المسألة تتعلق بزوايا أخرى لمقاربة تجربة الحكم التكنوقراطي لم يسلط عليها الضوء في الجدل الذي أثير حول التشكيلة الحكومية للمشيشي، تتعلق أساسا بالنجاعة السياسية لحكومة التكنوقراط ومدى قدرتها على إدارة الشأن العام والمحافظة على مسافة واحدة من الفاعلين السياسيين في البلاد، هذا من ناحية. من ناحية أخرى، هل أن الإدارة التونسية، بما عرف عنها من بيروقراطية وفساد، قادرة على تخريج قيادات حاكمة مطروح عليها مهمة إنقاذ البلاد من الإفلاس وتوفير المناخ الملائم للاستثمار والإنتاج وإيجاد حلول عملية لجيوش الشباب العاطل عن العمل؟ ثم لو فرضنا جدلا أن حكومة المشيشي مليئة بالكفاءات والمؤهلات، فهل بإمكانها النجاح في سياق ديمقراطي تتضارب فيه المواقف السياسية، وفضاء عمومي نشيط وخارج عن السيطرة أحيانا؟
عوامل عديدة ساهمت في إثارة الاهتمام بحكومة التكنوقراط، من بينها خمول وتبلد الإرادة السياسية للسلطة والأحزاب وما يرافقه من صعود للكفاءة والإدارة العليا. إن قدرة حكومة التكنوقراط على إدارة الشأن العام والحفاظ على مسافة واحدة من الأحزاب والكتل البرلمانية والمنظمات الوطنية مسألة نسبية جدا في ظل وجود أرضية سياسية رخوة وأحزاب متقلبة المواقف والقرارات.

العلاقة مع الأحزاب والبرلمان: توافق أم صدام؟

كما أن فلسفة حكومة التكنوقراط تقوم على الشرعية العقلية بدل الشرعية السياسية أو الانتخابية، في حين أن الحكم يتطلب حنكة سياسية وتجربة طويلة لا تتوفر عند رئيس الحكومة الجديد وأعضاء حكومته، مما سيخلق فجوة عميقة بين الحكومة من جهة والأحزاب والبرلمان من جهة ثانية قد تعطل العمل الحكومي بشكل جدي إلا إذ تنازل المشيشي للأحزاب والكتل البرلمانية الطامعة في توسيع الحكومة ولقي معهم أرضية تفاهم مصلحيّة على حساب تفاهماته الأولى مع رئيس الجمهورية الذي كلفه بهذا المنصب. الأمر الذي يبدو أن المشيشي يتجه إليه حسب التحركات واللقاءات الأخيرة التي أجراها مع قيادات الأحزاب والكتل الأغلبية في البرلمان. ولئن يضمن هذا التوجه رصيدا توافقيا مطمئنا لحكومته في قادم السنوات إلا أنه سيخلق قطيعة دائمة مع الرئيس قيس سعيد المعروف بمبدئيته وعدم مساومته على مسائل سبق له وأن حسم فيها من قبيل توسيع الحكومة وتشريك حزب قلب تونس المتهم رئيسه بالفساد وتبييض الأموال.

حكومة تكنوقراط أم بيروقراط

كلنا يعلم أن الإدارة التونسية التي اختِير منها الوزراء الجدد تجسّد تركة ثقيلة من البيروقراطية والفساد زادت وتيرتها في العقود الأخيرة وتحولت لمعطل لمشاريع التنمية وطرّاد للاستثمارات الداخلية وحتى الأجنبية. بل إنها تجسّد الدولة العميقة التي لطالما اعتبرت مهددا لثورة الحرية والكرامة ومعطلا شرسا لمسار الانتقال الديمقراطي، وذلك لترابط وتشابك مصالحها مع مصالح اللوبيات ورموز النظام السابق والعائلات المهيمنة على الاقتصاد في تونس. نذكر جيدا كيف استشرس الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي في الدفاع عن قانون المصالحة الاقتصادية بالرغم من الرفض الشعبي الواسع لهذا القانون على الشاكلة التي قدّمه بها دون خضوعه لمسار العدالة الانتقالية.
بالمحصلة، سنجد أجهزة حكم، أقرب للبيروقراطية منها للتكنوقراطية، وغير منتخبة، تلغي النقاش العام وتهمش دور الأحزاب أو تتعامل معها بانتقائية حسب ما توفره لها من دعم سياسي، وتعوّم المحاسبة، ولا تعترف إلا بالنتائج، هذا إن وجدت، وتتحكم بمصير الدولة للحفاظ على مصالح المجموعات النافذة في البلاد كنظام حكم الأمر الواقع.

تجارب تكنوقراطية سابقة

لو حفرنا في الخلفية التاريخية للحكم التكنوقراطي، لن نجد صورة وردية جدا لهذا النوع من الحكومات في التاريخ السياسي. فمنذ إثارة هذا المفهوم بشكل اصطلاحي على يد المهندس الأمريكي وليام هنري سميث Henry Smyth William اثر نهاية الحرب العالمية الأولى في مقاله “الطرق والوسائل لكسب الديمقراطية الصناعية” الذي نشر في مجلة الإدارة الصناعية Journal of Industrial Management لم يشهد العالم تجارب ناجحة بمعنى التواصل في الزمن السياسي على فترات متتالية دون انقطاع مثلما حدث مثلا مع الديمقراطية الليبرالية لحد اليوم، أو الاشتراكية السوفياتية إلى حدود نهاية الثمانينات من القرن الماضي.
حتى حركة التكنوقراطيين التي ابتكرها هاورد سكوت خلال نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات في الولايات المتحدة لم يكتب لها عمر طويل بعد انزياحها عن المشهد السياسي لصالح البرنامج الانتخابي الذي عمل عليه الرئيس الأمريكي فرانكلن روزفالت، بالرغم من أن الواقع الموضوعي (أزمة 1929) كان ملائما لقيام حكومة تكنوقراط تجمع أبرع المهندسين والتقنيين والصناعيين والعلماء. وبالرغم من انكباب هاورد سكوت وجماعته من التكنوقراط على دراسة الواقع الاقتصادي المتأزم وتقديمهم برامج واقتراحات عملية، إلا أن دهاء السياسي روزفلت ووعوده بإيجاد حلول لأزمة الكساد والبطالة جعله يسيطر على الساحة السياسية والانتخابية ويحجّم حضور حركة التكنوقراطيين.

في أوروبا، حققت التجارب التكنوقراطية القليلة التي عرفتها دول هذه القارة نجاحات نسبية، وكان ذلك في فترات الأزمات الاقتصادية والسياسية، مثل ما حدث في إيطاليا مع حكومة ماريو مونتي (2011-2013).

هذا ولم تعرف التجارب التكنوقراطية في العديد من الدول العربية من بينها لبنان والعراق نجاحا عميقا، ولم تكمل أغلب الحكومات التكنوقراطية التي عرفتها هاته البلدان مدتها في الحكم.