المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

يمكن أن نشبّه صوت الرئيس قيس سعيد، بصوت المزمار، في تلك القصة الشهيرة، الذي خلص المدينة من الفئران. لكن ذات المزمار أخذ أطفال المدينة إلى جهة غير معروفة، ولم يتمكن أهاليهم من رؤيتهم ثانية. يرى الرئيس أن صوته لا يوجه إلى الصحافيين، ولا إلى معارضيه، بل إلى الشعب مباشرة. وإن كان قد نجح في تحقيق مبتغاه بحشد الناس وتخليص المدينة من الفئران، إلا أنه يمكن أن يجرها إلى هاوية لا يعرف لها مخرج.

خطاب القصر: صوت عبّد الطريق إلى الحكم

منذ بداية ظهوره بعد ثورة 2011، كان قيس سعيد ظاهرة صوتية بامتياز. عرفه الناس بصفته أستاذ قانون دستوري يظهر في القنوات التلفزية ونشرة الأخبار الرسمية ليبدي رأيه في فصول الدستور التي كانت قيد الكتابة حينها. وما يميزه هو صوته الآلي الرصين، بعربيته القحة المُتقنة، خلافا لزملائه الذين كانوا يتكلمون بشكل عادي لا ميزة فيه. وهو ما خلق له هالة خاصة، وأصبح عند الناس المثقّف صاحب ذاك الصوت المميّز.

حافظ قيس سعيد على تلك السياسة الاتصالية إلى حين ترشحه للانتخابات الرئاسية في سنة 2019. وعكس بقية المترشحين، لم يكن له ظهور إعلامي لافت، عدا مقابلة مع موقع نواة والمناظرة التلفزية للمترشحين للانتخابات الرئاسية، وحافظ فيهما على نفس النبرة وطريقة كلامه المعهودة. ورغم سعي عديد القنوات التلفزيونية لمحاورته فإنه رفض ذلك بشكل مطلق. وعند اعتلائه كرسيّ الرئاسة، لم يظهر إلا مرة واحدة في التلفزة الوطنية، بعد مائة يوم من تولّيه مقاليد الحكم، وهو تعهّد قام به قبل وصوله لهذا المنصب. ومنذ ذلك الوقت، لم يشاهد إلا في فيديوهات على الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية، أثناء لقاءاته بشخصيات تونسية وأجنبية.

منذ دخوله قصر قرطاج، لم يتوجه رئيس الجمهورية قيس سعيد إلى الشعب إلا من خلال الخطابات والبلاغات. وليس المقصود هنا الخطابات بشكلها الكلاسيكي، الذي يكون فيها المتكلم شخصية عامة وذات شأن، وغالبا ما يكون باعث الخطاب زعيما أو قائدا سياسيا، يتكلّم بين حشود من الناس، ولا يتجاوبون معه إلا بالتصفيق. فخطابات الرئيس مختلفة من حيث الشكل، لكنها محافظة على نفس الخصائص. يتكلم في مناسبتين فقط، وهي اجتماعاته الرسمية و زياراته الميدانية. وفي الحالتين يحتكر الكلمة لدقائق، ولا نسمع للطرف الآخر أي تفاعل. لكن الجديد أن الرئيس كسر هذا الحاجز وأصبح يتوجه إلى أنصاره بكلمات مباشرة. فهنا حول قيس سعيد علاقته بالمتلقين من الفضاء الافتراضي المتمثّل في صفحة رئاسة الجمهورية التي كانت الفضاء الحصري لتلقّي خطابات الرئيس، إلى الفضاء العام حيث يكون هناك جمهور وتفاعل مباشر. ورغم محاولات الصحفيين وضغط منظمات المجتمع المدني من أجل انفتاح مؤسسات رئاسة الجمهورية على وسائل الإعلام، فإن هذه المطالب لم تجد لها صدى في القصر. ولم يتكرم على وسائل الإعلام إلا بتصريحات عرضيّة، لعلّ آخرها ما قاله بشأن تكوين الحكومة أمام مصدح سكاي نيوز عربية والقناة الوطنية الأولى.

ويبدو أنّ الغاية من وراء تمكين الإعلام من حقه وواجبه في نقل المعلومة هو استدراج أنصاره للوصول إليهم خارج تلك القاعة. بمعنى أنّ ما قام به سعيّد يندرج في إطار الحشد.، من خلال استثمار رأس المال الرمزي الذي راكمه والمتمثّل في الدعم الشعبي. وهو يسعى إلى تحويله كواقع ملموس إلى أرض الواقع، وليس فقط الاكتفاء بحصره في شبكات التواصل الاجتماعي. وهو بذلك يُمهّد لتوطيد العلاقة بينه وبين أنصاره ليستغلها في صراعاته القادمة.

وحتى في اجتماعاته التي يلقي فيها كلمة، لا يلتزم الرئيس بموضوع الاجتماع، أو التطرّق إلى مسائل تتماشى وخلفية ضيفه. بل يتشعب ليطرح مواضيع مختلفة، يفتي فيها وحده دون سواه، ليعطي انطباعا بأنه لا يتوجه في الحقيقة بكلامه إلى ضيفه، بل يتجاوزه ويرسل رسائل إلى خصومه السياسيين، وحتى إلى أنصاره. وهنا يمكن القول إن اللقاء ليس سوى فرصة ينتهزها قيس سعيد للتوجه إلى الشعب بكلمات مباشرة بدون وسائط. و يرسخ فكرة أنه من الشعب ولن يتغير، وهي الفكرة التي دأب على تكرارها في مناسبات عدة. ويتجلى ذلك أكثر في زياراته الميدانية المتكررة، والتي تكون في أوقات مختلفة لمناطق مختلفة.

قيس سعيّد وتوظيف المعاجم

لم يغير الرئيس من نبرته المعهودة التي اشتهر بها منذ بروز نجمه بعد ثورة 2011، فقد حافظ على لغته العربيّة القحة وصوته الآليّ الرصين حتى لا يخسر جمهوره الذي اجتمع حول ذلك الصوت وأوصل صاحبه إلى كرسي قرطاج.

كما حافظ الرئيس على شخصية الأستاذ الجامعي واسع الثقافة، من خلال اقتباس مقاطع من الأدب القديم مثل رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي، أو الاستئناس بوثائق تاريخية، مثل مقتطفات من جريدة العمل ورسم كاريكاتوري لمحمّد بيرم التونسي. وعند زيارة وفود أجنبية، يطنب في حديثه عن تاريخ دولهم وخصائص دساتيرهم. وبذلك استطاع قيس سعيد دعم صورته كمثقف واستغل الهالة التي ترافقها ليحولها إلى رأسمال رمزي يرتكز عليه في جلب الأنصار. والطريف في الأمر أنه في الاستقبالات الرسمية، يكون ماسكا بعدد من الأوراق موضوعة في ملف رسمي. وإن كنا لا نعرف محتوى هذه الأوراق، باعتبار أنّها لم تُنشَر سابقا، فإن المهم عند الرئيس ليس محتواها، بل إيهام الضيف والمتابعين أنه لا يتحدث من فراغ وأن لديه كل المعلومات، أو بمعنى أدق يمتلك الحقيقة، ولا يكشفها إلا عندما تأتي اللحظة. فهنا يربك ضيفه ويكسب ثقة أنصاره، كأنّه يُجسّد صورة الزعيم الذي يملك كل أوراق اللعب والحقيقة.

يظهر مما سبق أن قيس سعيد يحافظ على شخصية المتعالي الّذي يحتكر الحقيقة، وأنه الوحيد الذي يعرف مشاكل البلد وحلوله. ويمكن القول إنّ قيس سعيد هنا يصنع لنفسه دور الأب السياسي، ويساعده في ذلك طبيعة المجتمع التونسي، الذي يُعتبر مجتمعا ذكوريا أبويا بامتياز، حيث يبحث الناس دائما عن قائد ملهم يلعب دور الأب ويقودهم إلى الخلاص. وساعده في ذلك الغموض الذي يميز سياسة القصر الاتصالية. حيث يتضافر شح المعلومات وعدم وضوح الرؤية، مع احتكار قيس سعيد قيادة البلاد سياسيا، وتعويمه للمفاهيم في خطابه واستعمال كلمات فضفاضة مثل “الشعب، الشعب يريد، أعداء الشعب…”، لتساهم في خلق نوع من الغموض الذي يضمن له حشد الأنصار وزيادة عددهم. فعلى امتداد عشر سنوات تميزت الساحة السياسية بكثرة الانحرافات التي كان لها انعكاسات مباشرة على حياة الناس. واقترنت فيها صورة السياسي بالفساد والانتهازية وخدمة المصالح الضيقة. وسط ذلك ظهر قيس سعيد الذي غير تلك الصورة وأسس لأخرى قوامها أن السياسي يمكن أن يكون صالحا وفاعلا. وبعد اتّخاذه مجموعة من القرارات التي لاقت استحسان شرائح عديدة من الشعب، أصبح لدى قيس سعيد رأسمال رمزي يمكنه من كسب ثقة هؤلاء، وأصبح المنقذ الذي يعرف طريق الخلاص، ولا داعي أن نعرف معه ما سيحصل و نترك الأمر بيده، خاصةً أنه وعد فوفى. وبذلك انقلب الغموض من نقطة ضعف في نواميس السياسة الاتصالية الرسمية إلى نقطة قوة في خطاب قيس سعيد. وليزيد استثماره، خلق قيس سعيد حربا بينه وبين السياسيين، ويظهر ذلك من خلال خطاباته، خاصّة في الثكنات، والذي يستعمل فيها معجم الحرب “أعداء الشعب، الرصاص، الصواريخ، الشهادة…” وتفترض الحرب الاصطفاف، فإما مع هذا الشق أو ضده، إما مع الخير أو الشر، إما مع الدولة أو مع أعدائها، و بشكل أدق إما مع الرئيس أو ضده. و في حالات الحرب يتقلص عدد المحايدين، وهو ضرورة ما يزيد أنصار الطرفين وطبعا هنا أنصار الرئيس.

وعمومًا، تتمحور سياسة القصر الاتصالية حول شخص قيس سعيد. الأب السياسي مالك الحقيقية وقائد الشعب إلى الخلاص. وترتكز بالأخص على صوته الذي كان رأسمال أوصله إلى السلطة. وتكون خطاباته موجه مباشرة لأنصاره الذين يقومون بالتصفيق على طريقتهم. لكن هل يمكن اعتبار هذه السياسة الاتصالية ناجحة؟

صوت يجرنا إلى المجهول

تفترض الإجابة عن السؤال السابق، افتراض أن هناك سياسة اتصالية مرجعية على الجميع التقيد بها. وإن كان هناك قواعد معينة متفق عليها حول السياسات الاتصالية الرسمية، فإن الخروج عنها لا يعتبر من المحرّمات. وما هو صحيح في نظر البعض، خاطئ في نظر الآخرين والعكس صحيح. لذلك، فإنّ الحكم على سياسة اتصالية إن كانت صائبة أو لا هو أمر نسبي. لكن يمكن الحكم عليها من خلال نتائجها أو الطرق التي يمكن أن تجرنا إليها.

تهدف السياسات الاتصالية السياسية أساسا لحشد الأنصار والتعبئة الجماهيرية، التي يمكن تحويلها إلى رأسمال يعتمد عليه في المحطات السياسية الكبرى، مثل الدفاع عن مواقف الشخصية أو الطرف الذي يجتمع حوله هؤلاء الأنصار، أو الانتخابات… ومن هذه الناحية يمكن القول إنّ السياسة الاتصالية لقيس سعيد ناجحة، باعتبار أنه استطاع الفوز في الانتخابات الرئاسية بفارق كبير على منافسه نبيل القروي، وكذلك نتائج سبر الآراء التي تبرز أن ثقة التونسيين في الرئيس كبيرة وتتجاوز السبعين في المائة. وهنا يمكن أن نستنتج أنّ صوت القصر قام بدوره في الحشد. لكن دور السياسة الاتصالية للمؤسسات الرسمية لا تتوقف على الحشد. بل تتجاوزه لتكون مصدرا للمعلومات الرسمية، وخلق مناخ سياسي يقوم على وضوح الرؤية عبر المعلومات الواضحة والدقيقة، التي تساهم في القضاء على الشائعات، لا أن توفّر لها بيئة مناسبة لانتشارها. وعلى هذا الخطاب أن يكون موحدا لكامل أطياف الشعب ومطمئنا.

للأسف خطاب الرئيس قيس سعيد هو على نقيض ذلك. فالغموض ساهم في نشر الشائعات وحرمان المواطنين من حقهم في المعلومة الدقيقة. ومثلما ضمن حشد أنصار الرّئيس، ساهم في نشر الخوف عند آخرين لعدم وضوح الرؤية. واستعمال الرئيس لمعجم الحرب وسياسة الاصطفاف من شأنه أن يساهم في تعميق الشروخ في المجتمع و تغذية الانقسامات، وهي طريق لا يعرف عقباها ولا تضمن نتائجها.