه ضيوف من دول كثيرة، لم يكن هناك جهاز عرض أشرطة 35 ملّيمتر القديمة. يقول محمّد شلوف: “ذهلت لذلك فبادرت بالبحث في أجهزة مهرجان “سينما المتحف” بسوسة، ووجدت جهازا  قديما حتى ندرأ الفضيحة”.

انسحب المخرج محمّد شلوف من خطة مستشار فنّي وتقني بالمكتبة السّينمائية التي عينه فيها محمّد زين العابدين وزير الثقافة آنذاك، وذلك بعد أن تبين أنّ المشروع قد حاد عن مساره الأساسي، فتحول إلى مجرد قاعة سينما لعرض الأفلام على أجهزة دي في دي. ويقول شلّوف “أردنا أن تكون المكتبة السينمائية مختبرا لإنقاذ أرشيفنا وسفيرا لاسترجاع ذاكرتنا، لكن ذلك لم يحصل. كما أُجهض مشروع تكوين الطلبة التونسيين في بولونيا لأن وزارة الثقافة وقّعت اتفاقا مع فرنسا، ترسل بموجبه طلبتها إلى تونس من أجل القيام برقمنة الأشرطة، وهو ما يعني أن تونس لن تستفيد كثيرا من هذه الاتفاقية”.

كان من المفترض أن يكون للمكتبة السنيمائية قانون أساسي، لكن الوزارة تخلت عن تلك النقطة. كما لم تَرصد ميزانية خاصة بالمكتبة بل تمّ إدراج ميزانيتها ضمن ميزانية افتتاح مدينة الثقافة. يقول المخرج محمّد شلوف: “لقد خانني هشام بن عمار الذي عُيّن مديرا فنيا للمكتبة رغم أننا وضعنا معا تفاصيل عملها، وذلك حين تخلى عن فكرة أن تكون المكتبة مستقلة، وقبل بأن تنضوي تحت إدارة المركز الوطني للسنيما والصورة، فأصبح مجرد منفّذ لقرارات المدير العام للمركز”.

أجهض عدم الاستقرار السياسي والتغيير المستمر لوزراء الثقافة اتفاقا يقضي باضطلاع المكتبة السينمائية بالتكفل بالأرشيف الموجود في مقر ساتباك سابقا، خاصة وأنه مهدد بالتلف بسبب ظروف حفظه السيئة. فقد كوّن وزير الثقافة الأسبق محمّد زين العابدين لجنة تتركب من وزارات الداخلية والدفاع وأملاك الدولة إضافة إلى المكتبة الوطنية ومركز السينما والصورة لنقل الأرشيف، لكن ظلّ موعد اجتماع هذه اللّجنة معلّقا بسبب التغير المستمر على رأس الإدارات في وزارة الثقافة.

حال وضع الأرشيف السنيمائي والأخبار المصورة دون قدرة السينمائيين على إنجاز أفلام وثائقية. فأكوام البكرات في بطون أقبية ساتباك أغلبها مهدد بالتلف أو مجهول المحتوى، ولا أحد يعلم ما يوجد في تلك الأقبية بسبب غياب جرد كامل للأرشيف هناك. غير أنّ السينمائيين يعلمون مثلا أنّ حدثا تاريخيا مثل محاكمة أحمد بن صالح قد صُوّر، وأنّ الشريط الذي صوّر المحاكمة يرقد هناك، منتظرا  بدوره الحكم عليه بالتلف.

يسعى المهنيون لتعويض غياب الدولة في إنقاذ أرشيف الذاكرة السنيمائية من التلف، مستغلّين علاقات ربطوها هنا وهناك من أجل ترميم أفلام أو رقمنتها. فتوسط بعض المهنيين مثلا لدى خبراء من بلجيكيا من أجل رقمنة فيلم “الهائمون” للمخرج الناصر خمير (1984)، وهو أول فيلم تونسي تتم رقمنته في 2017 مجانا، وهي عملية تتكلف في العادة قرابة 200 ألف دينارا.

أسس المخرج محمّد شلوف  والممثلة  فاطمة بن سعيدان  جمعية الجنوب للتراث السينمائي، وهي المشرفة على تنظيم تظاهرة  سينما المتحف التي تعرض خلالها  أفلاما من التراث وقع ترميمها. وتهدف هذه الجمعية إلى التحسيس بأهمية المحافظة على التراث المرئي.

يسلط الوقت سيفه على حزم البكرات التي تنتظر إما رقمنتها أو ترميمها، في الوقت الذي كتبت فيه عشرات المقالات عن مشروع  معالجة الأرشيف المرئي ورقمنته الذي سيشرف عليه طارق بن عمار،  أقدمها  نُشر قبل عام 2005.