وعلى الرّغم من أن رئيس الدولة قيس سعيد قد بادر بمراسلة الائتلافات والكتل البرلمانية مثلما يقتضيه الفصل 89 من الدستور التونسي، من أجل التشاور وتكليف رئيس حكومة جديد في غضون الشهر، إلاّ أن حل الأزمة السياسية والخروج منها بأخفّ الأضرار لا يبدو بالأمر الهيّن. وكل السيناريوهات بالنسبة للمرحلة القادمة تبدو ممكنة، وفي مقدّمتها حلّ البرلمان والذهاب لانتخابات تشريعية سابقة لأوانها.

تمرير أي حكومة، لتفادي حل البرلمان

لا يبدو أن التجاذبات السياسية الحادّة بين الأطراف السياسية المختلفة، والمعارك بين مختلف الأطياف التي بلغت أوجها، وانتهت بعرائض لسحب الثقة والتجييش لدى الأنصار والتحريض على الخصوم يمكن أن تقود في المدى المنظور إلى اتفاق حول الحكم. فمكوّنات الائتلاف السابق في حكومة الفخفاخ ( حركة الشعب والتيار الديمقراطي وحركة تحيا تونس وكتلة الإصلاح)، أصبح من غير الممكن أن تلتقي ثانية حول أي مشروع حكم مع حليفها السابق حركة النهضة بعد أن بلغ الصراع أقصاه معها. وهو ما يستبعد نهائيا ما سمي بحكومة وحدة وطنية أو ذات الحزام الواسع أو حتى حكومة تكنوقراط. حيث أن حركة النهضة لم تكتف فقط بقطع شعرة معاوية مع حلفائها، بل صنّفتهم كأعداء سياسيين.

ستعمل كل من حركة النهضة مدعومة بحليفها الرئيسي قلب تونس بكل جهد لتجنّب كابوس الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها، فأغلبية نتائج سبر الآراء تشير إلى أن حركة النهضة لن تكون القوة الأولى في البرلمان القادم إذا حدثت انتخابات تشريعية الآن، وأن قلب تونس قد يندثر نهائيا من المشهد النيابي على غرار كتل وأحزاب مثل تحيا تونس والمستقبل والإصلاح. في المقابل، ستكون عبير موسي وحزبها العدو اللدود لحركة النهضة أكبر المستفيدين. هذا مع صعود مرتقب وقوي لحزب يدعمه رئيس الجمهورية، في حال قرر ذلك، في حين تشير الأرقام إلى محافظة كل من التيار الديمقراطي وحركة الشعب على رصيدهما الحالي.

كل هذه الحقائق لا تغيب عن حركة النهضة، أثناء تشكيل الحكومة القادمة التي ستعوض حكومة الفخفاخ. لذلك سيسعى كل من راشد الغنوشي ونبيل القروي الى إيجاد التبريرات لعدم اعتراض حكومة الرئيس الثانية، وربما الدعوة للتصويت لها ومنحها الثقة تحت أكثر من مسوّغ مثل العمل على خروج البلاد من أزمتها، وذلك لتفادي حل البرلمان والذهاب لانتخابات تشريعية مبكرة. وعلى أمل العودة للتخطيط لإسقاط حكومة الرئيس الثانية بعد أشهر قليلة من تشكيلها.

هل الحل في انتخابات سابقة لأوانها؟

رئيس الجمهورية يعي جيّدا أن أزمة البلاد السياسية لن تنته بمجرد التصويت على حكومة جديدة تعوض حكومة الفخفاخ، وأن المشهد السياسي الحالي والذي يتميز بالتشتت على مستوى التمثيل داخل مجلس نواب الشعب، لا يمكن إلا أن ينتج نفس المشاكل التي أوصلت البلاد إلى الأزمة الحاليّة، وأن المطلوب هو تغيير المشهد برمّته وذلك بالرجوع الى صاحب الشرعية الأصلية وهو الشعب، أي إعادة الانتخابات.

ولكن المشكلة أن النظام الانتخابي الحالي والذي اتُّهِم دائما بقصوره وعدم قدرته على ضمان الاستقرار السياسي، قد يقود إلى نفس النتائج ويأتي بأحزاب ذات تمثيليات برلمانية محدودة ومشتتة وعاجزة على توفير الأغلبية القادرة على تشكيل الحكومة وبالتالي تواصل الأزمة.

وتقدمت حركة النهضة في شهر جانفي الماضي بمقترح لتنقيح القانون الانتخابي وذلك بإضافة عتبة خمسة بالمائة في الانتخابات التشريعية بهدف إعطاء الفرصة للأحزاب للحصول على عدد كاف من المقاعد داخل البرلمان يمكنها من تمرير القوانين وتشكيل الحكومات دون تحالفات وتوافقات للضرورة. لكن هذا المشروع تعرض لانتقادات شديدة باعتباره يكرس هيمنة الحزب الواحد ويقضي على التعددية، لا سيما في ظل غياب قواعد صارمة للشفافية وسلامة العملية الانتخابية.

تشكيل الحكومة القادمة ليست الأولوية المطلقة بالنسبة لحركة النهضة، وموقفها من الحكومة القادمة سيكون أيضا في علاقة برئاسة مجلس نواب الشعب. صحيح أن المبادرين بعريضة سحب الثقة من راشد الغنوشي لم يتمكنوا إلى حد الآن من جمع العدد الكافي من النواب، 109 نائبا لاستكمال سحب الثقة. ولكن الخطر مازال مسلطا على الغنوشي وحركته، والتحالف مع نبيل القروي غير متماسك بما فيه الكفاية وهو مرتبط الى حد بعيد بالمسار القضائي لنبيل القروي الذي قد يواجه حكما بالسجن بسبب تهم الفساد التي يواجهها، والتي قد تجعل كتلة قلب تونس أو ما تبقى منها ينفرط في أي لحظة.

عين النهضة على رئاسة البرلمان

ستسعى حركة النهضة، التي تواجه ارتفاعا لعدد خصومها داخل الطبقة السياسية وداخل البرلمان إلى المحافظة على رئاسة زعيمها راشد الغنوشي لمجلس النواب بأي ثمن. فهي تدرك أن عريضة سحب الثقة من الغنوشي لن تكون فقط ضربة معنوية، وإنما ستعود ارتداداتها الى داخل الحركة التي تعيش صراعا محموما على خلافة الغنوشي وعلى ترتيب التوازنات داخلها. وهي ستعمل جاهدة للمحافظة على رئاسة المجلس وتفادي حدوث سحب الثقة في مقابل تمرير حكومة الرئيس الثانية، وفي نفس الوقت منع حل البرلمان والذهاب إلى انتخابات مبكرة مجهولة العواقب والنتائج. وربح أكثر ما أمكن من الوقت لترتيب بيتها الداخلي والتقليل قدر الإمكان من الخصوم للتفرغ لعدوها الرئيسي ومنافسها الحقيقي الرئيس قيس سعيد.

في الأثناء تتفاقم الأزمة الاقتصادية يوما بعد يوم، وتتفاقم معها الأزمة الاجتماعية التي ولّدت خلال الفترة الماضية احتقانا اجتماعيا، تُرجِم الى احتجاجات في أكثر من منطقة من البلاد. ومع تراجع المقدرة الشرائية للمواطنين وتدهور الخدمات العامة، وارتفاع نسب البطالة في أوساط الشباب، تدهورت صورة الأحزاب السياسية لدى التونسيين وخاصة في صفوف الشباب. وينتظر أن تمثل المحطات الانتخابية القادمة وخاصة الانتخابات التشريعية إذا جرت في الفترة القادمة فرصة للانتقام من الأحزاب التي يحمّلها الكثير من التونسيين مسؤولية الأزمة والصراعات السياسية.