منذ خوضه السباق الانتخابي في 2019، بدأ قيس سعيّد يُلمّح إلى ضرورة تغيير منظومة الحكم ونظام الاقتراع، لضمان مشاركة فعليّة للناخبين في صياغة القوانين والتشريعات الّتي تعكس مشاغلهم الحقيقيّة. “هذا ما أردته من خلال التصوّر الّذي قدّمته من المحلّي إلى المركزي، حتّى يكون المركز تأليفا لمختلف الإرادات الّتي يتمّ التعبير عنها من قبل المواطنين، وبذلك تحقّق الدّولة المهمّة الأولى لها، وهي تحقيق الاندماج” (حوار قيس سعيّد مع نواة، 24 سبتمبر 2019). هكذا لخّص قيس سعيّد نظرته لنظام الحكم، حيث يقترح أن يكون الاقتراع على الأفراد بدلا عن القائمات، حتى يشعر المُنتخَب أنّه “مدين لناخبيه وليس للهيئة المركزيّة للحزب” الّذي ينتمي إليه المترشّح. يقترح قيس سعيّد في هذا السّياق مراجعة كلّ من القانون الانتخابي ومجلّة الجماعات المحليّة، عبر مبادرات تشريعيّة يودعها لدى البرلمان للمصادقة.

منذ تنصيب البرلمان في نوفمبر 2019 وانطلاق أشغاله، لم يتمكّن سعيّد من تكوين حزام برلماني متين يُتيح له تقديم مبادرات تشريعية تحظى بالموافقة. فحلفاؤه في البرلمان لا يكادون يتجاوزون الأربعين نائبا، وهو عدد لا يرتقي إلى النّصاب الواجب توفّره للمصادقة على مشاريع القوانين العاديّة، التي تتطلّب على الأقلّ 73 صوتا لصالحها.

تغيير قواعد اللعبة السياسية : إعلان نوايا

يبدو أنّ لجوء قيس سعيّد إلى تطبيق الفصل 80 والتوسّع في تأويله تمهيد لتطبيق وعده الانتخابي، خاصّة من خلال تجميد البرلمان لمدّة شهر ورفع الحصانة عن أعضائه. ولم يتوانَ سعيّد عن توجيه رسائل خفيّة استخفّ بها خصومه وربّما حلفاؤه في مناسبات متواترة. فحين كلّف هشام المشيشي بتكوين حكومة يوم 25 جويلية 2020، قبل سنة من إعفائه، عبّر سعيّد عن احترامه “للشرعيّة”، ولكنّه استدرك بقوله “آن الأوان لمراجعتها حتى تكون بدورها تعبيرا صادقا وكاملا عن إرادة الأغلبيّة“. وحين لقائه رئيس الحكومة ووزير الدّفاع المُقالَيْن يوم 26 ماي 2021، تحدّث قيس سعيّد عن الفصل 80 من الدستور، في إشارة منه إلى “الوثيقة المُسرَّبة” التي تمّ نشرها على موقع “ميدل إيست آي” يوم 23 ماي المنسوبة إلى ديوان رئاسة الجمهورية، والتي تدعو إلى تفعيل الفصل 80 من الدّستور حتّى يتولّى رئيس الجمهورية اتّخاذ تدابير استثنائيّة  في حال الخطر الدّاهم. وقال في هذا السّياق إنّ الفصل 80 مُفعَّل بمقتضى حالة الطّوارئ التي يتمّ إقرارها والتمديد فيها بأمر رئاسي. ودعا النيابة العموميّة إلى إثارة دعاوى في شأن النوّاب المعنيّين بطلبات رفع الحصانة.

وفي 11 جوان 2021، حين استقبل وزيرة العدل السابقة بالنيابة ورئيس الحكومة المُقال هشام المشيشي، قال سعيّد بنبرة لا تخلو من التّهديد، مُشيرا إلى النّواب المعنيّين بمطالب رفع الحصانة- إنّ الدّستور يخوّل له اتّخاذ تدابير استثنائيّة: “هناك في الدستور ما يُمكّنني من اتّخاذ قرارات لا يتوقّعونها، وسأعمل على تطبيق الدّستور حرفيّا، رغم أنّهم حاولوا توظيف الدّستور لفائدتهم”. 

وقبل المنعرج 80 بشهر وبضعة أيّام، تحديدا يوم 22 جوان 2021، تحدّث قيس سعيّد لدى استقباله رضا المكّي الناشط السياسي ومنسّق الحملة الانتخابية للرئيس عن ضرورة “البناء القاعدي” للفعل السّياسي، حيث يشارك الشّباب في صياغة التشريعات انطلاقا من الاقتراع على الأفراد، وفي حال عدم إيفاء المنتخَبين بوعودهم يتمّ سحب الثقة منهم. فمنظومة الحكم لدى قيس سعيّد تنطلق عبر مجالس محلّية منتخبة، فمجالس جهويّة يتمّ على إثرها اختيار أعضاء المجلس التشريعي عن طريق القُرعة.

وعمليّا، فإنّ “التأسيس الجديد المُجسّد لشعار “الشعب يريد” يقتضي أن يكون البناء قاعديّا، وذلك بإنشاء مجالس محلية في كلّ معتمديّة من معتمديّات الجمهورية وعددها 265، تتركّب من نائب عن كلّ عمادة يتمّ اختياره بطريقة الاقتراع على الأفراد بعد أن يكون قد قدّم ترشّحه مصحوبا بعدد من التزكيات”. [1]  وبناء على ذلك، يصبح العدد الجملي للمجالس المحلية 265 حسب عدد المعتمديّات، ومن ثمّ يتمّ اختيار نائب عن كلّ مجلس محلّي عن طريق القُرعة ليصبح عضوا في المجلس الجهوي على مستوى الولاية، ليكون عدد المجالس الجهوية 24 مجلسا. وفي مرحلة لاحقة، يتمّ اختيار عضو عن كلّ مجلس محلّي عن طريق القرعة لتمثيل المعتمديّة داخل مجلس نوّاب الشعب، ليصبح العدد الجملي للمقاعد داخل البرلمان 265 وطنيّا، بالإضافة إلى ممثّلي التونسيّين بالخارج.

أحلام انتخابية في مواجهة المطبّات الدستورية

قد يسعى قيس سعيّد إلى تغيير النّظام السياسي الحالي من نظام مزدوج يجمع من جهة بين خصائص النظام البرلماني الّذي يمنح صلاحيات واسعة للمجلس التشريعي في منح الثقة للحكومة ومساءلتها وسحب الثقة منها، وبين النظام الرئاسي الّذي يكون فيه الرّئيس مُنتخبا مباشرة من الشّعب، ولكن دون صلاحيّات مطلقة، إذ يتقاسم معه السّلطة رئيس الحكومة المُنتخَب من البرلمان من جهة أخرى، إلى نظام يكون فيه للسّلطة التنفيذيّة أكثر صلاحيّات وأقلّ ارتهانا للبرلمان. وهو أمر ليس بالجديد، إذ سبق وأن أطلق سعيّد توصيف “صحن تونسي” على هذا النّظام الّذي “يأخذ من كلّ شيء بطرف”، حسب قوله. وقد يبدأ سعيّد تحقيق وعده الانتخابي من خلال مراجعة منظومة الحكم برمّتها عبر تعليق العمل بالدّستور، وإصدار مرسوم رئاسي يتعلّق بالتنظيم المؤقّت للسُّلط العموميّة، يتّخذ بمقتضاه جملة من الإجراءات مثلما حصل في مارس 2011، وهو سيناريو مُتوقّع تداوله عديد الفاعلين السياسيّين.

ولكنّ أستاذة القانون الدستوري سلسبيل القليبي اعتبرت أنّ الهدف من اللّجوء للفصل 80 من الدّستور هو “حماية الدّولة وضمان عودة مؤسّسات الدّولة للعمل بشكل سليم”. وبالعودة إلى 2011، اعتبرت أستاذة القانون الدستوري أنّ العمل بدستور 1959 بقي ساري المفعول إلى حين صياغة القانون المتعلّق بالتنظيم المؤقّت للسّلط العموميّة. كما أنّ معاينة الشّغور النّهائي لمنصب رئسي الجمهورية وتولّي رئيس مجلس النوّاب آنذاك فؤاد المبزّع مهامّ رئيس الجمهورية كان بناء على الفصل 57 من دستور 1959. وهو ما يعني أنّ إلغاء العمل بالدّستور أو صياغة تصوّر جديد لنظام الاقتراع وتعديل القانون الانتخابي يفترض تمشّيا قانونيّا مثلما تمّ العمل به في 2011، حتّى لا يتمّ “نسف مؤسّسات الدّولة”، وفقا لتعبير سلسبيل القليبي.

واعتبرت أنّ التّدابير الاستثنائيّة لا تمنح لرئيس الجمهورية إمكانيّة تنظيم انتخابات تشريعيّة سابقة لأوانها، لأنّ الفصل 80 يقتضي بقاء البرلمان في حالة انعقاد، ممّا يعني استحالة انتخاب برلمان جديد. كما ذكّرت أستاذة القانون الدّستوري أنّ مجال إصدار المراسيم تُستَثنى منه القوانين الانتخابية بمقتضى الفصل 70 من الدستور، وهو ما يحول دون مراجعة القانون الانتخابي في هذه الظروف.

[1] خليل عبّاس، “الديمقراطية الآن: قراءة في ظاهرة قيس سعيّد“، إصدارات “كلمات عابرة”، ص.72