صورة لمالك الخميري

تصريحات كريم عبد السلام المثيرة للجدل، أثارت موجة من ردود الأفعال والتعليقات المتضاربة داخل الحزب السياسي المعني بهذه التصريحات، ناهيك عمن هم من خارج هذه المنظومة الحزبيّة والتنظيمية. وقد تراوحت تعليقات وتصريحات قيادات حركة النهضة بين من يعترف بصحتها ويشكك في دقتها وبين من ينفيها تماما ويربطها بسياق تآمري على الحركة وتاريخها.

حدود سردية عبد السلام

اعترافات عبد السلام للإعلام (المفكرة القانونية، إذاعة شمس اف ام، إذاعة أي اف ام) عن الفترة التي قضاها في صفوف حركة النهضة متقلبا بين العمل التنظيمي والميداني و”العنف الثوري” جاءت في شكل سردية شبه ذاتية شبه تاريخية، خصوصا وأن ما قاله وما نشره من معلومات واعترافات وتقييمات لم تثبت كلها مستنديًّا، أو تُدعم من مصادر تاريخية مستقلّة، حتى التأييد الذي لقيته من القيادي السابق في حركة النهضة عبد الحميد الجلاصي، والذي سنأتي على ذكره لاحقا، لم يكن ليطابق ما قله عبد السلام بشكل كامل، بل هو تأييد نسبي في مواضع تاريخية معينة.

شهادات كريم عبد السلام بدأت بطفولته، حيث اعتبر أن ما عايشه فيها كان دافعا لخوض تجربته السياسية في صفوف الحركة الإسلامية التي وفرت له ملاذا آمنا من تعسف السلطة الممثلة برئيس منطقة أمن الحي الذي استبد بوالدته وأطردهم من بيتهم ظلما لأجل صديقته التي تعمل في الماخور وتشاركهم السكنى فيه.

هذه النقمة الطفولية على السلطة وجدت، حسب روايته، حاضنة داخل مسجد الحي، عندما تعرّف على شيوخ دين مرتبطين بحركة النهضة الذين عملوا على استقطابه للحركة وإدماجه فيها، ومن ثمة تحويل نقمته على السلطة لمعارضة راديكاليّة لها، ومن هناك دخل لعالم السياسة دون أن ينسى ثأره ضد السلطة.

تطرق عبد السلام في شهادته لمرحلتين مرت بهما جماعة الاتجاه الإسلامي التي غيرت تسميتها لحركة النهضة عند مجيء بن علي للسلطة ودخلت في مرحلة أسمتها “مرحلة المهادنة”، وهي المرحلة الأولى التي سبقت انتخابات 1989 والتي كان من المفترض أن لا تشارك فيها الحركة إلا في 5 دوائر انتخابية إلا أنها غيّرت في تكتيكها بقرار من المكتب التنفيذي للحزب وقررت المشاركة في كل الدوائر الانتخابية بمرشحين لكل دائرة منضوين تحت شعار “القائمة البنفسجية”.

وبحسب عبد السلام، فقد كان أنصار الحزب يعولون على مرشحيهم للفوز في الانتخابات “لأجل أسلمة المجتمع والتشريع”، إلا أنّ “التدليس الواسع” الذي فرضه حزب التجمع والإدارة حال دون ذلك، وهو ما فتح الطريق للمرحلة الثانية للعمل السياسي لحزب النهضة التي انطلقت مع حرب الخليج الثانية سنة 1990 حيث استغلت الحركة الإسلامية المظاهرات المناهضة للحرب على العراق للتوسع في مطالبها كالاعتراف بالحزب ونشاطه السياسي. إلا أن الاعتقالات الواسعة التي طالت قيادات الحزب والأعضاء المعروفين دفع، حسب عبد السلام، بالحركة للدخول للنشاط السري، وتدشين خطة “تحرير المبادرة” سنة 1991 التي تقوم حسب اعترافاته على مهاجمة المنشآت الحيوية لحزب التجمع والأمن والمتعاونين معهم والوشاة، في معركة كسر عظام راح ضحيتها أبناء جيله ممن كانوا أطفالا وشبان صغار في تلك الفترة وقيادات سياسية خططت ونفذت.

في هذا السياق جاءت أحداث باب سويقة سنة 1991، فقد اعترف عبد السلام في شهادته بأنه هو من حرّض وخطط وشارك في الهجوم ضمن فريق من 16 عنصرا نهضويا على شعبة التجمع في باب سويقة ومقتل حارسها عمارة السلطاني حرقا.

اعترافات عبد السلام عقبها اعتذار من المعني بالأمر على هذه الأحداث الدامية وانتقاد شديد لقيادات النهضة في تلك الفترة التي لم تعتذر لجيله الذي اعتبره “حطب معارك النهضة والسلطة”. 

العدالة الانتقالية: فهم سردية الاعترافات

العنوان الأساسي الذي يمكن أن تنضوي تحته سردية الاعترافات للنهضوي السابق، عبد السلام، هو موضوع العدالة الانتقالية الذي خضع، حسب تقييمه للتسييس. إذ اعتبر عبد السلام أن هيئة الحقيقة والكرامة فتحت موضوع المصالحة من زاوية حقوقية ضيقة تقتصر على تكديس الملفات بمنهجية كميّة دون أن تخضع للتدقيق الجيّد والبحث القضائي الشامل والمنصف.

يقول عبد السلام في حديث للمفكرة القانونية “منحنا هيئة الحقيقة والكرامة صلاحية إجراء بحث قضائي دون أن تكون خاضعة لأي شكل من أشكال الرقابة القضائية أو ملزمة باحترام مسطرة الإجراءات قانونية”.

ويشير أيضا إلى أن “الدوائر المتخصصة للعدالة الانتقالية في تصورها القانوني الصرف لا تحترم قواعد المحاكمة العادلة بما يعني أنها محاكم استثنائية تنتج عمليات قصاص بغطاء القانون.”

هذه العدالة الانتقالية بحسب تصريحات كريم عبد السلام تنقصها كذلك مسألة الاعتذار من ضحايا النظام الذي سقطوا في أحداث باب سويقة، مشيرا إلى أن هيئة الحقيقة والكرامة، ولغايات سياسوية، انتهجت مقاربة كمية في بحثها عن الضحية عنوانها الأهم تضخيم جمهور الضحايا بحثا عن قاعدة مساندة أوسع.

موقف عبد الحميد الجلاصي

عبد الحميد الجلاصي من قيادات الصف الأول في فترة الثمانينيات داخل حركة النهضة، بشهادته، وهو المسؤول عن التخطيط والدعم اللوجستي داخل الحزب، اتهمه كريم عبد السلام بالزج بقواعد الحركة في معارك سياسية مع النظام، وطالبه بالاعتذار من هذه القواعد ومن الشعب التونسي.

وفي تصريح خصّ به نواة حول ما جاء في تصريحات عبد السلام عن مسار العدالة الانتقالية، يقول الجلاصي “لا يمكن تنقية المناخات وإرساء التسامح والتعايش دون طي صفحة الماضي” وهو الهدف الذي عجزت هيئة الحقيقة والكرامة عن تحقيقه بسبب إخلالاتها وبسبب العراقيل الكثيرة من خارجها بعد انتخابات 2014.

عبد الحميد الجلاصي

كما علّق على دوره في المواجهات مع السلطة ومطالبته بالاعتذار بالقول  “لقد كنت عنصرا قياديا مؤثرا أثناء الفترة التي تطرقت لها الشهادة. ومن هذا المنطلق فإني أتحمل مسؤولية سياسية وأخلاقية لمن لحقهم ضرر من أي نوع كان من أبناء النهضة أو غيرهم بسبب خيارات ساهمت فيها، بقطع النظر عن موقفي خلال النقاش أو حجم مسؤوليتي، وبقطع النظر عن مسؤولية جهات أخرى وأهمها السلطة الحاكمة، وقد عبرت عن هذا الموقف سابقا”.

ونقل لنا القيادي السابق في حركة النهضة، جزءاً من وثيقة تقييم مسار حركة النهضة قبيل الثورة، لم تنشر بعد، بعنوان “خصائص المسار وحصائد التجربة ومواطن الخلل الكبرى” جاء فيه:

“هذا، وبالنظر إلى ما توصلت إليه الدراسة من نتائج، فإن كل العاملين ممن تحملوا مسؤوليات ،ومهما كانت مواقعهم فيها، لا يجدون غضاضة، لا، بل يرون من واجبهم …الاعتذار لكل من لحقه أذى، صغير أو كبير، بسبب ما اقترفوه من أخطاء في حق المناضلين وعائلاتهم ومحيطهم وفي حق جماهير شعبنا…”

حين مطالبته بنص الوثيقة كاملا، رد الجلاصي : “لا أعتبر من حقي نشر النص كاملا”.

إلى ذلك، اعتبر الجلاصي أنه “بقدر ما كان (كريم عبد السلام) دقيقا في رواية ما حصل بشأن مأساة باب سويقة فإنه روايته لم تكن دقيقة في حديثه عن التواريخ والمؤتمرات (الخامس تحديدا ومن حضره وما كانت مخرجاته) ومضامين الخطط، ومواقع عدد من المذكورين. وهي مسائل ليست جزئية بل تؤدي إلى أحكام كبرى بخصوص السياسات والمسؤوليات الشخصية “. وهي مهمة للذاكرة السياسية وللمصالحة الوطنية.

مواقف متضاربة لقيادات نهضوية

العديد من ردود الفعل والتعليقات المختلفة صدرت تباعا عن بعض المسؤولين في حركة النهضة ممن شغلوا خططا قيادية في الفترة التاريخية التي أدلى حولها كريم عبد السلام بشهادته، وقد تراوحت بين الإنكار والهروب من الإجابة إلى التجريح والاعتراف النسبي.

راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، علق على شهادة كريم عبد السلام بخصوص عملية باب سويقة، قائلا: “هذه محاولات بائسة ويائسة لتحويل حركة سياسية منذ 1981 وهي الحزب الأكبر في البلاد سواء في المعارضة والحكم، إلى حالة وقضية أمنية وربطها بالإرهاب”. وتابع الغنوشي في تصريح لشمس أف أم “الفاشلون الذين فشلوا في مواجهة الحزب السياسي لصناديق الاقتراع يحاولون جاهدين أن ينقلونا من المربع السياسي إلى المربع الأمني”.

من جانبه، اعتبر عضو المكتب التنفيذي بحركة النهضة، العجمي الوريمي، أن تصريحات عبد السلام تمثل رواية خاصة “يُؤخذ منها ويُرد عليها” تعكس فهمه الشخصي لهذه الأحداث، وتمثل شهادة لا تستند على معطيات، ولا يمكن اعتبارها وثيقة تاريخية مثبتة، وفق تعبيره .وقال الوريمي، في تصريح إذاعي، إنه يتعاطف مع كريم عبد السلام ويكن له كل “المودة”، على الرغم من اتهامه باطلا بالمشاركة في هذه الأحداث، وذلك بالنظر لما تعرض له من “معاناة” خلال فترة حكم النظام السابق، وفق تعبيره.

هذا وقد اتصلنا بالقيادي في حركة النهضة سمير ديلو، لمعرفة موقفه من الاعترافات، إلا أنه رفض بشكل قاطع وبات التطرق أو الحديث أو إبداء الرأي في هذا الموضوع.

بالرغم من أهميّة سردية النهضاوي السابق، كريم عبد السلام، وكشفه للعديد من المعلومات الخطيرة حول مواجهات التسعينات والجرائم المرتكبة في تلك الفترة، فإنه لم يتغير شيء في الواقع السياسي التونسي، ولم تتم مراجعة آليات العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، إلا أنها أحدثت رجّة للسردية الرسمية لحركة النهضة حول المواجهات مع النظام وأحدث باب سويقة والآليات السياسية والتنظيمية التي كانت تعتمدها الحركة في تلك الفترة للاختراق والمواجهة.