المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

في الظروف الحالية، يلاحظ المتابعون أن هناك تراخ في الجهود الموجّهة لمكافحة الفساد. الحجة المعتمدة هي أنّ الأولويّة المطلقة يجب أن تعطى، في الوقت الراهن، لمكافحة الجائحة وهو مايجب أن تركزّ عليه الأجهزة التنفيذية. فهل اعتماد التدابير الرامية للحدّ من مخاطر الفساد ستحدّ من فاعلية العمل الحكومي في إدارة هذه الأزمة؟ أم أنّ العكس هو الصحيح؟

في الحقيقة، إدارة مخاطر الفساد في فترة الأزمات مثل الأزمة الحالية ليست ترفا، بل بالعكس. أي أنّ اتخاذ تدابير وقرارات لا تأخذ بعين الاعتبار هذه المخاطر هي ما يحدّ فعلا من مدى نجاح هذه الإجراءات في تحقيق النتائج المرجوة منها في الوقت المناسب.

لماذا يجب ألا تكون الأزمة تعلّة؟

في حالات الأزمات التي تتطلب من الجهاز التنفيذي فاعلية ونجاعة قصوى، العديد يحاول استغلال الظروف لتحقيق منفعة شخصية مسيئا استعمال السلطة الموكولة إليه. إنّ الطوارئ تزيد من فرص الفساد. إن لم يكن للحكومة أولاّ، وعي وثانيا استراتيجية للحدّ منها، سيكون الثمن باهظا أكثر حتّى من الظروف العاديّة. فلا يجب أن تكون شبهات الفساد سببا مباشرا ورئيسيا في عدم تحقيق النتائج المطلوبة وخاصة عندما يتعلق الأمر بالصّحة العامّة أو بالأمن العامّ. بل ويجب ألاّ تكون شبهة فساد سببا في افتعال أزمة داخل الأزمة. فالأزمة المرتبطة بالفساد تجتذب حتمًا انتباه السلطات الأخرى، فضول وسائل الإعلام، وقلق الشركاء، وشك المواطنين، وعدم ارتياح الموظفين.

من المهمّ أن نعي أنّ وجود مخاطر فساد -وإن كانت عالية- في أمر ما فإنّ ذلك لا يعني بالضرورة التراجع عن تطبيقه. ولكننا نلاحظ منذ أن بدأت تونس معركتها ضدّ الفساد أصبح العديد من الفاعلين الحكوميين يكبحون روح المبادرة خوفا من أن يُتهموا بالفساد فزادت البيروقراطية وتعطلت المسارات الإدارية أكثر فأكثر. لذا فمن المهمّ أن تكون محاربة الفساد أولوية من أولويات العمل الحكومي ولكنّ الفساد يجب أن يُتعامل معه كخطر مثل بقية المخاطر تجب إدارته. إذن، لا يجب أن ينظر لإدارة مخاطر الفساد كعائق أو كمعطلّ للمجهودات الحكومية أو كتعلّة لعدم فعل ما يجب فعله. ففي الأزمات تتطلب أن يكون العمل الحكومي ناجعا وفعالا ويمكننا أن نجعله أيضا أكثر شفافية ونزاهة واحتراما لمبادئ المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص، عبر إدارة فعالة لمخاطر الفساد.

علينا كذلك أن نعي أنّ “حسّاسية” المواطن التونسي تجاه الفساد تتزايد باستمرار وهو الذي ليلا نهارا “يسمع جعجعة ولا يرى طحينا”. إذ يتابع الخطابات الرنّانة ويرى القوانين توضع ولكنه لا يكاد يرى تحسّنا يذكر على أرض الواقع وهو ما تشي به تقارير استطلاعات الرأي. لذلك، فإن أي شبهة فساد -وإن كانت في الحقيقة وفي أحيان كثيرة خطأ تصرّف- تسبّب جدلا واسعا يضع محلّ تشكيك عملا حكوميّا أراد أن يوجد حلاّ لمشكل ما. يمكن أن نتخذ كمثل على ذلك ما حصل من جدل حول ترسيم العائلات ذات الدخل المحدود في قائمات المنتفعين بالمساعدات والمنح الاجتماعية، إذ كان من الممكن- إن اعتمدت المقاربة القائمة على تقييم المخاطر – أن تضع تدابيراً من شأنها الحدّ بطريقة فعّالة من مخاطر الفساد يمكن تؤدي فعلا إلى توزيع غير عادل للمساعدات أو إلى التقليص من ثقة المواطنين في شفافيّة مسار إسنادها ومدى احترامه لمبادئ المساواة وتكافؤ الفرص، وذلك من شأنه أن يضع محلّ تساؤل كلّ الجهود المبذولة والنتائج المحققة. لذلك، من المهمّ أن يكون الفاعلون العموميون واعين بأهميّة إدارة مخاطر الفساد حتّى في مثل الظروف التي أملتها جائحة كوفيد-19 وخاصّة في القطاعات الأكثر تعرّضا لهذه المخاطر أو الأكثر تضررا منه.

أين تكمن أهم مخاطر الفساد في المرحلة الحالية؟

يجب أن تعتمد الحكومة المقاربة المبنيّة على المخاطر أو بالأحرى على تقييم المخاطر كي تحدّد، في البداية، خارطة مخاطر الفساد. وفي حين أنّ المعطيات الحالية لا تسمح بتحليل دقيق لمخاطر الفساد إلاّ أنه يمكن أن نحصي القطاعات أو المجالات الأكثر تأثرا بالفساد وأن نحدّد أهمّ مخاطر الفساد خلال أزمة كوفيد-19 عبر متابعة الاتجاهات، وبيانات الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وغيرها من المصادر.

يجب التركيز على مخاطر الفساد المتعلّقة مباشرةً بالتدابير الحكومية التي اتّخذت للحدّ من الجائحة، مثل كل ما يتّصل بالتصرف في التبرّعات والمساعدات الدولية أو بتوزيع الإعانات الاجتماعية أو تطبيق قواعد الحجر الصحي العام أو الآليات الموضوعة لدعم المؤسسات الاقتصادية.

ذلك أّنّه من الوارد، في ظل غياب لقاعدة بيانات محيّنة ومُتحقّق منها أن تشمل مخاطر الفساد الآليات التي أوجدت لمساعدة الفئات الهشّة، مثل ما وقع في بعض العمادات حيث يشتبه أن بعض المسؤولين قد طلبوا من المواطنين رشوة مقابل إدراجهم بلائحة الأشخاص المنتفعين بالمنحة الاستثنائية. كذلك، فقد تلقّت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تبليغات تتعلّق بالتلاعب بهذه القائمات وإدراج بعض المسؤولين لأشخاص لا يستوفون شروط التمتّع بالمنحة عن طريق المحاباة وتفضيل أقاربهم وأصدقائهم. وقد شملت شبهات الفساد أيضا التصرّف في التبرّعات وتوزيع المساعدات العينية وخاصّة منها المواد الغذائية ومواد التنظيف، إلخ. شبهات فساد تتعلّق أيضا بجمع تبرعات بدون احترام الصيغ القانونية، الاختلاس والمحاباة والمحسوبية واستغلال النفوذ والانحراف بالسلطة.

تشمل مخاطر الفساد عملية التحصّل على بعض الوثائق والتراخيص الإدارية (مثل ترخيص الجولان) التي باتت في بعض الأحيان سلعة تباع وتشترى على حساب قواعد الحجر الصحي العام وصحة المواطنين. ولا ننسى أيضا المدفوعات التي تعطى لسلط انفاذ القانون لغض الطرف عن المخالفات التي ترتكب في مثل هذه الظروف والتي يمكن أن تكون عواقبها وخيمة على الصحة العامة. وتمسّ أيضا المخاطر المحصاة ما يتعلّق بتطبيق الحجر الصحيّ الاجباريّ على الأشخاص المصابين أو الذين يشتبه بإصابتهم بفيروس كورونا حيث يعمد البعض إلى رشوة ومحاولة رشوة بعض المسؤولين مقابل الفرار من الإقامة الجبرية.

لم تصل تونس لهذه النقطة ولكن في حال تفاقم عدد المصابين بكوفيد-19 الذين يحتاجون إلى الرعاية الصحيّة فإنّ الفساد يصبح متغيرا إضافيّا بالنسبة للمؤسسات الصحية فهو يحدّ من قدرتها على التعامل مع الجائحة المستجدّة، خاصّة عندما يكون هناك نقص في الموارد البشريّة وفي المعدات الطبيّة. فتظهر الممارسات الفاسدة للحصول على الأولويّة في النفاذ للخدمات الطبية والاختبارات والأدوية والمعدات (مثل أجهزة التنفّس الصناعيّ) وللتحايل على قواعد استعادة الجثث والدفن وعلى ضوابط الحجر الصحي. وفي ذلك، تهديد للسلم الاجتماعي.

ومن المهمّ الإشارة في السياق ذاته ومع انخفاض مستويات الرقابة إلى أن مخاطر التحيّل مثلها مثل مخاطر الفساد تتزايد وهي تتعلّق أساسا بإنتاج وتوزيع منتجات (مثل المواد الشبه الطّبية كالكمامات ومستحضرات التعقيم) لا تتطابق كليّا أو جزئيّا مع الشروط والمواصفات المعمول بها. كما يمكن أيضا لإسناد المساعدات للمؤسسات الاقتصادية أين يحتوي على عديد مخاطر الفساد مثل استغلال النفوذ لإسناد دعم لا يستجيب للشروط الموضوعة والتلاعب بمقدار الدعم الماديّ وبالوثائق الإداريّة، إلخ.

أمّا فيما يتعلق بالصفقات العمومية، فقد دعا منشور رئاسة الحكومة عدد 10 لسنة 2020 المؤرخ في 31 مارس 2020 إلى تفعيل الفقرة الثانية من الفصل 49 من الأمر عدد 1039 لسنة 2014 مؤرخ في 13 مارس 2014 يتعلق بتنظيم الصفقات العمومية وذلك بالنسبة إلى الطلبات التي تمكن من استمرار المرافق العمومية الحيوية وتلك المستوجبة لمجابهة الوباء، على غرار الأدوية والمواد والتجهيزات المستعملة في ميدان الطب البشري. وتمكن هذه الفقرة الأجهزة التنفيذية من عدم اعتماد الإجراءات العادية للصفقات العمومية بهدف التسريع والتمكّن من التدخّل في الوقت المناسب. ولكن، في حين أنّ هذه الإجراءات المخففة فعّالة بالتأكيد في الحصول بسرعة على الخدمات والإمدادات الطّبية وغيرها من الأمور المستعجلة، فإنّ ذلك يتم في بعض الأحيان على حساب الضوابط والرقابة اللازمة على إنفاق المال العام. ويجب ألاّ ننسى أن آليات الرقابة القبلية والبعدية في الظروف الطارئة لا تعمل بفاعلية تامة، كذلك القضاء. فمن المهمّ أن تعتمد الأجهزة التنفيذية آليات الرقابة الذاتية وتراقب مدى شفافية الإجراءات واحترامها لمبادئ الشراءات العمومية قدر المستطاع.

إدارة مخاطر الفساد خلال الأزمات والظروف الطارئة تتطلب جهدا إضافيّا لأنّ هذه المخاطر ستظهر تدريجيّا ولأننا لن نستطيع أن نستفيد من نتائج التقييمات، من الدروس المستخلصة من تجارب سابقة في التعامل مع مثل هذه المخاطر ولا من التجارب المقارنة، إنما تستوجب أن تكون الإدارة واعية بوجودها وبأهميّة فعل ما يجب فعله للحدّ منها وأن تكون قادرة على ابتكار حلول للحدّ منها.

وماهي التدابير التي يمكن اتخاذها للحدّ من مخاطر الفساد؟

في البداية، يجب أن يتكوّن وعي لدى مختلف الفاعلين بأنّ تقييم مخاطر الفساد واتخاذ التدابير اللازمة للحدّ منها يجب أن يكون جزء لا يتجزأ من مسار صنع القرارات وبلورة السياسات وتنفيذ المشاريع وإن كان ذلك خلال الأزمات والطوارئ، حيث يصبح من المهم تجنب خلق أزمات جانبية من شأنها التأثير على الأداء الحكومي. خلال هذه المرحلة، هناك تدابير ذات مدى قصير وأخرى بعيدة المدى يمكن اتخاذها:

  • إعداد خارطة قطاعيّة لمخاطر الفساد والتركيز على النقائص التي سلّطت الأزمة عليها الضوء. يمكن للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أن تلعب دورا هاما في دعم الجهود الحكومية في هذا المجال بحكم تجربتها.
  • اتخاذ الإجراءات اللازمة للحدّ من مخاطر الفساد،
  • اتخاذ التدابير لمزيد دعم المبلغين عن الفساد وتوفير الحماية لهم،
  • توفير الظروف المواتية للمرفق القضائيّ ليستأنف عمله في أقرب الآجال حتى لا يتفاقم التأخير في النظر في القضايا المتعلقة بالفساد.
  • نشر الصفقات العموميّة التي تمّت بلورتها باعتماد الإجراءات المبسّطة وبرمجتها آليّا ضمن مهمّات الرقابة والتدقيق.
  • إيجاد آلية للتحقق والتثبت من قائمات المنتفعين بالمساعدات الاجتماعية،
  • توفير الدعم اللازم لمبادرات المجتمع المدني التي تعنى بتعزيز المساءلة الاجتماعية،
  • تعزيز دور منظمات المجتمع المدني في الرقابة على العمل الحكومي خاصة على المستوى المحلي،
  • وضع الإطار الاستراتيجيّ والقانوني والاجرائيّ اللازم لإدارة الأزمات بالاعتماد على ما تمّ استخلاصه من دروس خلال هذه الأزمة،

النصف الملآن من الكأس…

يجب ألاّ ننسى أن الفرص تولد من رحم الأزمات. سلّطت جائحة كوفيد-19 الضوء على المشاكل الهيكلية التي يعاني منها قطاع الصحة في تونس وكذلك الشؤون الاجتماعية. وزادت من الوعي بمدى أهميّة رقمنة الإدارة وتعصيرها وإعادة النظر في الوظيفة العموميّة ونبّهتنا إلى أي مدى نحتاج لتطوير البحث العلمي وتشجيع الصناعة المحلية. ولفتت نظرنا إلى ضرورة إيجاد حلّ شامل ومستدام للتضامن الاجتماعي يضمن التوزيع العادل للمساعدات.

كلّ هذه الدروس المستخلصة وغيرها تشكّل إصلاحات كبرى يجب أن ترتكز في تصميمها وتنفيذها على مبادئ الحوكمة الرشيدة ومنها تعزيز الشفافيّة والمساءلة والنزاهة. واليوم أكثر من الأمس نحتاج لتعزيز الجهود الوطنيّة لمكافحة الفساد. فهل تكون هذه الأزمة البداية الفعليّة لتنفيذ هذه الصلاحيّات وتكريسها على أرض الواقع؟ويبقى السؤال الذي أطرحه دائما: هل مكافحة الفساد أولوية فعلا بالنسبة للحكومة؟