وعلى الرغم من أن تأويلاته الدستورية لم تخرق فصول الدستور أو روحه، إلا أنّه استثمر نصوصه بشكل يخدم رؤيته الفكريّة لطبيعة الحكم القائم على النظام الرئاسي. فهل كان اختيار المشيشي أحد تمظهرات هذا التوجه أم أن هنالك أبعاد أخرى لاختياره؟

وكيف سيخدم هذا الاختيار توجهات الرئيس القادمة في ظل الصراع المعلن بين قرطاج وباردو؟ وهل له علاقة بالتهديدات الداخلية والخارجية للشرعية والديمقراطية التي تحدث عنها سعيّد في ثكنات الجيش ومقر وزارة الداخلية؟

الثابت أن اختيار رئيس الدولة للمشيشي لم يكن اعتباطيا ولا ارتجاليا خصوصا بعد فشل اختياره الأول على إلياس الفخفاخ لرئاسة الحكومة إثر شبهات الفساد وتضارب المصالح التي أصبحت تلاحقه منذ شهر جوان الماضي. المسألة تتعلق برؤية تصعيدية لرئيس الدولة في التعامل مع التحديات التي يواجهها والصراعات التي فتحها على أكثر من جبهة والتي يتقاطع فيها الأمني بالسياسي بالتشريعي.

ألوان المواجهة القادمة لحاكم قرطاج متعددة ومتمازجة كتعدد جبهات المعارك التي سيقدم عليها مع أطراف عُرضت عليه بشأنها تقارير يبدو أنها صادرة عن مراكز متعددة، مما يجعل المواجهة الكبرى مربكة ومفتوحة على عدة احتمالات، لكن المتوقع من كل هذا الخضم أن تكون لرئيس الحكومة القادم أدوارا رئيسيّة يلعبها خصوصا على مستوى التنفيذ.

رئيس حكومة بلا حزام سياسي

رئيس الحكومة المكلف هشام المشيشي شغل عدة مناصب داخل مؤسسات الدولة من بينها عضو في اللجنة الوطنية للتحقيق في الفساد ورئيس ديوان وزير ومستشار لرئيس الجمهورية وآخرها وزيرا للداخلية. وعلى الرغم من تعدد المهام التي كُلف بها داخل الإدارة التونسية وفي مؤسسات الدولة السيادية إلا أنه لم يكن منتميا لحزب أو مقربا من طرف سياسي ولم يأت عبر انتخابات تحدد وزنه الشعبي والسياسي. هذه العزلة السياسية والشعبية، وإن كانت تمثل تهديدا وجوديا لمستقبله السياسي في الحكومة القادمة لغياب الحزام السياسي والبرلماني الذي من المفترض أن يدعمه وييسر عمله الحكومي، إلاّ أنها مثلت بالنسبة للرئيس قيس سعيد مجالا خصبا للاستثمار فيها والبناء عليها في المرحلة القادمة.

فالشعبية الواسعة للرئيس سعيّد التي حصدها خلال الانتخابات الرئاسية بقرابة ثلاث ملايين صوت ستستبدل شرعية الأحزاب والانتخابات التي لم يخضها، وستكون رافدا له في مواجهة ضغوطات الكتل النيابية ومساوماتهم في عدة مجالات وأولها المحاصصة الحزبية في الحكومة القادمة وهوية أعضائها المنتظرين. لكن لأي غاية؟ وبأية أثمان؟

جنرالا في حروب سعيّد؟

حروب سعيّد المعلنة باتت أمرا واقعا في المشهد السياسي الحالي. فالرجل استعمل أكثر من مرة المعجم الحربي والعسكري والأمني في تصريحاته الأخيرة من داخل ثكنات الجيش والمقرات الأمنية السياسية ”صواريخ على منصات إطلاقها“ ”تفجير الدولة من الداخل“ ”النصر أو الاستشهاد“ ”التهديد من الخارج“ وتكرار عبارة في خطاب التنصيب ”من يطلق رصاصتين سنواجهه بوابل من الرصاص“، إلخ من المفردات والعبارات التي تكشف عن برنامج المواجهة القادمة التي يتأهب لها رئيس الدولة ضد من أسماهم بـ”المتآمرين“ على أمن البلاد الداخلي وشرعيّة مؤسساته الدستوريّة والتي من بينها أطراف سياسية لها حضور طاغي داخل البرلمان وأخرى تدّعي ”ثورية جديدة“. ومن المفارقات أن هذه الأطراف إذا ما أردنا تفكيك شيفرات سعيد الخطابية تقف على طرفي نقيض من بعضها البعض.

رجل الميدان الذي اختاره سعيد لإدارة هذه المعركة، بحكم صلاحياته التنفيذية والدستورية، هو المكلف برئاسة الحكومة هشام المشيشي. إدارة المعركة في هذا المستوى لا تعني مثلا تغوّل السلطة التنفيذية ممثلة في رئاسة الحكومة على حساب البرلمان أو الاستغلال المفرط للصلاحيات التي يتمتع بها رئيس الحكومة وإنما استثمارها عند فتح ملفات الفساد خصوصا تلك التي تورط فيها أعضاء سابقون من الحكومة أو عند فتح الملفات القضائية التي تم التلاعب فيها وسرقة محاضرها أو تمديد آجلها خصوصا تلك المتعلقة بسوء استغلال السلطة لدى مسؤولين في الدولة أو المتعلقة بقضايا أمنية خطيرة من بينها ملفات الاغتيالات السياسية وغيرها، ومحاسبتهم حسب ما يقتضيه القانون والدستور دون الأخذ بعين الاعتبار مواقعهم الحكومية أو خلفياتهم الحزبيّة والسياسية.

هذا الاختيار لوزير الداخلية المعروف باستقلاليته عن الأطراف السياسية سيساعد قيس سعيّد في المواجهة الكبرى المفترضة التي يستعد لها مع من أسماهم بالمتآمرين على أمن البلاد والذين يسعون لتفجير الدولة من الداخل، خصوصا وأن الرجل قد قرّ قراره بعدم السكوت مستقبلا عمن يتخابرون مع الخارج لضرب البلاد وزعزعة استقرارها، وإفشال التجربة الديمقراطية.

في خدمة النظام الرئاسي

المشيشي إذا سيكون في جانب من عمله خاضعا بالمنطق الولائي لرئيس الدولة حتى يضمن أن تكون شرعية الرئيس في صالحه مما سيضعه في خانة الوزير الأول المنفذ للبرامج في ”حكومة الرئيس“ بدل رئيس الحكومة صاحب الصلاحيات التي لا يتمتع بها الرئيس في حد ذاته.

وهذا يجرنا للحديث عن غايات قيس سعيد الدستورية والمتمثلة في توسيع صلاحيات مؤسسة الرئاسة وتغيير النظام السياسي من برلماني معدل إلى رئاسي معدل، ومن ثمة تغيير القانون الانتخابي حتى تضمن البلاد مساحة ضرورية من الاستقرار الحكومي والحد من تشتت المشهد البرلماني، لتُستبدل الأغلبية البرلمانية النسبية بأغلبية مطلقة في البرلمان والحكومة، ويتحمل عندها الماسك بالحكم مسؤوليته سواء في نجاح أو فشل حكومته وبالتالي تتوضح الجهة التي يمكن محاسبتها في حالة فشلها في إنقاذ البلاد من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها ومدى تنفيذ وعودها الانتخابية.

يبقى أن ننتظر لنرى مدى انسجام رئيس الحكومة الجديد مع توجهات رئيس الجمهورية ورؤيته للمنوال السياسي الذي من المفترض أن يتم من خلاله تسيير شؤون الدولة والحكم، خصوصا وأن سعيّد أثار أكثر من مرة في خطاباته قبل توليه الرئاسة وخلالها مسألة الحكم المحلي والمجالس الجهوية والإقليمية في إطار لا مركزيّة الدولة وتحرير المبادرة السياسية في اتجاه إعطاء الجهات مجالا أوسع للتحرك والحكم وإنجاز المشاريع في مختلف الميادين دون انتظار الضوء الأخضر من السلطة السياسية الممركزة في العاصمة.

هذه المسألة سيكون لرئيس الحكومة الجديد دورا مهم إما في تفعيلها والمساهمة في تحويل السلطة من المستوى الوطني إلى المراتب المحلية، وما يعنيه من تخلّ للسلطة التنفيذية على جانب من سلطاتها الترتيبية، أو التمسك بصلاحياته الدستورية والتنفيذية كرئيس حكومة يمارس مهامه باستقلالية عن رئاسة الدولة مثلما حصل في أغلبية الحكومات السابقة لتولي الفخفاخ لمهامه في رئاسة الحكومة.