المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة
فتحي لعيوني، رئيس بلدية الكرم

يأتي هذا المشروع، حسب أعضاء المجلس البلدي، تفعيلا لمبدأ التدبير الحر (الفصل 132 من الدستور) وحريّة الجماعات المحلية في التصرف في مواردها. وقد تباينت الآراء بخصوص هذا الصندوق بين من يرى فيه وسيلة للتضامن وبين من يعتبره وسيلة غير قانونية، تتعارض مع مدنية الدولة وتهمّش دورها الاجتماعي لفائدة المواطن. من الضروري التذكير بأنّ مجلس نواب الشعب، بمناسبة التصويت على قانون المالية لسنة 2020، رفض المصادقة على مقترح يتعلق بإحداث صندوق للزكاة ضمن مشروع القانون[1]. ولئن يختلف المقترح المرفوض عن ”مشروع“ بلدية الكرم من حيث طبيعة الموارد المنتظر تحقيقها وكيفيّة استخلاصها، فإنّ مصدرها يبقى مشتركا. بعيدا عن الانفعالات الغيرعقلانية الفاقدة للحجّة والبرهان بخصوص إحداث هذا الصندوق، فإن الأمر يستوجب جملة من الملاحظات النقدية تتعلق أساسا باحترام القانون -في معناه الواسع- واحترام مقتضيات الدولة المدنية.

فريضة ”غير إلزاميّة“ ؟

أعلن رئيس بلدية الكرم عن تدشين صندوق الزكاة ببلدية الكرم يوم 19 ماي 2020. وجاء في الدعوة التي وجّهها لعموم متساكني البلدية أن هذا المشروع يأتي ”إحياء لشعيرة الزكاة“. إلاّ أن الصيغة المتّبعة لتمويل هذا الصندوق تثير جملة من الملاحظات والإشكالات التي تضرب عمق فريضة الزكاة من جهة وتخرق مقتضيات الدستور من جهة أخرى.

تعني الزكاة، وهي من أهم أركان الإسلام، إخراج جزء من المال الزائد عن الحاجة لمستحقيه من الفقراء وضعيفي الحال وفقا لقواعد وشروط وأحكام أتى بها الإسلام وفصّل مستحقيها تفصيلا دقيقا. من المفارقات أن يتحوّل هذا الواجب الديني الذاتي إلى ممارسة جماعيّة تؤطّرها إحدى السلط التي، ولئن تمتّعت بالاستقلالية وبالحرية في إدارة الشؤون المحلية، تبقى في إطار دولة مدنية موحّدة. عديدة هي المؤشرات التي تُبين أن المُراد من هذا المشروع هو إقحام الشعائر الدينية ضمن ”المنظومة القانونية المحليّة“ المرتكزة أساسا على نصوص وضعيّة غير مستمدّة من الشريعة، والدليل على ذلك هو استناد رئيس بلدية الكرم على بعض فصول من الدستور، التي أدّى تأويلها المُوجّه إلى التوصّل بدستورية القرار البلدي. جاء في اطّلاعات القرار الإشارة إلى الفقرة الثانية من توطئة الدستور التي تنص على ”وتعبيرا عن تمسك شعبنا بتعاليم الإسلام ومقاصده المتسّمة بالتفتح والاعتدال…“ والفصل الأول ”تونس دولة حرة مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها…“ و الفصل 6 الذي نصّ على أنّ ”الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية…“.  لابّد من الإشارة إلى أنّ عبارة ”الإسلام دينها“ تعني أن الدولة هي الوحيدة المُكلّفة برعاية الدين الإسلامي باعتباره دين غالبية الشعب ولا تعني إمكانية اللجوء إلى تفعيل فرائض دينية ضمن المنظومة القانونية حيث أن قطع دستور 2014 مع التشريع المباشر عبر الفقهاء أمر جليّ. كما أنّ رعاية الدولة للدّين لا تعني، قطعا، أن تتحوّل الدولة (عبر البلدية) إلى طرف مُمارس للشعائر الدينية حيث أنّ حرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر تبقى مسألة ذاتية فرديّة لا يجب أن تُسيّرها الدولة بصورة مباشرة بل تسهر على احترمها وتوفير كل السبل للتمتع بها. ومهما كان من أمر، فقد حدّد الفصل 6 التزامات الدولة في هذا المجال بتكليفها

بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدّسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها.

من ناحية أخرى، نتبيّن أن الصيغة المعتمدة لإحداث هذا الصندوق وتمويله تعارض أسس شعيرة الزكاة المرجوّ إحياءها. جاء بقرار رئيس البلدية أن صندوق الزكاة يُحدث ضمن حساب خاص بالهبات يتمّ فتحه لدى المحاسب العمومي (الفصل 138 من مجلة الجماعات المحلية)، بما يجعل تمويل هذا الصندوق متوقفا على إقدام متساكني البلديّة على ”التبرّع“ لفائدة الصندوق والحال وأن الزكاة وجبت على كل مُقتدر. نشير إلى أنه تم وضع حساب مفتوح أمام الأشخاص الطبيعيين والمعنويين لإيداع الأموال. من هنا، يمكننا القول أن الزكاة، في الصيغة المعتمدة من قبل بلدية الكرم، صارت فريضة غير إلزامية للمتساكنين. يبدو أن المجلس البلدي يُدرك أنه بات من غير الممكن، في ظل دستور 2014، إدراج ضريبة دينية ضمن المنظومة القانونية وأنّه لا يوجد سند قانوني ضمن مجلة الجماعات المحليّة. نرى أنّ الأمر لا يتعدّى أن يكون مجالا لتعبئة موارد مالية إضافية لبلديّة الكرم من خلال ”استدراج“ إرادة المواطن المحلّي في التصدّق وتوجيه زكاته نحو الصندوق المُحدث. مع عدم إلزامية التبرّع لفائدة هذا الصندوق، يبقى المواطن، بضعف ثقافته الدينية والقانونية، مُقتادا -بصورة أو بأخرى- نحو الإيفاء بالتزام ديني-محلي غير مباشر.

أكّد رئيس البلديّة أن قرار المجلس البلدي استند على ما تتمتع به البلدية من حرية في إدارة المصالح المحليّة وفقا لمبدأ التدبير الحر. إلاّ أن الفصل 4 من المجلة المذكورة أعلاه يؤكد على ضرورة احترام مقتضيات وحدة الدولة التي تفرض احترام مؤسسات الدولة وهياكلها وتشريعها. من هذا المنطلق، نرى أن إحداث صندوق الزكاة ببلديّة الكرم يمثل تقويضا لإرادة المشرع الذي سبق له أن رفض إحداث صندوق للزكاة، كما أنه ضرب لمدنية الدولة. وبذلك، فإنّ مبدأ التدبير الحر لا يُمكّن بلدية الكرم من إحداث هذا الصندوق لجملة من الأسباب التي سنأتي عليها تباعا.

مخالفة صندوق الزكاة للقانون

من الغريب أن نجد من بين الاطلاعات الواردة بقرار رئيس البلديّة الإشارة إلى الفصل 2 من الدستور، الذي ينصّ على أنّ ”تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون“، والحال أن إحداث الصندوق يعارض مدنية الدولة كما بيّنا ذلك سابقا. هذا الفصل دليل على بناء دولة حديثة ”لا يمكن أن تكون إلا مدنيّة، أي تقوم على المواطنة، على إرادة الشعب وعلوية القانون في معناه الواسع، دولة تحتكر سلطة وضع القواعد القانونية وإلا كانت غير مكتملة البناء.“[2] ويمارس الشعب إرادته عن طريق ممثليه المنتخبين في إطار وحدة الدولة واحترام التشريع الوطني. إلاّ أن إحداث بلديّة الكرم لصندوق الزكاة فيه مخالفة للقانون. في هذا الصدد، ينصّ الفصل 126 من مجلة الجماعات المحلية على أن ”تحرص الجماعات المحلية على توظيف مواردها وأملاكها لخدمة المصالح المحليّة وفقا لقواعد الحوكمة الرشيدة والاستعمال الأجدى للمالية العمومية“ بما يجعل تصرّف البلدية في مواردها مقترنا بضرورة تحقيق المصلحة العامة في إطار احترام الشرعية المالية وقاعدة التوازن الحقيقي للميزانية. من جهته، قدّم الفصل 137 من المجلّة قائمة حصريّة  لموارد تمويل ميزانية الجماعات المحليّة على غرار الأداءات والمعاليم المحليّة، الموارد المحالة من السلطة المركزية، الهبات وغيرها. وقع إحداث صندوق الزكاة بناء على الفصل 138 من المجلة وذلك بفتح حساب خاص لدى المحاسب العمومي ضمن محصول الهبات. من هنا، تعتبر التبرّعات المقدّمة من قبل المواطنين المحلّيين لفائدة الصندوق هبات على معنى هذا الفصل ويجب أن توجّه لتمويل أو المساهمة في تمويل مشاريع ذات مصلحة عامة. إلاّ أن الزكاة، كمقدار مالي موجّه لأشخاص بعينهم (مصلحة شخصية) تصبح مخالفة للمصلحة العامّة التي قد تشمل، على سبيل المثال، منح البلدية لمساعدات مباشرة لغاية تنمية أنشطة اقتصادية ذات قدرة تشغيلية أو ذات قيمة مضافة مرتفعة[3]. إذا كانت غاية بلدية الكرم من إحداث هذا الصندوق هو تمويل المشاريع ذات المصلحة العامة، فإنّ ذلك يعتبر تحويلا لوجهة أموال المتبرّعين بعد استغلال مصطلح ديني (الزكاة) لجلب موارد استثنائية وقد تصبح دورية. نذكّر أنه، تطبيقا لهذا الفصل، يتمّ فتح الحساب الخاصّ بطلب من رئيس الجماعة المحليّة ويتمّ التداول بالمجلس البلدي على تسمية الحساب والهدف من إحداثه ومجالات تدخّله ومصادر تمويله. كيف يمكن تحديد مآل الأموال الواردة بعنوان الهبات والحال أنّها غير قابلة للتقدير بصورة مسبقّة وأساسا بما أنّها لا تخدم مباشرة المصلحة العامة على المستوى المحلّي؟

لنفترض جدلا أن محاسب البلدية تعهّد بجملة من التبرعات، يجب في هذه الصورة أن يصادق المجلس البلدي على برنامج لاستعمال الاعتمادات المُجمّعة في نطاق الميزانية السنوية للبلدية، وهو ما يستوجب تنقيح الميزانية بالترفيع فيها دخلا و صرفا، وتُصرف المبالغ المتأتية من هذا الصندوق وفق نفس القواعد والإجراءات الخاصة بنفقات الجماعات المحليّة. كيف يمكن أن تكون الأموال المُوجّهة للزكاة، كما حدّد وجهتها الإسلام، ملائمة لصرف الموارد وفق الأهداف والبرامج وخدمة للمصالح المحلية ؟

إضافة إلى ما سبق، نشير إلى أنه تمّ وضع ثلاث هيئات للإشراف على الصندوق: هيئة إدارية لقبول ملفات طالبي الانتفاع[4]، هيئة شرعيّة تهتم بفقه وأحكام الزكاة وأخيرا هيئة رقابية تتكون من أعضاء المجلس البلدي التي تصادق على المقترحات والصرف. بعض الملاحظات يجب أن نسوقها بخصوص كل هيئة.

إنّ وجود هيئة إدارية تقوم بفرز ملفات طالبي الانتفاع بالزكاة والهيئة الرقابية للمصادقة على المطالب هو دليل قاطع على مخالفة أحكام الفصل 138 من المجلّة (ومنه مخالفة أحكام الباب الرابع بعنوان ”في النظام المالي للجماعات المحلية“) حيث أنّ صرف الأموال المتأتية من التبرعات يكون وفقا لبرنامج استعمال يُدرج ضمن الميزانية ولا يمكن أن يتم صرفها وفقا لملفات تُدرس حالة بحالة. من ناحية أخرى، فإنّ وجود هيئة شرعيّة ضمن الإدارة البلدية تقوم بالتصديق على ملفات طالبي الانتفاع هو اعتداء صارخ على الدستور ومقتضيات مدنيّة الدولة. لو فرضنا أن مشروع صندوق الزكاة غير مخالف للقانون، هل يحول رفض الهيئة الشرعية للتصديق على ملف أحد طالبي الانتفاع دون قبوله من قبل المجلس البلدي؟ ألا يعتبر ذلك تعدٍّ على صلاحيات المجلس البلدي ؟

من خلال ما تمّ بيانه، يخلص القول بأنّ بات واضحا أنّ إحداث صندوق الزكاة ببلديّة الكرم مخالف للدستور وللقانون. ونتيجة لذلك فإنّ قرار رئيس البلدية يبقى قابلا للإلغاء من قبل المحكمة الإدارية لعدم الشرعية متى استُهدف من طرف كل من له الصفة والمصلحة في إلغائه. كما أنّ قبض الأموال بعنوان تبرعات لفائدة الصندوق يُمسي أمرا باطلا قانونا موجبا للمساءلة وفقا لأحكام الفصول 95 و96 و97 من المجلة الجزائية. في هذا الصدد، ينصّ الفصل 95 على أنه

يعاقب بالسجن مدة خمسة عشر عاما وبخطية تساوي مبلغ ما يحكم بترجيعه الموظفون العموميون أو أشباههم الذين يأخذون أموالا باطلا وذلك بأن يأمروا باستخلاص أو يقبضوا أو يقبلوا ما يعرفون عدم وجوبه أو يتجاوز المقدار الواجب للإدارات المنتسبين إليها. كما يمكن زيادة على ذلك الحكم عليهم بالعقوبات التكميلية المقررّة بالفصل 5 من هاته المجلّة.

إن قوّة الدولة تكمن بلا شك في صلابة مؤسساتها المحليّة التي صارت، بصدور الدستور ومجلة الجماعات المحليّة، تتمتع بصلاحيات هامّة عملا بمبدأ التدبير الحر شريطة التقيّد بمقتضيات القانون.  بات جليّا بالنسبة إلينا أن بلديّة الكرم، بإحداثها لصندوق الزكاة، خالفت الدستور والقانون. لا يمكن أن تكون المؤسسة البلديّة، قطعا، وسيطا لممارسة الفرد لشعائره الدينية ويجب أن تبقى حريّتها في تسيير الشؤون المحليّة مقيّدة باحترام مدنيّة الدولة و وحدتها.

الهوامش

  1.  مداولات مجلس نواب الشعب بتاريخ 10 ديسمبر 2019.
  2.  لمياء ناجي، ”مدنية الدولة“، ورد في ”قراءات في دستور الجمهورية الثانية“، منشورات مدرسة الدكتوراه بكلية الحقوق بصفاقس عدد 4، ص.33.
  3.  انظر الفصل 107 من مجلة الجماعات المحليّة.
  4.   بناء على دليل الانتفاع، تقوم البلدية بصرف المبالغ لمستحقيها.