الاحتجاجات، التي نظمها وقادها الحزب الدستوري الحر (من افرازات حزب التجمع المنحل) الذي تترأسه النائبة البرلمانية المثيرة للجدل عبير موسي، والبعض ممن يدور في فلكهم، ممّن لم تعرف لهم هويّة سياسية واضحة، لم تتواصل في الحيز الزمني الراهن وفرضت عليها قيود ميدانية إثر قرار المجلس البلدي بمدينة باردو اغلاق الساحة المحاذية للبرلمان في وجه المحتجين بتعلة أنها إجراءات اتخذت للسلامة الصحية خوفا من انتشار عدوى فيروس كورونا. القيود التي وضعت على حركة المحتجين لم تكن السبب الوحيد أو الرئيسي في “تعليق” أو توقف الاحتجاجات، وعدم ارتقائها لمرحلة الاعتصام الدائم، فعدد المتظاهرين في ساحة باردو الذي لم يتجاوز العشرات في أفضل الحالات ساهم موضوعيا في تراجع هذا التحرك وكشف محدودية أثره الاجتماعي والسياسي، حسب متابعين للشأن العام في تونس.

هذا التحرك تحول بفضل الاهتمام الإعلامي الاستثنائي الذي حظي به داخليا وخصوصا عربيا إلى حدث سياسي يثير الجدل حوله أو هكذا أريد له أن يكون. بمعنى آخر تم إلباسه جبّة أوسع بكثير من قياسه لغايات لم تعلن عنها لحد الآن الجهات التي تقف وراءه. ولكن الواضح ان هنالك محاور إقليمية وعربية لا تتفق مع حركة النهضة، أو “اخوان تونس” كما يسمونها اعلاميا، ولا ترى أي مصلحة في وجودها داخل السلطة سواء في تونس أو في أي بلد عربي آخر وتعتبر أن حربها معهم هي حرب وجود وليست حرب مصالح اواستراتيجيا سياسية للوصول بها في النهاية لاتفاق وسلام آمن على اعتبار التهديد الذي يشكله “الإخوان” لهذه الدول.

خلفيّة الاحتجاجات

تهنئة رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان راشد الغنوشي لرئيس حكومة الوفاق الليبية فائز السراج بمناسبة استعادة قاعدة “الوطيّة” الجويّة الاستراتيجية، جنوب غرب العاصمة الليبية طرابلس، كان بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس أو لنقل الفتيل الذي أشعل تلك الاحتجاجات المحدودة في الزمان والمكان. هذه التهنئة لاقت معارضة شديدة داخل البرلمان وانتقادات حادة على وسائل التواصل الاجتماعي، على اعتبار أن راشد الغنوشي أعطى انطباعا بأن موقفه يتماهى مع موقف البرلمان في ملف الصراع الليبي، وهو ما لم يكن واقع الحال بسبب الانقسامات الشديدة داخل مجلس نواب الشعب حول الملف الليبي.

المعارضة كانت أساسا من كتلة الحزب الدستوري الحر الذي تترأسه عبير موسي ومن الكتلة الديمقراطية وحركة الشعب الموجودة أساسا في الحكومة جنبا إلى جنب مع حركة النهضة. غير أن الهجوم على رئيس البرلمان لم يكن لهذا السبب فقط، فقد سبق أن أثارت زيارة الغنوشي لتركيا ولقائه رئيسها رجب طيب أردوغان ليلة واحدة إثر سقوط حكومة النهضة عند التصويت عليها من أجل منح الثقة موجة حادة من الانتقادات حيث اعتبرها معارضوه بأنها تمس بالسيادة الوطنية وتتجاوز صلاحياته كرئيس للبرلمان على اعتبار أن الدبلوماسية الخارجية من صلاحيات رئيس الجمهورية.

لم تتوقف الانتقادات والاحتجاجات على مواقف الغنوشي من المسائل الخارجية فقط، فقد كانت أغلب الانتقادات موجهة لأدائه كرئيس للبرلمان حيث يرى منتقدوه انه حوّل مكتب رئاسة البرلمان إلى ما يشبه المجلس الرئاسي المضيق يستقبل فيه السفراء والوزراء والمسؤولين من تونس وخارجها، وتجاوز صلاحياته البرلمانية المتمثلة في إدارة الجلسات داخل مجلس نواب الشعب والمشاركة في اجتماعات مجلس الأمن القومي والتشاور مع رئيس الجمهورية في قضايا خاصة تهم البلاد… إلخ

كل هذه المسببات تم استثمارها من قبل معارضيه وخصوصا الدستوري الحر وتوظيفها في التعبئة للتظاهر والاعتصام أمام مقر البرلمان دون أن تكون هنالك جدوى ميدانية تذكر عدى الضجة الإعلامية المفتعلة حوله. ليس لأن الغنوشي مثلا لا يستحق الانتقادات الموجهة له، بل على العكس الانتقادات كانت تأتيه أحيانا من صقور الحركة، ولا لأن بقية الأحزاب السياسية راضية على تحركاته وأفعاله وطريقة ادارته للبرلمان وتدخّله في مؤسسة الرئاسة، بل هنالك استياء عام لدى المعارضين للنهضة والمشاركين معها في الحكم على حد سواء حول مجمل هذه المسائل لكن هذه الأطراف لا ترضى أن تدخل في تحرك احتجاجي أو تنسق سياسيا مع حزب يتهمونه بالدفاع عن المنظومة الديكتاتورية السابقة وارتباطه بأطراف خارجية لا تريد الخير للبلاد.

المشروعية القانونيّة والدستورية والشعبية للتحركات

دستوريا

الدستور التونسي ينص بكل وضوح في الفصل 37 على أن “حرية التظاهر والاجتماع السلميين مضمونة” وما قامت به عبير موسي ورفاقها من الحزب الدستوري الحر ومن الجماعات الناشطة التي تدور فلكهم السياسي والحزبي من تظاهر ومحاولة اعتصام أمام مبنى البرلمان لم يكن خارج المألوف الدستوري والمدني للتحركات السياسية والاجتماعية التي حدثت على امتداد عشر سنوات منذ اندلاع الثورة في 2010، خاصة وأن اعتصام الرحيل الذي حدث في سنة 2013 والتغيرات التي أحدثها في الواقع الحكومي والسياسي والأمني لا تزال ماثلة إلى اليوم.

فالسياقات الدّستورية والثورية والاجتماعية عموما تشي بوجود تقاليد في هذا المجال وقوانين تحميها وتدعمها إلا أن مختصين في الشأن السياسي ومهتمين بالمجال القانوني والدستوري (….) يرون أنه وعلى الرغم من المشروعية الدستورية لهذه التحركات والاحتجاجات وبالرغم من عدم وجود قانون يزجرها إلا أن سياق هذه التحركات وملابساتها تبقى مبهمة وغامضة بما أنه لا يوجد خرق للقانون أو تجاوز واضح للدستور داخل البرلمان يدعو لمثل هذه الخطوة. وهو ما ينزع عنها مشروعيتها الأخلاقية ويجعلها تصنّف في خانة عدم النضج الديمقراطي والسياسي. بل إن هنالك من ذهب إلى اعتبار أن هذه التحركات تقف وراءها دول عربية (الامارات، مصر..) خصوصا وأن إعلام هذه الدول تجنّد في ظرف وجيز وبشكل غير مسبوق لتضخيم هذه الاحتجاجات وإعطائها أكثر من حجمها ووزنها والتحريض عليها في سياق حرب المحاور الإقليمية الموجودة على أكثر من ساحة عربية والحرب الليبية خير مثال على ذلك.

شعبيا

المشروعية الشعبية أو الحضور الشعبي الذي كان من الممكن أن يستبدل المشروعية السياسية والأخلاقية والديمقراطية الضعيفة والغائبة أحيانا لهذه التحركات لم يكن كفاية أو في حده الأدنى من أجل ترجيح الكفّة والضغط المؤثر بغاية تحقيق الهدف من هذه الاحتجاجات. فإذا علمنا أن المشاركين في المظاهرات كانوا بعض الأفراد المتفرقين (الصحافة بالمناسبة كان عددها أكثر من عددهم) من أتباع الحزب الدستوري الحر وممن نجهل حقيقية هويتهم وتاريخهم السياسي، إضافة لغياب الحزام الجماهيري والشعبي من المساندين لعبير موسي وحزبها ومن المواطنين الغاضبين من الثورة والنظام السياسي الجديد والداعمين لموسي، فإن الاستنتاج الوحيد من هذه المقدمات هو غياب العمق أو الامتداد الشعبي للمظاهرات وهذا يعني غياب المشروعية الشعبية وهو ما يضرب هذا التحرك في العمق ويحشره في زاوية الكليشيه المعروف بـ”الفرقعة الإعلامية”.

لا يمكن في أي بلد ديمقراطي أو أوتوقراطي أو تيوقراطي أو عسكري أو مهما كانت هويته السياسية والمدنية أن يدخل فيه طرف أو أطراف حزبية أو نقابية أو سياسية تحركا سياسيا أو اجتماعيا أو حتى ثقافيا دون وجود حركة جماهيرية تدعمها، وإلا فإن عمره الافتراضي لن يدوم ولن يحقق مكاسب تذكر، وفي النهاية ربما سيتسبب في إضعاف موقف هذه الأطراف سياسيا وشعبيا.

خسارة موسي رغم تعاطف مرحلي

من نافل القول بأن التحركات الحمّالة لمطالب اجتماعية او سياسية أو ثقافية أو غيرها تستوجب التنظيم الجيد والمشروعية القانونية والدستورية والشعبية حتى تتوصل لتحقيق جزء أو كل مطالبها، وهو ما لم يكن واقع الحال في التحركات الأخيرة التي حصلت في ساحة باردو.

تخسر عبير موسي وحزبها نقاطا على حساب خصومها بعدما ارتبط هذا التحرك بمطالب غير واقعية، على الأقل في الظرف الحالي وحسب توازن القوى في البرلمان. هويتها السياسية التي تعتبر امتدادا للنظام الديكتاتوري السابق ستبقى عائقا أمام تجذر مثل هكذا تحركات في الواقع السياسي التونسي مهما حملت من تعاطف واستقطاب مرحلي ومؤقت.

المهم من هذا كله هو أن محدودية التحركات الأخيرة وضعف مشروعيتها خصوصا الشعبية والدستورية والأخلاقية لا يعني أنه لا توجد جذور ومسببات لوضع سياسي ونيابي مترهل يتطلب الإصلاح والتغيير خصوصا مع تواتر التهديدات والتحرشات المتواصلة من الطرف المهيمن في الحكومة الحالية بضرورة توسيعها واجراء تغييرات عليها أو حلها إن لم يكن هنالك تجاوب مع هذه المطالب.