يبدو أن راشد الغنوشي لم يعتبر من التاريخ البعيد نسبيا والذي قاد زعيما بحجم بورقيبة إلى العزل والموت وحيدا، بسبب نرجسيته وتمسكه بكرسي السلطة وبأن يظل زعيما أوحد مدى الحياة. ذات التاريخ الذي قاد بن علي إلى المنفى بعد ثورة عارمة على نظامه، بسبب دكتاتوريّته وجشع أصهاره. كما لم يعتبر الغنوشي من التاريخ القريب جدا الذي قاد الباجي قايد السبسي إلى تدمير حزب بحجم نداء تونس، إرضاء لابنه المدلل وعائلته. إذ يُعتبر راشد الغنوشي من أكثر الشخصيات التي مكثت في رئاسة أحزابها في العالم. فقد ترأس حركة النهضة ( حركة الاتجاه الإسلامي سابقاً)، منذ تأسيسها عام1972  تحت اسم  الجماعة الإسلامية إلى حد الآن. ولا ينافسه في صفة أكثر الزعماء بقاء في كرسي القيادة إلا قلة قليلة من أمثال عمر بونغو أونديمبا الذي حكم جمهورية الغابون لأكثر من 41 عاما حتى وفاته في 2009، أو كيم إيل سونغ مؤسس كوريا الشمالية الذي تولى رئاسة الحزب الشيوعي الكوري والبلاد على مدى 46 عاما إلى أن قضى نحبه في 1994، وقد حاز على لقب “الزعيم الخالد”.

“الزعيم النادر”!

في رده على رسالة موقعة من قياديين في حركة النهضة لمطالبته بعدم الترشح لرئاسة الحركة، قال راشد الغنوشي أنه زعيم من فئة نادرة وهو من “الزعماء جلودهم خشنة، يتحملون الصدمات، ويستوعبون تقلبات الزمان، ويقاومون عامل التهرئة”. 

وكان قد توجّه مائة قيادي في حركة النهضة، في منتصف شهر سبتمبر المنقضي، من بينهم  وزير الصحة السابق عبد اللطيف المكي و سمير ديلو، ونورالدين العرباوي، وآمال عزوز، وفتحي العيّادي وآخرون برسالة إلى راشد الغنوشي لمطالبته بالتعهد باحترام النظام الداخلي للحركة وعدم الترشح لرئاستها خلال المؤتمر الذي سيجري نهاية العام الحالي. وينصّ الفصل 31 من النظام الداخلي لحركة النهضة على أنه “لا يحق لأي عضو أن يتولى رئاسة الحركة لأكثر من دورتين متتاليتين”. ولكن الغنوشي اتهم هؤلاء ضمنيا بمحاولة الانقلاب عليه. وقال في رده أن طريقة تقديم الرسالة ذكّرته “بالزيارات المعتادة لنفر من قادة الجيوش في الهزيع الأخير من الليل لرؤساء بلادهم يبلغونهم الأمر بالتنحي”. واعتبر أن المطالبين بعدم ترشحه لعهد جديدة “يتغطون بالديمقراطية لفرض وصايتهم على المؤتمر القادم بشروط إقصائية مسبقة لا ديمقراطية”، في سبيل “استبعاد زعيم الحركة”. وصادق مجلس شورى الحركة في شهر جوان الماضي على عقد المؤتمر نهاية السنة الجارية، ولم يخف عدد كبير من قيادات الحركة رفضهم بقاء الغنوشي لدورة إضافية في رئاسة النهضة، باعتباره قد استنفذ حقه القانوني والمتمثل في الرئاسة لدورتين نيابيتين منذ المؤتمر التاسع للحركة خلال سنة 2012، سيما وأنه ظل في قيادة الحركة لمدة تقارب نصف قرن.

ظهور تيّار عائلي

برز منذ المؤتمر العاشر الذي جرى سنة 2016 تياران داخل حركة النهضة. الأول يقوده صهر الغنوشي ووزير الخارجية في حكومة الترويكا رفيق عبد السلام وابنه معاذ الغنوشي، والذي يشجع ما سمي بسياسة التوافق ويدفع ببقاء الغنوشي على رأس الحركة وترشيحه للانتخابات الرئاسية القادمة. والثاني يضمّ مجموعة من القيادات الغاضبة من سياسة الغنوشي في الاستفراد بالقرار لا سيما في القضايا الخلافية على غرار التقارب مع النظام القديم الذي بدأ بالتحالف مع الباجي قايد السبسي وحزبه نداء تونس، والمصالحة الاقتصادية التي سمحت لمتهمين بالفساد من الإفلات من العقاب، وكذلك التحالف مع نبيل القروي الذي توجه إليه تهم بالفساد، فضلا عن ملف إدارة الأموال داخل الحزب والذي يبقى العصب الرئيسي في تحديد الولاءات داخلها.

وتطالب الأصوات المعارضة داخل الحركة بإبعاد راشد الغنوشي لتغوّله سلطته الحزبيّة واحتكاره إدارة الشأن الداخلي للحركة، وضربه لمبدأ ديمقراطية التسيير الداخلي لشؤون الحركة، وعرقلة تقدم جيل جديد من أبناء الحركة إلى الصفوف القيادية في الحزب الذي بدأ يهترئ بسبب الحكم، وبسبب تنامي الغضب الداخلي. وقد برز هذا الغضب في تتالي الاستقالات التي شملت قيادات تاريخية للحركة على غرار حمادي الجبالي وعبد الحميد الجلاصي، وانسحاب قيادات أخرى على غرار عبد الفتاح مورو أحد مؤسسي النهضة.

في المقابل يشدد التيار الموالي للغنوشي، والذي بات يعرف داخل الحركة بالتيار العائلي، على ضرورة أن يترشح الغنوشي للرئاسة مجددا. ويبرر هذا التيار موقفه هذا بأن انسحاب الغنوشي من قيادة الحركة قد يعصف بها بتعلّة أنه الوحيد الضامن لوحدتها والقادر بفضل حنكته على مواجهة الأخطار وخاصة ما أسموه بالدعوات الاستئصالية. ولا تعني معركة الشقوق داخل حركة النهضة بالضرورة معركة مشاريع وتصورات لهيكليّة الحزب ورؤيته السياسية بقدر ما تكشف عن معركة الخلافة والتوريث.

إسلام ديمقراطي بلا تداول

منذ انتخابات 2011 تحاول حركة النهضة، وراشد الغنوشي تحديدا، تسويق الحركة في الأوساط الغربية باعتبارها نموذج للإسلام الديمقراطي، لا سيما بعد التوجه نحو تصنيف جماعة الإخوان المسلمين، التي يعتبر الغنوشي من أبرز قياداتها، كمنظمة إرهابية. وخلال مؤتمرها العاشر الذي عقد في  شهر ماي 2016 أعلنت النهضة أنها فصلت بين الدعوي والسياسي، وأنها تخصصت في العمل السياسي وتركت النشاط الدعوي للمنظمات المدنية.  وقال الغنوشي آنذاك  ” يؤكد هذا المؤتمر التاريخي بوضوح خياراته الاستراتيجية أن حزب حركة النهضة قد تجاوز عمليا كل المبررات التي تجعل البعض يعتبره جزءا مما يسمى الإسلام السياسي، وأن هذه التسمية الشائعة لا تعبر عن حقيقة هويته الراهنة ولا تعكس مضمون المشروع المستقبلي الذي يحمله. وتعتبر النهضة أن عملها مندرج ضمن اجتهاد أصيل لتكوين تيار واسع من “المسلمين الديمقراطيين”. في حين أنه بتمسكه بالبقاء على رأس الحركة بشكل غير ديمقراطي، يؤسس الغنوشي لمفهوم جديد وهو الإسلام الديمقراطي الذي لا يؤمن بالتداول.

ويواجه راشد الغنوشي مخاطر حقيقية تهدد بخسارة موقعه على رأس مجلس النواب، حيث سبق وأن عُرض على التصويت بسحب الثقة، في شهر جويلية الماضي، بعد توفر النصاب القانوني لذلك، الأمر الذي كاد أن يعصف برئاسته للمجلس. وقد حافظ على منصبه بفضل تحالفه مع حزب قلب تونس ورئيسه نبيل القروي. كما توجه هيئة الدفاع عن الزعيمين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، الذين اغتيلا سنة 2013 حين كانت النهضة في الحكم، اتهامات مباشرة لراشد الغنوشي بمسؤوليته عن هذه الاغتيالات.

وحسب آخر استطلاع للرأي واصل راشد الغنوشي، تصدّر قائمة أسوأ السياسيين. واعتبر 86 بالمائة من التونسيين، الذين شاركوا في استطلاع الرأي الذي أجراه معهد امرود خلال شهر سبتمبر الماضي، أن الغنوشي أكثر شخصية سياسية في البلاد لا يثقون فيها ولا يريدون منها أن تلعب دوراً سياسيا في تونس، وأنهم غير مقتنعين بأدائه في رئاسة البرلمان. وهي أعلى نسبة غير رضا بين الرئاسات الثلاثة.