استقبال رئيس الجمهورية قيس سعيّد ستيفاني وليامز، رئيسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بقصر قرطاج. 02 سبتمبر 2020

كانت الإقالة الأخيرة المرتجلة للسفير ورئيس البعثة التونسية في منظمة الأمم المتحدة قيس قبطني بتاريخ 8 سبتمبر 2020، والتي علم بها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي حسب تصريحه لوكالة الأنباء الفرنسية بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس. توقيت الإقالة لم يكن موفقا إذ لم تمض سوى سبعة أشهر على إقالة سلفه السفير السابق المنصف بعتي في 06 فيفري 2020، الذي أُبعِد لأسباب مهنية بحتة وضعف في الأداء الدبلوماسي ونقص في التنسيق مع وزارة الخارجية في مسائل هامة حسب بلاغ لهذه الأخيرة. في حين أن مصادر دبلوماسية كشفت لـمجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، أن السبب الرئيسي يعود لقيادة مفاوضات دبلوماسية لمشروع قرار فلسطيني يعتبر أن خطة السلام الأمريكية فيها “انتهاك للقانون الدولي”، الأمر الذي انزعجت منه واشنطن.

فوضى الإقالات والتعيينات

كما أن السياق الإقليمي والعربي لا يحتمل الإرباك وعدم الاستقرار في الدبلوماسية التونسية، والذي تشي به سياسة الإقالات المتسرّعة التي تجاوزت الأربع إعفاءات من بينها وزيري خارجية (خميس الجهيناوي في 29/10/2019 ونور الدين الري في 24/07/2020) في حكومتين إحداهما منتهية الصلاحية والأخرى مستقيلة.

هذا دون الحديث عن الحركة الدبلوماسية التي عرفت بدورها تعطّلاً لفترة طويلة حيث بقيت 16 سفارة في دول تربطنا بها علاقات اقتصادية وثقافية كبيرة، بلا سفير، ومن أهمها فرنسا التي بقيت بلا سفير لأكثر من تسعة أشهر قبل أن يتم في 12 سبتمبر الجاري تعيين محمد كريم الجموسي وزير العدل السابق، الذي لم تعرف مسيرته غير المحاكم والإدارة التونسية، سفيرا لتونس في باريس !

كل هذه المسائل من شأنها أن تربك الدبلوماسية التونسية في الخارج وتَسِمَها بالارتجالية والانفعالية خصوصا وأن تونس موجودة اليوم كعضو غير دائم في مجلس الأمن الدولي وتمثّل المجموعة العربية. إلا أن الارتجالية في عزل وتعيين الدبلوماسيين تضعف مصداقية تونس في الخارج وتطرح عدة تساؤلات هامة عما إذا كان هنالك تخطيط حقيقي وجدية في التعامل مع ملفات السياسية الخارجية داخل مؤسسة الرئاسة.

 ثغرات الدبلوماسية التونسية في ليبيا

تجاهل الأطراف الليبية المتصارعة للدعوة الأخيرة التي أطلقها الرئيس قيس سعيد في 02 سبتمبر الجاري لاستضافة حوار وطني ليبي في تونس وذهابهم بدل ذلك لمدينة بوزنيقة المغربية لم يأتي من فراغ بل نتيجة تراكمات من الأخطاء المتتالية والارتجالية وغياب مؤشرات جديّة لمساعدة الليبيين على حل أزمتهم.

إضافة إلى ذلك، عرفت السياسة الخارجية التونسية في العشر سنوات الأخيرة تذبذبا في وتيرة العمل الدبلوماسي والسياسات التي اتبعتها مؤسسة الرئاسة ووزارة الخارجية في تعاملها مع الملف الليبي وباقي الملفات العربية والدولية. كانت ثوريّة مع الرئيس السابق المنصف المرزوقي (استضافة مؤتمر أصدقاء سوريا) وهادئة توفيقية مع الباجي قايد السبسي (استقبال فايز السراج وخليفة حفتر بشكل منفصل)، إلا أن ملامح السياسة الخارجية في ليبيا لم تتوضح بعد مع قيس سعيد ويغلب عليها الارتجال وغياب مبادرة علمية ومدروسة لحل شامل ضمن مقاربة تونسية مغاربية للأزمة. فالسياسة الرسمية التونسية في ليبيا لم تعرف تراجعا في أدائها مثل التراجع الذي تشهده في هذه الفترة في مقابل تشديد الحراسة والإجراءات الأمنية والعسكرية على الحدود الجنوبية الشرقية، وهو ما ضيّق كثيرا على التجارة البينية غير الرسمية بين البلدين.

بداية الارتجالية والسذاجة في التعامل مع الأزمة الليبية كانت عند استقبال وفد ممثل للقبائل الليبية في 23 ديسمبر 2019 تبين فيما بعد أنهم لا يمثلون كل المشائخ الليبية وأقرب لخليفة حفتر. وهذا ناجم عن نقص فادح في المعلومات والتحليل والدراسات حول هذا الملف.

الضربة الثانية التي تلقتها الدبلوماسية التونسية في علاقة بليبيا كانت باستثنائها من مؤتمر برلين قبل أن تتراجع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في آخر لحظة وتوجه بتاريخ 17 جانفي 2020 دعوة لقيس سعيد يومين قبل المؤتمر، قوبلت بالرفض لما تحمله من استخفاف بالموقف التونسي.

الموقف الثالث الذي حشرت فيه تونس نفسها في علاقة بالصراع في ليبيا كان عند زيارة الرئيس قيس سعيد لفرنسا ولقاء الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في 22 جوان الماضي.فقد أكّد حينها سعيد على أن الشرعية في ليبيا “مؤقتة” ويجب أن تحل محلها شرعية جديدة منتخبة. فهم من كلامه وقتها نوع من المغازلة للموقف الفرنسي الداعم لخليفة حفتر وانحياز عن الموقف التونسي الداعم لحكومة السراج خاصة عندما دعا القبائل الليبية لوضع دستور للبلاد على شاكلة الدستور الأفغاني مما تسبب في موجة غضب في صفوف الكثير من الليبيين وقتها.

حتى لا نخسر ليبيا

ليبيا كانت دائما العمق الاقتصادي والأمني والاستراتيجي لتونس من بوابتها الجنوبية الشرقية. لطالما نشطت بين الطرفين التجارة البينية الشرعية وغير الشرعية (بعلم من الدولة وتدخل منها أحيانا)، كان هذا قبل الثورة. بعد الثورة وخصوصا بعد أحداث بن قردان- 07 مارس 2016  تضاعفت الإجراءات الأمنية على الحدود الجنوبية وتقلص هامش التساهل مع التجارة غير الشرعية (الكونترا) إلى أقصاها مما صعّب حياة المواطنين على المناطق الحدودية. حتى الدبلوماسية الشعبية بين العروش والقبائل المتصاهرة والبلديات والمجموعات الموجودة على المناطق المتاخمة للبلدين من الجهتين لم تنفع كثيرا خصوصا مع وجود دبلوماسية دولة متعثرة في ليبيا وغياب الانسجام بين مؤسسات الدولة حول هذا الموضوع (رئاسة البرلمان ورئاسة الدولة) إضافة للارتجالية وصياغة المواقف بناء على مصالح وقتية قصيرة المدى بلا استراتيجية واضحة ودائمة حسب المرجعية التقليدية التي دأبت عليها تونس في ليبيا.

العلاقات بين تونس وليبيا يتداخل فيها الاقتصادي والاجتماعي ولذلك لا يجب إدارة الظهر لهذا البلد الجار وترك المساحات فارغة للاعبين جدد بعيدين جغرافيا عن ليبيا خاصة تركيا التي افتكت من تونس الكثير من الأسواق الغذائية والمقاولات في إطار المنافسة غير النظامية التي لا تعتمد في العديد من الأحيان على اتفاقات تجارية سابقة. وهنا يأتي دور الدبلوماسية النشطة التي تقوم على استراتيجية بعيدة المدى تضع في طياتها التحديات والمعيقات وكيفية تجاوزها لتحقيق الأهداف المرجوة.