وقد بتّ مجلس القضاء العدلي في الملفّ التأديبي لبشير العكرمي يوم 12 جويلية 2021. في اليوم ذاته، كان من المقرّر أن يعقد البرلمان جلسة حوار مع وزيرة العدل بالنيابة حول ما جاء في تقرير تفقّدية وزارة العدل بخصوص القاضيين بشير العكرمي والطّيب راشد. إلاّ أنّ الجلسة أُلغيت وتمّ عقد جلسة تشريعيّة بدلا عنها، وفق ما ذكرته النّائبة سامية عبّو عضو مكتب المجلس المكلّفة بالعلاقة مع الحكومة.

تعود أطوار هذه القضيّة إلى شهر أكتوبر 2020، حيث وجّه وكيل الجمهورية السابق بمحكمة تونس بشير العكرمي مراسلة إلى التفقّدية العامّة بوزارة العدل يتّهم فيها الرّئيس الأوّل لمحكمة التعقيب ورئيس الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين وعضو المجلس الأعلى للقضاء الطّيب راشد بشبهات إثراء غير مشروع وفساد مالي ومخالفة مبادئ النّزاهة، من خلال امتلاك عقارات وأراض تفوق قيمتها الحقيقيّة مبالغ الشّراء. إثر ورود هذه الشّكوى على التفقّدية، بادر الرّئيس الأوّل لمحكمة التعقيب القاضي الطّيب راشد بالردّ على هذه الاتّهامات، من خلال مراسلة توجّه بها إلى التفقّديّة العامة لوزارة العدل بتاريخ 20 أكتوبر 2020، تحدّث فيها عن سبب الخلاف الحاصل بينه وبين الوكيل السابق للجمهورية، وعن جملة من الإخلالات التي قام بها بشير العكرمي عندما كان قاضي تحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب، وعندما أصبح فيما بعد وكيلا للجمهوريّة. ووفق رواية الطيب راشد فإنّ العكرمي احتجّ على عدم تعيينه وكيلا للجمهورية وهدّد رئيسة مجلس القضاء العدلي بأنّه سيورّط ابنها في قضيّة جزائيّة في حال تمّت المصادقة على القرار وتعيين وكيل جمهورية جديد بدلا عنه.

سقوط أعلى هرم السلطة القضائية

بالعودة إلى التفاصيل، فإنّ الطّيب راشد هو الرّئيس الأوّل لمحكمة التعقيب، الّتي تُصنَّف في أعلى الهرم القضائي، حيث تصدر أحكاما لا تقبل الطّعن أو النّقض. وهو في الآن نفسه معيَّن بصفته تلك على رأس الهيئة الوقتيّة لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، الّتي تبتّ في الطّعون المتعلّقة بمشاريع القوانين المصادق عليها في البرلمان، والمُقدَّمة لديها من أعضاء مجلس نوّاب الشّعب. وتخوّل صفة رئيس محكمة التّعقيب لصاحبها أن يكون عضوا بمجلس القضاء العدلي، وهو أحد مكوّنات المجلس الأعلى للقضاء، الّذي ينصّ الفصل الأوّل من القانون الأساسي المنظّم له على أنّه “مؤسسة دستورية ضامنة في نطاق صلاحياتها حسن سير القضاء واستقلالية السلطة القضائية طبق أحكام الدستور والمعاهدات الدولية المصادق عليها”.

أمّا عن بشير العكرمي، فقد كان حاكم تحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب، وتعهّد بملفّ اغتيال شكري بلعيد. ثمّ أصبح وكيل جمهورية لدى المحكمة الابتدائية بتونس سنة 2016. ويتولّى وكيل الجمهوريّة إثارة الدعوى العمومية وممارستها في الجرائم الإرهابية المنصوص عليها بقانون مكافحة الإرهاب والجرائم المرتبطة بها والّتي يشرف عليها القطب القضائي لمكافحة الإرهاب. كما  يتعهّد حصريّا بصفة مباشرة أو من خلال باقي وكلاء الجمهوريّة بالجرائم الماليّة والاقتصاديّة المودعة لدى القطب القضائي الاقتصادي والمالي المختصّ بهذا الصّنف من الجرائم. كما يختصّ وكيل الجمهورية بتمثيل النّيابة العمومية على معنى مجلّة الإجراءات الجزائيّة، وهو مكلّف بمعاينة سائر الجرائم وتلقي شكايات المعتدى عليهم.

كلّ هذه المعطيات تؤكّد من ناحية الصلاحيات الواسعة الّتي يتمتّع بها كلّ من الرّئيس الأوّل لمحكمة التعقيب ووكيل الجمهورية بمحكمة تونس، و من ناحية أخرى حساسيّة المناصب الّتي تُحتّم على المسؤولين قدرا كبيرا من النّزاهة ونظافة اليد في أداء أعمالهم. ولكنّ التسريبات وتبادل الاتّهامات بين القاضيين تؤكّد انخرام منظومة العدالة وتخلّي القاضيين عن واجب الحياد والمسؤولية.

المسار التأديبي وتلكّؤ مجلس القضاء العدلي

إثر أوّل ظهور تلفزي للقاضي الطيّب راشد في حوار صحفي على قناة التاسعة بتاريخ 23 نوفمبر 2020 ليُفنّد ما وُجّه إليه من اتّهامات بالإثراء غير المشروع، قرّر مجلس القضاء العدلي بتاريخ 24 نوفمبر 2020 رفع الحصانة عنه وتعهيد النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائيّة بتونس بالبحث في التسريبات المتعلّقة بشبهات الفساد المالي المتعلّقة به، وشبهات التستّر على الإرهاب المتعلّقة بالبشير العكرمي الّذي يشغل حاليّا خطّة مدّعٍ عامّ للشّؤون الجزائيّة بوزارة العدل. كما طلب مجلس القضاء العدلي من التفقّدية العامّة بوزارة العدل مدّه  بمآل الأبحاث حول الشّكايات المرفوعة ضدّ القاضيين الطّيب راشد وبشير العكرمي. وبتاريخ 16 ديسمبر 2020، قرّر المجلس الأعلى للقضاء تجميد عضويّة الرّئيس الأول لمحكمة التّعقيب الطّيب راشد طبقا لأحكام الفصل 40 من القانون المتعلّق بالمجلس الأعلى للقضاء الّذي ينصّ على ما يلي: “إذا ارتكب رئيس المجلس أو أحد أعضائه فعلا قصديا موجبا للتتبّع الجزائي أو خطأ جسيما موجبا للمؤاخذة التأديبية، فإنه يقع تجميد عضويته بقرار من الجلسة العامة في انتظار البتّ فيما نسب إليه طبق الإجراءات الخاصة بذلك الواردة بالنظام الداخلي”.

في فيفري 2021، تلقّى مجلس القضاء العدلي تقرير التفقّدية العامّة بوزارة العدل. في الأثناء، أصدرت وزيرة العدل بالنيابة حسناء بن سليمان بعد أيّام من تولّيها هذه الحقيبة قرارا بإحالة القضاة محلّ الشّبهة على أنظار مجلس التّأديب. وهو قرار استنكره عدد من الجمعيّات والمنظّمات الّتي اعتبرت أنّ قرار الاكتفاء بالإحالة على مجلس التأديب دون التوجّه إلى النيابة العموميّة يُعدّ إجراءً لا يرتقي إلى حجم الشّبهات الّتي تطال كلاّ من الطّيب راشد وبشير العكرمي وقضاة آخرين، وهو ما من شأنه أن يُعمّق ثقافة الإفلات من العقاب. وممّا زاد الوضع إرباكا طلب وزيرة العدل بالنيابة استرجاع التقرير من مجلس القضاء العدلي ومراجعة بعض الأسماء الّتي كان من المُقرَّر أن تُحال على مجلس التّأديب. في 9 مارس 2021، أصدر مجلس القضاء العدلي قرارا يعتبر فيه مجلس التّأديب متعهّدًا بالملفّات المُحالة إليه من وزيرة العدل بالنيابة، مع تكليف قاضيين بإجراء الأبحاث التأديبيّة اللازمة وإحالة الشّبهات المتعلّقة بغير القضاة على النيابة العمومية بمحكمة تونس، وفق ما جاء في نصّ القرار.

في 25 ماي 2021، وإزاء طول الإجراءات التأديبية وبطء صدور القرارات بشأن القاضيين، طالبت جمعيّة القضاة التونسيّين  في بلاغ لها “مجلس القضاء العدلي المنتصب للتأديب بإتمام أعماله دون زيادة تأخير أو تجاوز للآجال القانونية القصوى المضبوطة صونا للثقة العامة في القضاء وتثبيتا لمقتضيات الإصلاح القضائي بالنظر إلى حساسية هذه الملفات وآثارها السلبية على القضاء وحسن سيره”. وعبّر عن استغرابه من مواصلة الرّئيس الأوّل لمحكمة التعقيب مزاولة عمله من خلال توجيه دعوة لدوائر محكمة التعقيب للانعقاد، رغم رفع الحصانة عنه وتجميد عضويّته بالمجلس.

وبتاريخ 1 جوان 2021، أنهى القاضيان المكلّفان بالبحث أعمالهما في الشّكايات الواردة حول الطّيب راشد وبشير العكرمي، ودعت رئيسة المجلس القضائي العدلي إلى انعقاد جلستَين تأديبيّتين بتاريخ 24 جوان 2021، حضر خلالها بشير العكرمي الّذي تمّ إرجاء النّظر في ملفّه إلى يوم 12 جويلية، في حين تمّ تأخير الملفّ التأديبي للطيّب راشد إلى يوم 16 جويلية 2021. هذا التلكّؤ في حسم ملفَّيْ القاضيَين، قبل صدور قرار مجلس التأديب بتاريخ 13 جويلية 2021،  اعتبرته المحامية إيمان قزارة عضو هيئة الدّفاع عن الشّهيدين شكري بلعيد ومحمّد البراهمي “وصمة عار” في تاريخ القضاء.

هيئة الدّفاع عن الشهيدين: العنصر الحاسم

تلقّت هيئة الدّفاع عن الشّهيدين شكري بلعيد ومحمّد البراهمي نسخة من تقرير التفقّدية العامّة بوزارة العدل وشرعت في نشر أجزاء منه على صفحتها الرّسمية على فيسبوك. وكان لتصريحات أعضاء الهيئة أثرا مدوٍّ في الساحة الإعلامية والسياسيّة، خاصّة إثر النّدوة الصحفيّة الّتي عقدتها بتاريخ 1 جويلية 2021، والّتي تحدّثت فيها عن حجم الخروقات والتّجاوزات الّتي ارتكبها بشير العكرمي أثناء تولّيه مهمّة وكيل جمهورية بمحكمة تونس. إذ تتحدّث المحامية إيمان قزارة وفقا لما جاء في تقرير تفقّدية وزارة العدل أنّ 6268 ملفّا متعلّقا بقضايا إرهابيّة لم يتمّ إنجازها، بالإضافة إلى 1361 قضيّة إرهابيّة لم يتمّ تضمينها بالسجلاّت القضائية. كما تعمّد القاضي عدم تضمين شهادات في ملفّ اغتيال شكري بلعيد، منها مثلا شهادة عامر البلعزي الّذي اعترف بإتلاف سلاح الجريمة، بالإضافة إلى السيّارة التي تمّ استخدامها في عمليّة الاغتيال. وهو ما تعتبرته المحامية “تستّرا على الإرهاب” و “إعداما لموادّ إثبات الجرائم”.

وردّا على بيان مجلس القضاء العدلي الصادر بتاريخ 2 جويلية 2021 الّذي تحدّث فيه عن “مبدإ سريّة الأبحاث التأديبيّة وخضوعه لمبادئ المحاكمة العادلة وحقوق الدّفاع” إثر الندوة الصحفيّة الّتي عقدتها هيئة الدّفاع عن الشهيدين، أصدرت الهيئة بيانا مُضادّا عكست فيه الهجوم على مجلس القضاء العدلي، مُذكّرة بالشكايات التي كانت تقدّمت بها للتفقّدية ولمجلس القضاء العدلي. كما دعت المجلس إلى التخلّي عن إجراءات التأديب وإحالة بشير العكرمي على النيابة العمومية لتباشر أبحاثها فيما نُسب إليه من اتّهامات بناء على تقرير التفقّدية العامّة لوزارة العدل. واستنكرت مواصلة حجب التقرير عن النيابة العمومية، مما يحول دون الشّروع في الأبحاث.