صورة لمالك خميري، سبتمبر 2019

في أجواء مشحونة بالتوتّر والاتهامات المتبادلة عرض إلياس الفخفاخ يوم الخميس الماضي حصيلة عمل حكومته منذ توليه لمهامه في 27 فيفري الماضي، وكذلك برنامج عملها خلال الفترة القادمة، وذلك في جلسة حوار مع البرلمان بمناسبة مرور مائة يوم على انطلاق عمل الحكومة، لكن جلسة الحوار تحوّلت الى جلسة مساءلة حقيقية للفخفاخ. وقد سبق هذه الجلسة عملية شحن في مواقع التواصل الاجتماعي وفي فضاء وسائل الإعلام بسبب ما اعتبر شبهات فساد وتضارب مصالح تحوم حول رئيس الحكومة نفسه. وانطلقت قصة تضارب المصالح من سؤال طرح على الفخفاخ خلال حوار تلفزي حول حقيقة امتلاكه لأسهم في شركات خاصة، تتعامل مع الدولة، الأمر الذي أكّده رئيس الحكومة خلال هذا الحوار. وقد كان ذلك منطلقا لجدل وكشف وثائق تؤكّد فعلا أن إلياس الفخفاخ يمتلك أسهما في شركة ناشطة في المجال البيئي، وأن هذه الشركة سبق لها وأن أبرمت عقودا مع الدولة التونسية.

أزمة سياسيّة في وضع اقتصادي كارثي

وفي خطابه أمام البرلمان أكّد الفخفاخ أنه انطلق في إجراءات التخلي عن أسهمه في مجموعة الشركات موضوع الاتهام. وخلص الفخفاخ إلى أنه سيقدم استقالته إذا ثبتت مخالفته للقانون في علاقة بالجدل الدائر بشأن إمكانية تضارب المصالح بعد الكشف عن امتلاكه لأسهم في شركات متعاقدة مع الدولة، ولكنه اعتبر أنه لا ينبغي الخلط بين تضارب المصالح والفساد على حدّ تعبيره.

وكان الفخفاخ قد قدم خلال جلسة الحوار مع البرلمان صورة قاتمة للوضع الاقتصادي في البلاد، لا سيما مع مخلّفات جائحة كورونا، متوخّيا أسلوبا صادما حيث تحدّث على استعجالية وضرورة إنقاذ الدولة في ظل مؤسسات عمومية مفلسة، وتراجع مؤشرات التنمية بشكل خطير، مع تزايد النفقات العمومية وارتفاع نسب البطالة والتضخم والتداين. وخلص رئيس الحكومة الى تشخيص مفاده انسداد الآفاق في ظل منوال التنمية الحالي والسياسات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة.

كان من المنتظر أن تنصب أغلب المداخلات والنقاشات،  بعد عرض رئيس الحكومة للمشهد السوداوي لواقع البلاد الاقتصادي والآثار الاجتماعية التي ستنجر عن ذلك، على ما قدّمه من معطيات ومؤشرات وذلك بتفنيدها ودحضها وإعطاء أرقام مغايرة أو تأكيدها والبحث عن الآليات والحلول لمواجهتها. لكن ما حدث هو أن أغلب المداخلات التي امتدّت لحوالي عشرين ساعة كانت بمثابة تصفية الحسابات بين مختلف المجموعات السياسية، وجدل حول قضية تضارب المصالح التي تعلقت برئيس الحكومة.

ولكن ألا تعتبر المحاسبة علامة صحيّة في أي ديمقراطية؟ مما لا شك فيه أن مساءلة رئيس الحكومة حول شبهة تضارب المصالح سواء داخل البرلمان من خلال جلسة الحوار الرسمية بمناسبة مرور مائة يوم على انطلاق حكومته، أو من خلال المساءلة المواطنية في وسائل الإعلام وفي المواقع الافتراضية هي أكثر من ضرورية لإرساء ثقافة الشفافية والرقابة المجتمعية على السلطة التنفيذية، وهي أيضا ضرورية من أجل تحسين وتجويد الحياة السياسية في البلاد، وهي أيضا بمثابة الإنذار للطبقة السياسية بأنه لا مجال للعبث بالقانون والإفلات من العقاب. ولكن هل هذا فعلا ما ترغب به وتسعى إليه الأطراف السياسية التي تتزعم مكافحة “الفساد الحكومي”؟

تعويم الفساد تحت غطاء مكافحته

خلال الجلسة البرلمانية دعا حزب قلب تونس مع كتل برلمانية أخرى لتقديم لائحة لوم من أجل سحب الثقة من الحكومة بسبب ما اعتبره تورط رئيسها في شبهات تضارب المصالح. وفي ندوة صحفية عقدت في نفس اليوم بين كل من قلب تونس وائتلاف الكرامة، أعلن عياض اللومي عن تكوين لجنة برلمانية حول هذه الشبهات. وقد أكّد رئيس الحزب نبيل القروي، لاحقا، أنه سيعمل على سحب الثقة من الفخفاخ، وهو موقف شاركه فيه ائتلاف الكرامة، بينما اكتفت النهضة بالتلميح واكتفت على لسان نائبها فتحي العيادي أن لا نيّة للنهضة سحب الثقة من الحكومة في الوقت الراهن.

في المقابل اختفى النقاش نهائيا حول ملفات الفساد الكبرى التي شغلت الرأي العام خلال الأسابيع الأخيرة وأساسا المتعلقة برجل الأعمال مروان المبروك وكذلك ماعرف بقضية البنك التونسي الفرنسي والتي اعتبرت من أكبر قضايا الفساد في تونس. وانحصر الجدل بين قطبين الأول في المعارضة ويقوده قلب تونس الذي سجن رئيسه بتهم تتعلق بالفساد ومازالت تلاحقه، وبين قطب في الحكومة لتبرير أن تضارب المصالح حتى وإن تأكّدت لا تعتبر فسادا.

الواضح أن قضية تضارب المصالح التي لاحقت رئيس الحكومة في الفترة الأخيرة، وبغض النظر عن مدى جدّيتها لم تخرج عن حرب الملفات بين الأطياف السياسية داخل الحكم وخارجه. فمن جهة تسعى حركة النهضة إلى المسك جيّدا بخيوط اللعبة السياسية وفرض شروطها، من أجل تحقيق ما أسمته بتوسيع الحزام الحكومي وإدخال حليفها نبيل القروي وحزبه الى القصبة وقلب التوازنات داخلها عبر اضعاف الياس الفخفاخ وحليفيه التيار الديمقراطي وحركة الشعب، والاستفراد بالقرار الحكومي الذي يمكنها من عزل رئيس الجمهورية. ومن جهة أخرى يسعى قلب تونس ورئيسه الى تمييع قضية محاربة الفساد وإفقادها بريقها وأهميتها وتكريس شعار كلّنا فاسدون، وهو تمشّ ذكي لقبر ملفّات القروي على الأقل في المدى المنظور.

وعلى الرغم من أن الفخفاخ بدا واثقا من عدم قدرة خصومه على سحب الثقة من حكومته وعجزهم في الوقت الراهن على جمع العدد الكافي من النواب ( 109 نائبا) للقيام بذلك، لكنه يدرك جيدا أنه بصدد خسارة أهم أوراق المعركة وهي محاربة الفساد. ويكون بذلك قد وضع حليفيه حركة الشعب والتيار الديمقراطي في موقف ضعف، خاصة حزب التيار الذي بنى كل حملاته السياسية والانتخابية على مكافحة الفساد وتضارب المصالح وحماية المال العام.