خبيب حمدي

خبيب حمدي، هو تلميذ باكالوريا في معهد النور ببن عروس فقد بصره حين كان تلميذا في السابعة أساسي، يقول خبيب لنواة “أظلمت عيني فجأة وأصبح كل شيء مظلما، لكنني تحديت إعاقتي رغم اختفاء كل الصور والألوان إلى الأبد، وتعلمت لغة براي، وواصلت تقدمي في الدراسة. كنت متميّزا جدا في المواد العلمية وتمنيت أن أواصل مشواري الدراسي في اختصاص علمي، لكن حين وضعت أمامي خيارات التوجيه، كان محتما علي أن أختار شعبة الآداب لأنه لن يتم قبولي في شعبة أخرى لأن وزارة التربية تعاملنا باعتبارنا تلاميذ عاجزين عن تحصيل العلم، رغم أنها هي المتسببة في ذلك”.

تخلى خليل عياري، زميله في المعهد ذاته، عن أمنيته في دراسة الهندسة منذ سن مبكرة، واختار شعبة الآداب لأنه يريد اختيار شعبة الصحافة وعلوم الإخبار بعد نجاحه في الباكالوريا، لكنه أحبط هذا العام حين أجبر صحبة بقية زملائه على دراسة مادة الفلسفة دون كتاب، يقول خليل لنواة “لقد كان هذا العام أقسى سنوات حياتي. نتقاسم بعض الأحيان ما توفر من كتب التي جلبت من معهد سوسة، وفي أحيان أخرى نلتجئ إلى زملائنا في القسم ضعيفي البصر ليقرؤوا لنا نص الفلسفة أو العربية خلال الدرس، وهو أمر صعب جدا لأن التركيز سيصبح مضاعفا وهو أمر منهك جدا”.

خليل عياري

يعتبر خليل أن أدنى درجات الاحترام التي يمكن أن تقدمها الدولة للتلاميذ فاقدي البصر هي توفير كتب مدرسية لهم وتوسيع خيارات الشعب حتى يتمكنوا من تحقيق أحلامهم المهنية، ويضيف “هذه الدولة مطالبة باحترامنا ومعاملتنا باعتبارنا مواطنين كاملين. للأسف الشديد يصر المسؤولون على اعتبارنا أشخاص ناقصين، وتذكيرنا بإعاقتنا، ففي امتحان الباكالوريا في مادة العلوم الطبيعية (اختيارية) هذا العام، لم يتم تطويع الامتحان وارتبط أحد التمارين في الامتحان بصورة وهو ما يعني أنه لا يمكن للتلميذ الكفيف أن يحل ذلك التمرين، وقد يتمنى التلاميذ أن تضع لجنة الإصلاح هذا الخطأ في اعتبارها”.

تمييز الدولة

يبلغ عدد المكفوفين الذين اجتازوا امتحان الباكالوريا هذا العام 64 تلميذا يتوزعون على معهدين هما معهد سوسة المختص بتدريس فاقدي البصر الذي يضم ثلاثين تلميذا ومعهد النور ببن عروس بأربعة وثلاثين تلميذا. وفي منتصف شهر فيفري الماضي أوقف تلاميذ معهد بن عروس، الدروس وأضربوا طيلة عشرين يوما، احتجاجا على الظروف غير الملائمة للتعليم هناك، وكان من ضمن مطالبهم الرئيسية توفير كتاب فلسفة بلغة براي لتلاميذ الباكالوريا. وتمكنوا من الحصول على عدد من كتب الفلسفة من معهد سوسة للمكفوفين في بداية شهر مارس.

ينص الفصل 30 من الدستور التونسي على أن الدولة تضمن “الحق في التعليم العمومي المجاني بكامل مراحله، وتسعى إلى توفير الإمكانيات الضرورية لتحقيق جودة التربية والتعليم والتكوين”، لكن لا ينتفع التلاميذ المكفوفين بهذا الحق، حيث لم تتكفل وزارة التربية بطباعة الكتب المدرسية الخاصة بهم منذ عامين فقط، بعد أن تحركت منظمات المجتمع المدني المدافعة عن حقوق فاقدي البصر حتى تتحمل الدولة مسؤوليتها تجاههم، يقول غازي المروعي رئيس جمعية الدفاع عن الطفل الكفيف لـ”نواة” إن بعض الأساتذة تطوعوا لتطويع وتحويل محاور من كتاب الفلسفة إلى لغة براي ويضيف “بقي تلاميذ البكالوريا فاقدي البصر دون كتاب فلسفة بين العامين 2012 و2017، لا يزال مشكل هذا الكتاب المهم بالنسبة لشعبة الآداب يطرح مشكلا، رغم أنه هناك اتفاقات حاصلة منذ 2018 بين وزارة التربية في عهد الوزير السابق حاتم بن سالم وبين جمعيات تدافع عن حقوق فاقدي البصر. فرغم تعاقب وزراء على وزارة التربية بمختلف توجهاتهم السياسية، بين سنتي 2012 و2019، لم يوف أي واحد منهم بتعهداته تجاه تمكين التلاميذ المكفوفين من حقوقهم التي يتمتع بها غيرهم من التلاميذ”.

لا يخفي رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل الكفيف خيبة أمله بسبب ما سماه بالتمييز الذي تتعامل به الدولة مع التلاميذ المكفوفين رغم أن الجميع بشّر بنظام جديد أساسه العدالة والمساواة بين جميع المواطنين. ويقول “من المفارقات أنه في سنة 1997، كان يوجد في المعاهد المختصة في تدريس المكفوفين مخابر مجهزة تمكن التلاميذ في كل مراحل التعليم الثانوي من دراسة المواد العلمية، ولم يكن التلميذ مجبرا على اختيار شعبة الآداب، وشخصيا تمكنت من دراسة شعبة الاقتصاد والتصرف في منتصف الثمانينات رغم أنني أعاني من إعاقة بصرية”.

أزمة الكتب يعمقها تقصير الوزارة

لا يملك تلاميذ الباكالوريا الذين يعانون من إعاقة بصرية الحق في اختيار شعبة باستثناء شعبة الآداب رغم أن عدد كبيرا من التلاميذ المكفوفين يتميزون في مواد علمية مثل الرياضيات أو الفيزياء أو علوم الأحياء. ليست هناك تراتيب خاصة تضمن توفير تجهيزات خاصة مثل المخابر داخل المعاهد الثلاثة، وبالتالي فإن التلاميذ المكفوفين يحرمون من دراسة بعض المواد العلمية بسبب عدم توفير الكتب أو التجهيزات الخاصة لدراسة تلك المواد.

يحتاج التلميذ الكفيف إلى كتاب بلغة براي، ولم يكن تطويع الكتب المدرسية، أي إلغاء الصور والمحتوى الذي يحتاج إلى قراءة بالعين ورقن المحتوى الجديد ثم تحويله رقميا إلى لغة براي، تحت إشراف وزارة التربية بل اتحاد المكفوفين. وخلال سنة 2018، تكفلت وزارة التربية بطبع الكتب المدرسية للتلاميذ فاقدي البصر، وهو دورها الطبيعي بما أن كتب التلاميذ الآخرين تطبع في المركز الوطني البيداغوجي. يقول رياض بن بوكر مدير المركز الوطني البيداغوجي، المركز تمكن من طبع معظم كتب مرحلة التعليم الابتدائي، لكن ما تزال هناك إشكالية في طبع كتب التعليم الأساسي والثانوي، فلم يُطبع كتاب الفلسفة لتلاميذ الباكالوريا، كما أن جميع كتب العلوم لكامل سنوات التعليم الأساسي والثانوي غير متوفرة أيضا. يضيف بن بوكر “غياب كتب العلوم بالنسبة لجميع تلاميذ المرحلة الأساسية والثانوية فاقدي البصر هو ما حرمهم من اختيار شعب علمية. إدارة البرامج في وزارة التربية مسؤولة عن تطويع الكتب، والمركز الوطني البيداغوجي هو آخر حلقة في طبع الكتاب”.

قبل 2010، كان اتحاد المكفوفين هو الجهة الوحيدة التي توفر الكتب المدرسية الملائمة لفاقدي البصر، لكن بعد سقوط نظام بن علي دخل الاتحاد في دوامة من المشاكل وتوقف عن توفير الكتب المدرسية، وحرم التلاميذ الكفيفين من حقهم في الحصول على كتاب، فبين العامين 2012  و2017، أصبح فعليا دون كتب مدرسية، وفي سنة 2018، تمكنت جمعيات مدافعة عن حقوق فاقدي البصر من عقد اتفاقات مع وزارة التربية من ضمنها تمكين التلميذ الكفيف من حقه في كتاب مدرسي تتكفل الدولة بطباعته، وذلك عن طريق تكوين لجنة لكل كتاب مدرسي، تشرف عليها إدارة البرامج في الوزارة، وتتكون من معلم مبصر ومعلم كفيف ومتفقد وذلك من أجل تطويع الكتب، ضمن مناظرة تفتحها الوزارة، ثم ترسل الكتب إلى المركز البيداغوجي. لكن حين فتحت الوزارة مناظرة، واجهت مشاكل في اختيار المعلمين بعد انسحاب بعضهم من مهمة التطويع، لكنها لم تحل المشكل إلى حد الآن وهو ما تسبب في حرمان التلاميذ فاقدي البصر في شعبة الآداب من حقهم في الحصول على كتاب فلسفة.

تحيل رحلة البحث الطويلة عن إجابة دقيقة من مسؤول في وزارة التربية إلى نوع من اللامبالاة في تعامل الوزارة المشرفة مع ملف مشاكل التلاميذ المكفوفين، وقد حاولت “نواة” الاتصال أكثر من مرة بالمسؤول المباشر عن إدارة البرامج في الوزارة، لكنها لم تتحصل على الإجابة الدقيقة، رغم أن إدارة الإعلام والاتصال بالوزارة قد أحالتها إلى مسؤولين عن هذا الملف، وعند الحديث مع نادية العقربي مديرة إدارة بيداغوجيا ومواصفات المرحلة الإعدادية والتعليم الثانوي في الوزارة، قالت إن  “إدارة البرامج ليست مفعّلة، وأنا حديثة العهد بمنصبي في الوزارة، حيث التحقت به في سبتمبر الماضي، ولا أملك المعلومات الكافية بخصوص هذا الملف”. وأضافت أن اللجنة المشرفة على تطويع كتاب الفلسفة توقفت عن العمل بعد انسحاب أحد المكلفين الثلاث عليها، وأكدت أن الوزارة بدأت بوضع كراس شروط لإطلاق طلب عروض جديد من أجل تطويع كتاب الفلسفة وكتب العلوم، ولم تنف العقربي مسؤولية الوزارة في تعطل طبع الكتب الخاصة بالمكفوفين، وقالت “لا يمكننا نفي عدة نقائص في التعامل مع هذا الملف والتي أثرت في التلاميذ المكفوفين”، مؤكدة أن الإدارة المشرفة على وضع البرامج داخل الوزارة سوف تعمل على أن تكون كل الكتب جاهزة في السنة الدراسية الجديدة.