المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

وتُطرح في كل مرة مسألة مشروعية تدخل القاضي الدستوري في مجال السلطة التشريعية على اعتبار أن هذه الأخيرة هي التي تعبر عن إرادة الشعب صاحب السيادة. فكيف يمكن لقاضٍ، غير منتخب مباشرة من الشعب، أن يقوّض إرادة نائبي الشعب المنتخبين أو يلغيها ؟

يجب الإشارة في هذا المستوى إلى أنّ القاضي الدستوري، عند انتصابه للنظر في مسألة مطابقة الأعمال التشريعية للدستور يقتصر دوره على التصريح باحترام المجلس التشريعي لمنطوق أحكام الدستور من عدمه، فلا يتدخل بأي شكل من الأشكال في مجال السلطة التشريعية، إعمالا لمبدأ الفصل بين السلط.

السياق التاريخي

إن البحث في التاريخ الدستوري التونسي يمكننا من استجلاء التهميش المتصاعد لمسألة الرقابة الدستورية القضائية طيلة عقود. فأول دستور للجمهورية التونسية الصادر في غرة جوان 1959 لم يهتمّ بمسألة الرقابة على أعمال السلطة التشريعية، وتم تبرير هذا التهميش بالانتقال المفصليّ الذي تعرفه الدولة الفتيّة، بُعيْد الاستقلال، وضرورة أن لا يتم تعطيل مسار تركيز مؤسسات الدولة وتنفيذ سياساتها. إلاّ أن مسألة رقابة دستورية القوانين بقيت منسيّة حتى سنة 1987، سنة إحداث المجلس الدستوري، في محاولة لقطع الطريق أمام المطالبة بتأسيس نظام للرقابة الدستورية القضائية، وتكريسا لما تقتضيه دولة القانون والمؤسسات.

وكانت المؤاخذات متعددة بخصوص المجلس الدستوري باعتباره شديد الارتباط برئيس الجمهورية من حيث تعيين أعضائه واحتكاره لعرض المسائل على أنظار المجلس الدستوري الذي يدلي برأيه فيها.

ثمّ جاءت ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011 منبئة بضرورة تدارك التمشّي السائد طيلة عقود، خصوصا بعد حل المجلس الدستوري بمقتضى مرسوم 23 مارس 2011 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية. وصار إنشاء المحكمة الدستورية مطلبا مُلحّا يأتي كضمانة دستورية للقطع مع ما شهدته مؤسسات الدولة من انحرافات من السلطة التشريعية بدفع من السلطة التنفيذية المتحكّمة.

عقب انتخابات المجلس الوطني التأسيسي والشروع في وضع دستور جديد للجمهورية، توصّلت مختلف الحساسيات السياسية في المجلس إلى الاتفاق على إدراج جهاز قضائي مستقل يتولى فرض احترام الدستور وتكون قراراته ملزمة لجميع السلطات، فحُسمت المسألة منذ المسودة الأولى لمشروع الدستور سنة 2012 مع الإبقاء على المسائل التنظيمية الجوهرية المتعلقة بعمل المحكمة إلى وقت لاحق.

ثمّ جاء القسم الثاني من الباب الخامس “السلطة القضائية” بدستور 27 جانفي 2014 مؤسسا لركائز دولة القانون التي يسهر فيها جهاز قضائي على رقابة دستورية القوانين. وستكون المحكمة الدستورية “ذات المكانة الأعلى في سلّم المؤسسات مؤتمنة على فرض احترام الدستور وعلى ضمان مقومات النظام الديمقراطي والجمهوري”[2]. إيمانا منه بصعوبة الانتقال مباشرة إلى تكوين المحكمة الدستورية واقتناعا بما يعتري هذه العملية من تعقيدات عملية وقانونية، خيّر المشرع الدستوري فسح فترة انتقالية بسنة واحدة تلي الانتخابات التشريعية من أجل إرساء المحكمة (الفصل 148 – 5 من الدستور) على أن تتولى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين البعض من مهام المحكمة خلال نفس الفترة.

وتحوّل أجل السنة، المضروب للجهات المعنية بإرساء المحكمة الدستورية، إلى ما يقارب ستّ سنوات نتيجة لجملة من العوامل اختلط فيها العملي بالقانوني وطغى عليها السياسي.

أسباب تأخر إرساء المحكمة الدستورية

طيلة سنوات، كان للتجاذبات والصراعات بين مختلف مكوّنات الطبقة السياسية التونسية عميق الأثر على مسار إرساء المحكمة الدستورية، فتواترت الدعوات من قبل المختصين في القانون أساسا بضرورة التسريع في إتمام هذا المسار نظرا لمحدوديّة مجال تدخل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين من جهة، ومن أجل إتمام بناء مؤسسات الدولة وضمان حدّ أدنى من الاستقرار عليها من جهة أخرى.

إنّ المحكمة الدستورية، حسب الفصل 118 من الدستور، هيئة قضائية مستقلة متكونة من 12 عضوا من ذوي الكفاءة، ويكون ثلاثة أرباعهم من المختصين في القانون منذ ما لا يقل عن عشرين سنة. ويُعيّن أعضاء المحكمة بالتساوي من قبل رئيس الجمهورية، مجلس نواب الشعب والمجلس الأعلى للقضاء. وبذلك، كان من الضروري أن تنطلق عملية إرساء المحكمة بإصدار القانون الأساسي المنظم لعملها وللإجراءات أمامها والضمانات التي يتمتع بها أعضاؤها. خلافا لتعيين الأعضاء الأربعة من قبل رئيس الجمهورية، طُرحت عديد التساؤلات بخصوص كيفية تعيين بقية الأعضاء من قبل مجلس نواب الشعب والمجلس الأعلى للقضاء باعتبارها هيئات تمثيلية. ثمّ جاء القانون عدد 50 المؤرخ في 3 ديسمبر 2015 المتعلق بالمحكمة الدستورية لينهي الجدل القائم بتوضيح مختلف مراحل انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية من الهيئات التمثيلية المعنية. وللإشارة، فإنه حتى إصدار القانون جاء خارج الآجال الدستورية التي حددها الفصل 148 من الدستور. فما الذي كان حائلا دون استكمال مسار إرساء المحكمة ؟
كان أول الموانع قانونيا بحتا. حيث نص الفصل 10 من قانون المحكمة الدستورية أنه

يتم تعيين أعضاء المحكمة الدستورية تباعا من طرف مجلس نواب الشعب والمجلس الأعلى للقضاء ورئيس الجمهورية….

وبالتالي، فإن القانون اشترط ترتيبا محددا في تعيين أعضاء المحكمة لا يمكن لأي جهة الانطلاق فيه دون استكمال التعيين من الجهة السابقة.
ونرى أن هذا الترتيب الذي فرضه قانون 3 ديسمبر 2015 جاء مخالفا للدستور الذي لم يفرض ترتيبا محددا في تعيين أعضاء المحكمة، فكان من الممكن أن يستكمل رئيس الجمهورية آنذاك تعيين 4 أعضاء في انتظار استيفاء المجلسين لانتخابات بقية الأعضاء. بالتالي، كان من الأجدر أن يتم الحفاظ على نفس الترتيب الذي جاء به الدستور وعدم اشتراط أي ترتيب للسلط المكلّفة بتعيين أعضاء المحكمة.

إلا أن الإشكال الثاني الذي اعترض مسار تكوين المحكمة هو غياب أحد جهات التعيين أصلا وهو المجلس الأعلى للقضاء. فبعد صدور قانون المحكمة الدستورية في ديسمبر 2015، ظلّ قانون المجلس الأعلى للقضاء قيد الإنجاز خصوصا وأنه بتاريخ 22 ديسمبر 2015 أصدرت الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين قرارا يتعلق بعدم دستورية مشروع القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، فكان من المنطقي أن يتأجل إرساء المحكمة، على الأقل، حتى تركيز المجلس.

وبعد تركيز المجلس الأعلى للقضاء في موفّى سنة 2016، تنتهي العقبات القانونية والواقعية لتنطلق عاصفة العقبات السياسية، فـنرجع إلى نقطة البداية التي حتّمها قانون المحكمة الدستورية وهي انتخاب أربعة أعضاء من قبل مجلس نواب الشعب.
لئن كان الانتخاب الطريقة المثلى لاختيار أعضاء المحكمة الدستورية من قبل المجلس النيابي، فإنها تطرح عديد التساؤلات الجديّة والمتعلقة أساسا بتقديم الترشيحات لعضوية المحكمة ثمّ سير العملية الانتخابية. وأقرّ الفصل 11 من قانون سنة 2015 المتعلق بالمحكمة الدستورية أنه

…لكل كتلة نيابية أو لكل مجموعة نواب غير منتمين للكتل النيابية يساوي عددهم أو يفوق الحد الأدنى اللازم لتشكيل كتلة نيابية، الحق في ترشيح أربعة أسماء على الجلسة العامة، على أن يكون ثلاثة منهم من المختصين في القانون. ينتخب مجلس نواب الشعب الأعضاء الأربعة بالاقتراع السري وبأغلبية الثلثين من أعضائه فإن لم يحرز العدد الكافي من المرشحين الأغلبية المطلوبة بعد ثلاث دورات متتالية يفتح باب الترشيح مجددا لتقديم عدد جديد من المرشحين بحسب ما تبقى من نقص مع مراعاة الاختصاص في القانون من عدمه.

الملاحظة الأولى التي يمكن إبداؤها تتعلق بالرجوع إلى الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب واشتراط أغلبية الثلثين، وهي أغلبية يصعب بلوغها، الأمر الذي أدّى إلى عقد جلسات متتالية لانتخاب 4 أعضاء للمحكمة الدستورية دون التمكن من ذلك بالنظر إلى التركيبة الحزبية الممثلة آنذاك بالمجلس.

وتهم الملاحظة الثانية مسألة تحييد أعضاء المحكمة الذين سيتم انتخابهم عن الأحزاب السياسية. فرغم ما أقره الفصل 8 من قانون المحكمة الدستورية لسنة 2015 من استبعاد للمرشحين من قبل الأحزاب أو من تحملوا مسؤوليات ضمنها، إلا أن الاعتبارات السياسية والحزبية كانت وستكون حاضرة بقوة في اختيار أعضاء المحكمة الدستورية خصوصا وأن الترشيح من الكتل يُحيل، بما لا يدع مجالا للشك، للأحزاب السياسية.

ومهما يكن من أمر، فإن التحييد التام عن الإيديولوجيا والتجاذبات السياسية هو أمر صعب المنال ولكنه على غاية من الخطورة نظرا لأن المحكمة الدستورية ستتولى، بمجرد إرسائها، النظر في مدى احترام الدستور، “وهو نص مشحون بالسياسة وبالتناقضات التي تغذيها اعتبارات واختيارات سياسية”[3].

ونظرا لجملة الاعتبارات السابقة، فشل مجلس نواب الشعب، خلال العهدة النيابية المنقضية، من استكمال انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، فلم تنجح الكتل البرلمانية سوى من انتخاب عضو واحد وهي القاضية ‘سلوى الورسغيني’ في مارس 2018، وذلك رغم عقد أكثر من 6 دورات انتخابية وإعادة فتح باب الترشيح في ثلاث مناسبات. ويُعزى هذا الفشل، منطقيا، إلى الخلافات بين الكتل والأحزاب حول نزاهة المترشحين وحيادهم واستقلاليتهم.

إن فاعلية القضاء الدستوري في دولة ديمقراطية تفترض استبطان فكرة الرقابة الدستورية من قبل الجميع، وخصوصا السلطة التشريعية باعتبارها محرّك التشريع والمعبّرة عن إرادة الشعب. إلاّ أنه بات جليّا أن البرلمان والسياسيين عموما ليسوا على وعي كامل بأهمية وجود المحكمة الدستورية، خصوصا في ظل ديمقراطية فتيّة وفي ظل مسار الانتقال الديمقراطي، وبضرورة تحييدها عن التنازع السياسي المستمر.

كما أن تعاطي الكتل البرلمانية مع المسألة يوحي بأن المحكمة الدستورية مجرّد مجلس من المختصين والتقنيين، في حين أنها ستكون المؤسسة الوحيدة المخول لها أن تعطي للدستور معانيه وتُوضّحها وتفصل في النزاعات بين السلط وتضع حدا للخلافات وحتى الاختلافات الفقهية المتعلقة بمسائل هامة على غرار مدنية الدولة وعبارة “الإسلام دينها” الواردة بالفصل الأول من الدستور، فضلا عن دورها المحوري في حماية الحريات وحقوق الإنسان من أي انتهاك.

المحكمة الدستورية والتحديّات المستقبلية

أمام ما شهده مسار إرساء المحكمة الدستورية من عقبات متتالية خلال الفترة النيابية 2014-2019، عبّرت مختلف الحساسيّات السياسية في البرلمان إثر الانتخابات التشريعية الجديدة للدورة النيابية 2019-2024 عن ضرورة استكمال تركيز المؤسسات والهيئات الدستورية المستقلة ومنها المحكمة الدستورية. إلا أنه برغم هذه الوعود، انتهت الدورة النيابية الأولى دون أن يتمكن مجلس نواب الشعب من استكمال انتخاب الثلاث أعضاء المتبقيين، حتى تتتالى سلسلة التعيينات المفروضة بقانون المحكمة الدستورية.

واعتبارا لجملة المؤاخذات والصعوبات القانونية، اتجه عدد من النواب إلى تقديم مقترح قانون يتعلق بتنقيح القانون الأساسي عدد 50 لسنة 2015 المتعلق بالمحكمة الدستورية في اتجاه حذف عبارة “تباعا” الواردة بالفصل 10 من هذا القانون. بالتالي، فإن مقترح التعديل يهدف إلى إزاحة الترتيب الملزم لجهات تعيين أعضاء المحكمة والمضيّ في استكمال إرسائها دون اشتراط أي ترتيب.

قدّمت الحكومة، من جهتها، مشروع قانون أساسي يتعلق أيضا بتنقيح قانون المحكمة الدستورية. وتتلخص التوجهات الكبرى لمشروع القانون في التخلّي عن الترتيب الإلزامي لتعيين أعضاء المحكمة الوارد بالفصل 10 من قانون 3 ديسمبر 2015 وفي تغيير الأغلبية المستوجبة للانتخاب، بحسب الحالة.

فبالنسبة لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية من قبل مجلس نواب الشعب، يقترح مشروع القانون، أنه في صورة الفشل في انتخاب بقية الأعضاء خلال ثلاث دورات متتالية بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس يتمّ المرور إلى ثلاث دورات متتالية مع تغيير الأغلبية إلى ثلاثة أخماس أعضاء المجلس النيابي. وبالتالي، فإن هذا المشروع يقترح التمديد في دورات انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية قبل إعادة فتح باب الترشيح مع تغيير أغلبية الأصوات المستوجبة انطلاقا من الدورة الرابعة.

أما بالنسبة لانتخاب أعضاء المحكمة من قبل المجلس الأعلى للقضاء، والذي لم يدخل حيز التطبيق حتى الآن بسبب ضرورة احترام ترتيب جهات التعيين، يبدو أن مشروع القانون يتجه نحو قطع الطريق أمام أي إشكاليات قد تُطرح عند انطلاق العملية الانتخابية واستباق ذلك بإدخال تعديلات على الفصل 12 من قانون المحكمة الدستورية في اتجاه تغيير الأغلبية المطلوبة لانتخاب أعضاء المحكمة من قبل الجلسة العامة للمجلس الأعلى للقضاء من الثلثين إلى ثلاثة أخماس الأعضاء، وذلك انطلاقا من الدورة الثانية.
تستوجب قراءة فصول مقترح ومشروع القانون المتعلّقين بتنقيح وإتمام قانون المحكمة الدستورية إبداء ملاحظتين على الأقل.

تتعلّق الأولى بوجاهة حذف عبارة “تباعا” الواردة بالفصل 10 من القانون وذلك باعتبارها كانت حائلا دون تمكن جهات التعيين اللاحقة لمجلس نواب الشعب من اختيار أعضاء المحكمة. وقد يُطرح التساؤل حول مدى أهمية تعيين باقي الأعضاء في حين أن المشكلة الأساسية نابعة عن صعوبة التوافق بالمجلس النيابي. يمكن القول في هذا الصدد بأنه رغم انعدام أي أثر قانوني لعدم احترام الترتيب الوارد بقانون المحكمة الدستورية، فإنّ الضغط الشعبي في تونس قد يلعب دورا أساسيا في الدفع نحو تبنّي خيارات أو توجّهات معيّنة خصوصا بالنسبة للأحزاب السياسية التي تسعى للمحافظة على رصيدها الانتخابي، فتجد نفسها ملزمة بتقديم كل التنازلات من أجل استكمال مسار انتخاب أعضاء المحكمة المتبقين.

وفي كل الحالات، لا شيء يمنع رئيس الجمهورية أو المجلس الأعلى للقضاء من الانطلاق في تعيين أعضاء المحكمة الدستورية حسب ما خوّله لهم الدستور.
أما الملاحظة الثانية فهي تهمّ جدوى تغيير الأغلبية المطلوبة لانتخاب أعضاء المحكمة سواء تعلق الأمر بمجلس نواب الشعب أو بالمجلس الأعلى للقضاء، خصوصا وأنه لم يُقترح تغيير نظام الترشيح والتفريق بين جهة الترشيح وجهة الانتخاب. كما يجب التذكير بأنه سبق لمجلس نواب الشعب أن انتخب عضوا بالمحكمة الدستورية بأغلبية الثلثين، فكيف يمكن القبول بإمكانية تغيير الأغلبية بالنسبة لبقية الأعضاء الثلاثة ؟

وإن كان الأمر صعب المنال بالنظر إلى الوضع السياسي الحالي، تبدو أغلبية ثلثي أعضاء المجلس النيابي الحلّ الأمثل من أجل ضمان توافق أوسع وأشمل من شأنه أن يضمن تحييد أعضاء المحكمة عن أي مهاترات سياسية وإيديولوجية. ويقول الأستاذ محمـد صالح بن عيسى في هذا السياق، أن مشروعية المحكمة الدستورية تتمثل في استقلاليتها، الأمر الذي يتطلب الإجماع والتوافق بين جميع الأطراف على الساحة السياسية باعتبار أن النزاعات الدستورية هي من أكثر القضايا تعقيدا التي ستُطرح على المحكمة وهو ما يتطلب شرط الحياد والنزاهة والاستقلالية.

لكن مسألة المحكمة الدستورية رُحّلت، مرة أخرى، إلى أجل غير معلوم على إثر قرار الجلسة العامة بمجلس نواب الشعب بتاريخ 8 أكتوبر 2020 بإرجاء النظر في مقترح ومشروع القانون المتعلقين بتنقيح وإتمام قانون المحكمة الدستورية، وذلك بعد مطالبة عدد من مكونات البرلمان والمختصين في القانون بضرورة التمحيص في محتوى مشروع القانون المقدّم لإضفاء الدقة والوضوح على أحكامه وإعادة التفكير في تغيير أغلبية الأصوات المستوجبة لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية.
ويبدو أن الوضع السياسي والبرلماني المتشنج ينذر بفشل جديد في استكمال انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، بعد تأخير يقارب 6 سنوات عن الآجال الدستورية، نتيجة لغياب الوعي لدى البرلمانيين بمكانة المحكمة الدستورية في دولة ديمقراطية. كما أن الوعي الشعبي الذي لا يستبطن، إلى حد الآن وبصورة كافية، أهمية إرساء المحكمة الدستورية يجب أن يعيش “ثـورة مؤسساتية” تقوده إلى اختيار نائبي شعب يعبّرون حقيقة عن إرادة الشعب في رسم ملامح كافة مؤسسات الدولة مع ضمان حيادها ونجاعتها.

تبقى أهمّ التحديات بالنسبة للمحكمة الدستورية، على فرض إرسائها خلال الفترة النيابية الجارية، متمثلة في جانبين على الأقل: يتعلق التحدي الأول بضمان حيادها ونزاهة أعضائها. والاستقلالية في المطلق لا تتنافى والتوجّهات السياسية وإنّما تتطلب الحياد التام والتخلص من تبعات الانتماء. ولعلّ “تعيين” أعضاء المحكمة لن يمسّ من استقلالهم لأن “العبرة ليست بالتعيين، وإنّما بعدم التدخل في شؤونهم بعد تعيينهم”[4]. ويمثل الفصل 8 من قانون المحكمة الدستورية أهمّ الضمانات التي يوفرها القانون بهذا الخصوص.

أما التحدّي الثاني، فهو نتيجة حتمية للأوّل. فعلى المحكمة الدستورية أن تلعب الدور الذي كلّفها به الدستور بأن تكون ضامنة لاحترامه ولعلويته، خصوصا إذا ما اعتبرنا حساسية الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في تونس. إضافة إلى ذلك، فإن أهمية الاختصاصات المعهودة للمحكمة، على غرار عزل رئيس الجمهورية من منصبه، تجعل من المسؤولية مضاعفة بالنسبة لأعضائها أساسا كلّما وقع الاحتجاج في مقابلها بالمشروعية الانتخابية.

عسى أن لا يكون إرساء المحكمة الدستورية الرحلة التي لا تنتهي. من المؤكّد أن القاضي الدستوري سيكون له دور كبير في ترسيخ قيم الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان وحرياته وضمان احترام الدستور وعلويّته. إلاّ أن ذلك يستوجب، في كل الأحوال، قبول السلط بالرقابة الدستورية القضائية، فضلا عن استيعاب المجتمع بكل مكوناته لفكرة السلطة المضادة والرقابية التي تتناغم مع ما حققته تونس في هذا المجال منذ أكثر من قرن ونصف.

هوامش

  1. عصام بنحسن، “المحكمة الدستورية”، ورد في قراءات في دستور الجمهورية الثانية، منشورات مدرسة الدكتوراه بكلية الحقوق بصفاقس عدد4، مجمع الأطرش للكتاب المختص، ص، 274.
  2. ناجي البكوش، “إرساء المحكمة الدستورية”، ورد في دراسات قانونية عدد 22، 2015، منشورات مجمع الأطرش للكتاب المختص، ص. 18.
  3. ناجي البكوش، “إرساء المحكمة الدستورية، المصدر السابق، ص. 22.
  4. عصام بنحسن، “المحكمة الدستورية”، المصدر السابق، ص، 286