صورة لحمادي الأسود

في المقابل، انشغلت الطبقة السياسية مجددا بقصّة الثرثرة التي جرت في فضاء خاص، وسُجِّلت سرّا ليتم التلاعب بها وإعادة تركيبها وتقديمها في شكل تسريب تم تسويقه في غلاف من المؤامرات والدسائس. هذه الثرثرة جمعت النائب محمد عمار عن التيار الديمقراطي ونائبين آخرين أحدهما راشد الخياري، اللذان أوهماه برغبتهما في التوقيع على عريضة سحب الثقة من رئيس البرلمان، واستدرجاه للحديث في مواضيع شتى أغلبها مواقف معلنة للتيار حول مكافحة الفساد واستقلالية القضاء. وحسب محمد عمار، فقد تم تسجيله سرا ثم وقع التلاعب بالتسجيل الأصلي للإيهام بتدخل رئيس الدولة في القضاء وبمحاولات الرئيس وحزب التيار استعمال أجهزة الدولة لضرب خصومهم، وأساسا حركة النهضة وقلب تونس.

هذا التسجيل الذي تلقّفته قناة نسمة لصاحبها، نبيل القروي، وبغض النظر عن مدى جدّيته، إلا أنه يعكس الحالة المزرية التي وصلت إليها الحياة السياسية في البلاد والتي بلغت حالة من التردي لا حدود لها. فتفجيران أحدهما إرهابي والآخر في منطقة صناعية يصبحان من المتفرقات التي لا تستحق الاهتمام والمتابعة وتحميل المسؤوليات، في حين تسلط الأضواء على محادثة فارغة بلا محتوى حقيقي.

يأتي ذلك بعد استعراض الأسبوع الماضي، بين عبير موسي وحزبها من جهة وبين ائتلاف الكرامة وحركة النهضة من جهة أخرى، حول الجمعية المشبوهة “جمعية علماء المسلمين إحدى أذرع الحركة العالمية للإخوان المسلمين“.

اعترافات حول النهضة

في نفس السياق يمر تصريح خطير وصادم لكريم عبد السلام، واعترافاته منذ أن كان طفلا وكيف تم تجنيده من حركة الاتجاه الإسلامي (حركة النهضة)، مرور الكرام. شهادة كريم عبد السلام حول علاقة حركة النهضة بالعنف هي الأخطر إلى حد الآن، والتي جاءت لتكشف حقيقة فشلت العدالة الانتقالية في كشفها، وهو عنف الإسلام السياسي الذي قاد إلى الحرق والاعتداء بماء الفرق والتفجيرات ضد مواطنين تونسيين وتكوين أجهزة خاصة ومسلحة. هذا العنف الذي لم يتوقف حتى بعد الثورة وبلغ حد اغتيال مناضلين من خيرة ما أنجبت تونس وهما شكري بلعيد ومحمد البراهمي.

كانت الشهادة التي أدلى بها يوم الأحد الماضي كريم عبد السلام على إذاعة شمس اف م فرصة لإعادة طرح الموضوع بالجدية اللازمة، فالتهديدات مازالت متواصلة، وآخرها التهديد بالتصفية الذي وُجّه لابنة الشهيد البراهمي. إن الدفع بجرّ البلاد إلى مربع العنف مازال متواصلا، ويهدد بنسف كل ما تم تحقيقه من مكاسب ديمقراطية بفضل الثورة.

لقد فشلت العدالة الانتقالية في كشف كامل حقيقة نظام الاستبداد بعد أن احتمى الكثير من رموزه بالأحزاب الكبرى وفي مقدمتها حركة النهضة، وبعد أن أهداهم الراحل الباجي قايد السبسي صحبة راشد الغنوشي قانون المصالحة.

كما ضاعت فرصة أخرى لكشف كل حقيقة العنف الذي ارتبط بحركة النهضة منذ تأسيسها وما بعد الثورة، فقد واصلت هذه الحركة طمس التاريخ ورفضت دائما الإعتراف بالأخطاء والجرائم، وتراوغ بتقديم نفسها كحركة مدنية ديمقراطية ضمن السياقات المحلية والإقليمية. وتبقى فكرة “تحرير المبادرة” التي كشف عنها عبد السلام، مرجعا عُنفيّا لها في كل الأزمان سواء عبر الجهاز الخاص، أو تنظيم أنصار الشريعة، أو روابط حماية الثورة، أو ائتلاف الكرامة العنيف، وهي شهادات تفرض الحاجة الملحة لكشف كل الحقيقة من أجل المصارحة ثم المحاسبة ثم المصالحة الوطنية.

مرحلة التصفية اللاأخلاقية

لكن لماذا تردّت البلاد في هذا المستنقع، ولماذا انحدرت الحياة السياسية إلى هذا المستوى الذي ينذر في كل لحظة بالإنجرار إلى العنف المنظم الذي قد يدخل البلاد في دوّامة من الفوضى يصعب الخروج منها سريعا؟ ممّا لا شك فيه أن المشهد السياسي العام في البلاد وسيادة الأفكار العنيفة والخطاب الشعبوي، ينتعش من الأزمة السياسية في الحكم، والتي بدأت بالصراع بين رؤوس السلطة وخاصة رأسي السلطة التنفيذية، وهو صراع ساهم في ترذيل الحياة السياسية وأدّى إلى ضعف مؤسسات الدولة.

والنتيجة وضع سياسي متعفن دخل مرحلة التصفية اللاأخلاقية، ومؤسسات حكومية شبه معطلة وبرلمان يتخبط في صراعاته السياسية، دون الحديث عن الانهيار الاقتصادي الذي يهدد الدولة بالإفلاس. صورة دراماتيكية للبلاد بعدما أشعلت ثورة الحرية والديموقراطية في منطقة عريقة في الاستبداد، لتحكم على نفسها بالعزلة التامة على المستوى الدولي، في ظل حكومة عاجزة ومشلولة يرتهن رئيسها لضباع السياسة الذين لا تربطهم صلة بهذا الوطن غير ما سيجنونه منه من مغانم.