المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

تتطلب دراسة هذا الموضوع تشخيصا مختزلا للأوضاع التونسية الحالية بغية إبراز العناصر السلبية المؤثرة فيها، ثم المرور في وقت آخر لمناقشة أنظمة الحكم التي سادت في أرضنا وفي محيطنا طيلة 14 قرنا الماضية لعلّي أجد ما يغنينا عن الديمقراطية. وفي الختام سأبسط مقترحا لما أراه صالحا لبلادنا في الوقت الحاضر مقارنا بين الديمقراطية والحكم الوازع في تأثيرهما على الاستقرار السياسي في تونس.

غياب العدل وتفشّي الجهل

عرفت بلادنا ثورة جميلة لم نقدّرها حقّ قدرها. نعتناها بأبشع الصور وعزمنا على وأدها زاعمين أنها غير شرعية لأنها ليست من صلب فحل ولا من لدن زعيم. وأي ثورة ناجحة كان لها زعيم؟ جاءت الثورة بالحرية والتحرر وهي شروط الثورة الناجحة كما نظّرت لها حانا آرندت. وكانت الثورة تسير في الاتجاه الصحيح في بدايتها إلى أن تم الالتفاف عليها وتم زرع التفرقة والفتنة وهدم التماسك الاجتماعي من باب (فرّق تسُد )، حيث عمل السياسيون الجدد على تطبيق هذا المبدأ بحرفية فائقة تحت شعار الديمقراطية والتعددية السياسية. فتكاثرت الأحزاب وتنوعت مظاهر اللباس والجسد حتى لم نعد نعرف هوية أو تعريف المواطن التونسي. وقد يكون السبب في أصله أن السواد الأعظم منّا نحن العامة التونسيّة سلفيون لا نريد المحدث والجديد ونعتبر المحدث بدعة والبدعة ضلال. أو أن التونسي بطبعه انتهازي و”ميّاح مع الأرياح“ كما وصفه عالم الاجتماع التونسي المنصف ونّاس في كتابه ”الشخصية التونسية“. ثم إن الجهل متفشٍّ بصفة كبيرة في المجتمع، وبالتالي يسهل التأثير على الناس بواسطة الدين. أمّا الخاصّة فهي لا تعير هذا التحوّل اهتماما لأنّها تلهث وراء السلطة والمنافع والتعويضات التي تهيمن على كلّ أفكارها. وبقيت قلّة نبيلة من التونسيين متشبثة بقيم عالية وثابتة تسعى إلى البناء والإصلاح، غير أنّها مغمورة وعاجزة أمام قوة وهيمنة أصحاب المال وأصحاب التجارة التي لا تبور ولا يخشى كسادها، ألا وهي السياسة.

فأيّ سياسة تضمن لتونس الاستقرار أو البقاء ؟ هل أنّ الديمقراطية هي المنهج الذي يضمن السلم الاجتماعي والإصلاح والتنمية الاقتصاديّة ؟ أم الحكم الوازع القاهر الذي يصغّر العامة ويكره المواطن على الانضباط وعلى احترام المؤسسات الوطنيّة والمجاهدة في سبيل العمل حتى يضمن نجاح التنمية ويوفّر أسباب التطور والرخاء؟

تاريخ أنظمة الحكم في تونس: من الفتح إلى التدرج نحو الديمقراطية

لو كان للمسلمين نظام سياسي منزّل من السماء لرسمه القرآن الكريم أو لبيّن الرسول حدوده وأصوله ولفرض على المسلمين الإيمان به والإذعان له في غير مجادلة ولا مناضلة ولا مماراة.
طه حسين

كما لم يكن نظام حكم النبي ثيوقراطية مقدسة وإنما كان أمرا من أمور الناس يقع فيه الخطأ والصواب. ولكن العدل كان هو قوام الحكم. وأمر الخلافة كلّه قام على البيْعة، أي أنه يُحدّد برضا كبار الصحابة. ولم يكن ديمقراطيّا كما يظن أكثر الناس لأن لفظ الديمقراطية يدلّ على ”حكم الشعب بالشعب وللشعب“ (ابراهام لنكولن) أي أنّ الشعب يختار حكامه اختيارا حرّا ويراقبهم مراقبة حرّة ليتبيّن أنّهم يحكمونه لمصلحته، والشعب يعزل حكّامه إن لم يرض عن حكمهم. هكذا اصطلح على معنى الديمقراطية. ولكن العرب المسلمين كانوا دوما متأثرين بالدين لافتقارهم حضارة قبل ظهور الإسلام ولتمسّكهم بالعصبية القبليّة التي عقلتهم في الفكر السلفي الذي يتصدّى لكلّ محدث وكل جديد. فحاربوا كل تطوّر في نظام الحكم وحصروه في ( وأمرهم شورى بينهم) وفي ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) وهما مصطلحان استأثر بهما الحكام والفقهاء وعقلوا فيه كل فكر مجدّد وابعدوا عنه أراء المفكرين والفلاسفة حتى يحافظ رجال الدين على تأثيرهم ومكانتهم ومنزلتهم عند الخليفة والسلطان والأمير. وفي نفس الوقت وجد الحكام في الفقهاء خدمة جليلة لمصالحهم وأهوائهم. ويقول ابن خلدون في هذا السياق ”العرب أبعد الأمم على السياسة… ولا يستقيم لهم الحكم إلا بصبغة دينية“ … وطوال ما يقارب 13 قرنا كان نظام الحكم في تونس بأهواء الملوك والفقهاء ولم يطبّق نظام شورى ولا ديمقراطية ولا نظام عدل ومساواة بل كان الحكم عرفا في شريعته وقهرا في سياسته. ولكن النظام القاهر كان ضامنا للاستقرار ولم تشهد البلاد ثورات سياسية ناجحة.

بعد الاستقلال تحرّرت تونس من هيمنة المحتّلين ومن عرف الفقهاء وتأسّست دولة فتية منفتحة على العالم المتقدّم. وقد حصل ذلك بفضل الجيل الجديد من المثقفين والمفكرين والمصلحين التونسيين الذين استغلوا الحريّة الفكريّة المنتشرة في أوروبا ونما جيل يعتّز بالانتماء لتونس وحدها. ونجحت السلطة السياسيّة في السنوات الأولى في بناء أسس الدولة وأمنها وإبراز هويّتها. وهي أهم الانجازات التي عجزت عن تحقيقها كلّ الدول والحكومات التي تداولت على امتلاك هذه الأرض. ولم يتمّ هذا الإنجاز بيسر ولا عن طواعية من الشعب. فقد تمّ على حساب التنمية حيث شهدت البلاد فترات عسيرةً سنوات التعاضد و في انتفاضة الخبز 1984 على سبيل الذكر. وفي الفترة الثانية بعد الاستقلال ومنذ 1987 تركّز العمل السياسي على التنمية. فسجلّت البلاد أرقاما محترمة بقيت مرجعا للنموّ حتى بعد الثورة ولكن تمّ هذه المرة على حساب الحريات، فشهدت هذه الفترة معاملات قهرية تعسفية ومظاهر فساد وتهميش للتعليم والفكر الحر وهي أخطر القضايا التي جعلت تونس على حافة الحضيض. ولكن النظام كان ضامنا للاستقرار ولم تشهد البلاد إلا موجات ظرفية من الغضب.

كان الحكم العسكري أو شبه العسكري مسيطرا على كل الجمهوريّات العربيّة في أواخر القرن الماضي، وأثبت أنّه خير علاج للأنظمة وأنّه إكسير الاستقرار السياسي وتطويع الشعب. لا يجوز للمنظمات الشغيلة أن تعارض الحاكم هذا إن وجدت بالأساس وإن نطقت أطلق عليها الرصاص واعتقل قادتها. ولا يجوز للمعارض أن ينكث البيعة فيصبح مارقا وكافرا لأنه لا يطيع أولى الآمر.

ماذا حدث في تونس بعد الثورة ؟

بعد أن استكملت المرحلة الأولى للثورة والتي أسقط فيها نظام التجمع في 14 جانفي 2011 وبعدما استكملت المرحلة الثانية وأنجز فيها ببطء كبير دستور جديد أسس لكيان سياسي جديد، ها نحن الآن نتدرج في مرحلة التأسيس للديمقراطية رغم ما حصل في البلاد من أعمال مضادة للثورة ومن سوء الحكم ورغم ما عمده المحرضون الذين يسجلون كلّ السلبيات في دفاتر الثورة وقالوا إن الثورة والحرية والديمقراطية رجس من عمل الشيطان ألا فاجتنبوها. وقد انساق الشعب لهذا التحريض عندما نظر الى الظروف الاقتصادية والاجتماعية السيئة التي سادت وإلى ما آلت إليه الحالة الأمنية من تدهور ولم تنتج الثورة نفعا للبلاد ولا مصلحة للعباد.

أصبح الشارع مستبدا ونشر الفوضى والأوساخ والمزابل في كل حيّ. و أصبح العمّال مستبدّين لا يعملون. و استبدّ أصحاب المهن الحرة فلا يدفعون الضرائب. واستبد الفاسدون يمتصّون دماء الدولة، مثلما يفعل دراكولا بل أكثر من ذلك لأنهم يتلذذون بدمائنا حتى في وضح النهار. واستبد التجار الانتهازيون يطففون ويحسبون الثمن شفعا ووترا. ولم تبق إلا ثلاث فئات لم تتمكن من فرض الاستبداد: السياسيون لأنهم حققوا أهدافهم باعتلائهم السلطة. والجيش التونسي تحكمه تراتيب وتقاليد غير عربيّة تمنعه من المشاركة في السياسة الشعبية. والفئة الأخيرة من المفكرين والمبدعين والشعراء الذين هم في واد يهيمون بل في عالم آخر يعيشون . هذا هو حال تونس اليوم. هل كتب علينا أن نذعن لهذه الظروف ونقرّ أن المنهج الديمقراطي الذي نسير فيه منهجا عقيما؟

الإجراءات الأولية: بناء التماسك الاجتماعي وإصلاح القضاء

لا سبيل للنجاة إلا بالديمقراطية ( حكم الشعب أو ما يريده الشعب) في يد والأمن ( الحكم الوازع) في يد أخرى. وماذا يريد الشعب أو بمعنى آخر ما هي حاجيات الشعب ؟ لا حاجة للبحث طويلا لكي نجد الجواب العلمي، فمفكر تونس عبد الرحمان بن خلدون يسّر سبيلنا وحدّد حاجيات الانسان وضرورياته ليتمدن ويختلف عن بقية المخلوقات الاخرى. وقد جاء في مقدمته أن الانسان مدني بالطبع ويحتاج الى الغذاء( العيش الكريم) والأمن ( الدفاع عن النفس ) وإلى الاجتماع ( التماسك الاجتماعى) والى الحكم الوازع أو القاهر حتى لا يصل أحد إلى غيره. وأن هذا الحكم يسوده العدل الذي هو أساس العمران والاجتماع. وإذا أردنا تطبيق ذلك وهو غير عسير وجب إصلاح ما فسد في بلادنا أو الشروع في الاصلاح لأن هذه البداية ستربى كما يقال ”وإصلاح القليل يزيد فيه ولا يبقى الكثير مع الفساد“.

إصلاح القضاء أول الخطوات لنشر العدل بين الناس ولتطبيق الحكم الوازع. إصلاح التعليم لبناء أجيال المستقبل من مفكرين وعلماء ومعلمين وحرفيين. وفي خطوة موازية الحرص على توفير الأمن الغذائي لعامة الشعب حتي ينعم بالعيش الكريم وبالكرامة. ولا تنفع كل هذه الخطوات مهما كانت نجاحاتها إذا غاب العمل المجتمعي من طرف الحاكم. ولعمري فهذا العمل هو أساس نجاح الحاكم التونسي في الوقت الحاضر وفي هذه الظروف بعد 25 جويلية 2021. ولنقولها بصراحة ووضوح هذا هو العمل الأكثر أهمّية الذي يترقّب رئيس الجمهورية في الوقت الحاضر. تونس تحتاج لمن يعيد تماسك مجتمعها وصيانة وحدتها وإصلاح ما تهدم من كيانها. تونس لكل التونسيين الذين يعتزون بالانتماء لهذا الوطن. ولكلّ من شارك في تأسيس الدولة منذ الاستقلال مهما كانت ميولاته الحزبيّة ومعتقداته الدينيّة وأصوله العرقيّة من الأمازيع واليهود والأقليّة العربيّة وأحفاد الأندلسيين وأحفاد الأتراك والفرنسيين. تونس تحتاج إلى الوطنيّة التي أنشأها بورقيبة والتماسك الاجتماعي الذي أسسه في المجتمع والى مناهج التنمية الاقتصاديّة في حكم بن علي وإلى الحريات التي ضمنها الدستور الأعرج الذي أنجز زمن الترويكا. . لا نفرط في تاريخنا ولا في ترابنا و لا في شعبنا ولا في ما تأسّس في البلاد ونبني تونس الغد بسواعد كلّ من يؤمن بهذا البلد العظيم في ظل حكم سياسي يسوده العدل والأمن. ولكن أي أمن ؟ الأمن القومي بمصطلحه الحديث والأمن القومي هو ببساطة الحفاظ على القيم الأساسية التي اكتسبها المجتمع عبر العصور والتي تمثّل الهويّة التونسية والتماسك المجتمعي والاستقلال وحرمة التراب الذي لا يشاركنا فيه أحد والذي يعتبر الدفاع عنه أمرا مقدّسا حسب الدستور. كما أنّ مصالح البلاد التونسية فوق كل اعتبار. والمحافظة على هذه القيم تولّد العزة في نفوس الافراد وترفع قواعد التماسك الاجتماعي الذي يعتبر حجر الزاوية في المنهج الأمني القومي. فلنبدأ بأول الخصال وهي العدل والمساواة التي هي أساس العمران، ولا يتطلّب إلا إصلاح القضاء. وإن صلح القضاء نمت العزة والكرامة في نفوس المواطنين وأقبلوا على العمل فكان الرخاء. ومن يظنّ أنّ التنمية لا تحصل إلا إذا استتبّ الأمن بين الناس وأمنت السبل فهو هائم. وما أعظم هذه القيم ( العدل والمساواة) فهي قيم أتت بها كل الديانات السماوية ونشرها كبار الفلاسفة والمفكرين (أرسطو) . خلاصة القول لو تعلّقت همّة السياسيين في تونس بأفكار العلماء والباحثين لاهتدوا إلى أفضل النتائج في كلّ ميادين الحياة.

وفي الختام هل الديمقراطية أجدى أم القهر أقوى؟ أرى أنّ الديمقراطية واجبة على أن تتخذ من الإجراءات الإصلاحية نبراسا يضيء طريقها ويجلب الرخاء فيضمن الاستقرار والسلم الاجتماعيّ. وعلى أن يتم سلك سياسة القهر للمارقين عن القانون من المتهربين عن دفع الضرائب والفاسدين الذين رهنوا ثروات البلاد لمصالحهم الخاصة.