خلق الأعداء قاسم مشترك

خلال سنة 2008 ومع بداية توسّع الاحتجاجات في منطقة الحوض المنجمي، أُصيب نظام بن علي بارتباك غير مسبوق تحول إلى نوع من الهستيريا والاعتداءات العنيفة والعشوائية على المعارضين والناشطين والمواطنين على حد سواء. وخلال أحد اللقاءات التي نظمتها جريدة الطريق الجديد حول التضييقات التي تتعرض لها صحف المعارضة من قبل النظام، علّق الشاعر الكبير الصغيّر أولاد أحمد آنذاك “أن نظام بن علي لديه قدرة عظيمة على صناعة الأعداء بشكل يومي ومجاني أحيانا، وسينتهي به المطاف يحارب شعبا بأكمله”. وفعلا انتهى المطاف بنظام بن علي إلى الزوال، وبرئيسه بالموت منفيّا. وفي أوّل انتخابات ديمقراطية سنة 2011 صوّت التونسيون لحزب النهضة وكأنّهم أرادوا مزيدا من التشفّي في بن علي ونظامه، فاختاروا عبر صناديق الاقتراع الفصيل السياسي الذي كان يثير أكثر مشاعر الكراهية والاشمئزاز لدى بن علي، وهي حركة النهضة وحلفائها.

يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، فمنذ 2011 الى الآن استطاعت حركة النهضة أن تحوز على كَمٍّ هائل من الكراهية والاشمئزاز لدى طيف واسع من التونسيين. ومثل بن علي ونظامه تبيّن أن لدى النهضة أيضا قدرة عظيمة على صناعة الأعداء، وأحيانا بشكل مجاني. ولا يتعلّق الامر بأخطاء الحكم مثل الاعتداءات واستعمال الميليشيات في أحداث 9 أفريل 2012، ولا حتى بجريمة العقاب الجماعي واستعمال “الرش” في سليانة لقمع مدينة بأكملها، وإنما بثقافة الكراهية التي زرعتها وتزرعها بشكل يومي عبر ميليشيات الفضاءات الافتراضية ومواقع التواصل الاجتماعي. لم تقتصر اعتداءات حركة النهضة وهجماتها على الخصوم فقط، حلفائها السابقين وحتى أبنائها الذين أبدوا نوعا من الاستقلالية أو النقد، كانوا عرضة لهجماتها وحملاتها التشويهية. النتيجة هي مزيد من الكراهية والاشمئزاز السياسي تجاه حركة النهضة والإسلام السياسي بشكل عام، وهو ما يبرر شعبية أي طرف يرفع لواء التصدي للإسلام السياسي.

استقطاب ثنائي

التجمّع الأخير أمام المسرح البلدي نهاية الأسبوع الماضي لعبير موسي وأنصارها يجب أن لا يمر مرور الكرام، فما الذي يمكن أن تقدّمه عبير موسي للتونسيين الذين يعيشون الفقر والخصاصة ويمرّ اقتصادهم بأسوأ فتراته منذ الاستقلال الى الآن؟ ماذا يمكن أن تقدمه سليلة نظام حكم بقبضة من حديد لعقود من الزمن؟ نظام حكم قام على الولاء العائلة على حساب الولاء للوطن، وانتهى بانتفاضة الجياع والمحرومين في كامل أرجاء البلاد. ومع ذلك تجد موسي وحزبها كثير من التعاطف والدعم ليس من منتسبي التجمع المنحل ولكن من كثير من المثقفين والنخب اليائسين والمحبطين من أي تغيير، وكثير من الذين توقفت حياتهم أمام خيارين لا ثالث لهما: النهضة وحلفائها من تنظيمات الإسلام السياسي، او حركة الدستوري الحر سليلة التجمع المنحل.

يبدو أن عبير موسي وحزبها لم يقدّما أي وعود للتونسيين عدا كراهية حركة النهضة، والعمل على محوها من الوجود. وهي تقترح استقطابا موازيا لحركة النهضة، استقطاب لمواجهة الحقد والكراهية والعنف الذي تمارسه تنظيمات الإسلام السياسي، بحقد بديل يهدف الى إزالة الإسلام السياسي من الوجود.

للتاريخ لم يكن لحركة النهضة أي دور في الثورة مقارنة بأحزاب وتنظيمات سياسية أخرى مثل الحزب الديمقراطي التقدمي والتنظيمات اليسارية الراديكالية التي كانت تنشط داخل النقابات، ولا حتى مقارنة بحزب المسار أو التكتل. ولكن حركة النهضة والإسلاميون عموما هم أكثر من استثمر في كراهية التونسيين لنظام بن علي الذي تفنن لعقود في قمعهم وإسكات أصواتهم، بل إن حركة النهضة ابدعت في استثمار هذه الكراهية وفي تصوير الإسلاميين باعتبارهم هم فقط ضحايا الظلم من خلال خطاب المظلومية.

الاستثمار في الكراهية

عبير موسي تستخدم نفس الأسلوب الذي استخدمته حركة النهضة في السابق وهو الاستثمار في الكراهية. وهي تسعى الى التعبئة على أساس الحقد الذي تولد لدى طيف واسع من التونسيين تجاه النهضة. كما تسعى كذلك لاستغلال فشل حركة النهضة في الحكم ومسؤوليتها في الأزمة الاجتماعية والاقتصادية وفي التطبيع مع الفساد وتوسيع رقعته والاستثمار في الفشل السياسي لحركة النهضة مثل عرقلة استكمال مسار إرساء المحكمة الدستورية والمجالس الجهوية المختصة في التنمية الجهوية، وعرقلة تفعيل الدستور وترذيل الحياة السياسية والاغتيالات والجهاز السري والتسفير. ولكن قبل كل ذلك الاستثمار في الإحساس بالقهر والضيم لدى طيف واسع من المثقفين والنخب والكفاءات الذين تضرروا من كراهية النهضة وحقدها ومن القصف العشوائي لميليشياتها الافتراضية.

يذهب كثير من السياسيين والمحللين إلى أن تونس تسير نحو استقطاب ثنائي بين الإسلاميين من جهة ممثلين في حركة النهضة وبين الدساترة ممثلين في عبير موسي وحزبها. لكن هل هناك فعلا فوارق جوهرية بين الطرفين في علاقة بالحقوق والحريات والديمقراطية؟ هل يمثل القطب الأول الثورة والديمقراطية ومكافحة الفساد في مقابل قطب الاستبداد وانتهاك الحريات الفردية والعامة والفساد؟ وهل حقا يرفع القطب الثاني لواء المدنية والحداثة والولاء للوطن في مواجهة قطب الولاء للجماعة والتفريط في السيادة الوطنية وقطب التمكين للسيطرة على الدولة؟

إذا تمعنا جيدا في برامج الطرفين السياسية والاقتصادية والاجتماعية فلن نجد فوارق ذات أهميّة بينهما، فالنموذج الاقتصادي والاجتماعي الذي تقترحه حركة النهضة والذي مارسته ودافعت عنه خلال العشرية التي قادت فيها الحكم أو شاركت فيه لا يختلف في شيء عن النموذج الذي كان سائدا لعقود قبل الثورة، وذلك فيما يتعلق بدور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، وموقع المبادرة الخاصة في العملية الاقتصادية وكذلك العلاقة مع الدوائر المالية العالمية على غرار صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

ولم يجد الإسلاميون والدساترة أو ممثلي النظام القديم بمختلف تسمياتهم أي حرج أو مشكل في التحالف أو الالتقاء حول السلطة (تجربة الباجي قايد السبسي ويوسف الشاهد) أو تحت قبّة البرلمان من خلال التحالف الحالي مع نبيل القروي وحزبه قلب تونس.

وتتفق كل من عبير موسي وحزبها من جهة وحركة النهضة وقياداتها من جهة أخرى حول الكثير من القضايا الخلافية المطروحة الآن على غرار الموقف من تقرير الحريات وخاصة مسألة رفضهم المساواة في الإرث وقضايا الحريات الفردية بشكل عام.