لنتّفق منذ البداية أنّه لا حياة ديمقراطيّة دون فضاء عام لتبادل المعلومات والأفكار والاراء المتنوّعة، بشكل حر.وأنّه في مقابل الاعلام الأحادي، الذي يتبنّى ثقافة التمجيد والاشادة والتنويه والتسبيح في الأنظمة الاستبدادية، تحتاج الديمقراطية إلى إعلام تعدّدي كميّا وكيفيّا، إعلام ناقد ومزعج ومشاكس، اعلام مهنييمثّل السلطة مضادّة لبقية السلطات في كشف الحقائق التي تمكّن من فضح انحرافات بقية السلط، وكشف ملفّات الفساد والانتهاكات واستغلال نفوذ السلطة.

رعاية الاعلام خدمة للديمقراطية

إن الاعلام التعدّدي الذي يضع حدّا لاحتكار الفضاء العام من طرف مجموعة محدّدة (سياسية او دينية أو اقتصادية) يتحوّل الى حارس للمجتمع في تنوّعة وتعدّديته وتمثيل الاتجاهات المختلفة داخله. وفي الوقت الذي تتغذّى فيه الديمقراطية من قدرة المجتمع على النفاذ السهل الى المعلومات التي تهم الشأن العام، والحصول على المعلومات الصحيحة والجيدة، تعتبر إحدى تمظهرات الديمقراطية في ما تتيحه وسائل الاعلام لمختلف المجموعات الفكرية والثقافية والسياسية من مساهمة في النقاش العام والتعبير عن آرائها ومواقفها بكل حرية.

الدولة إذن مطالبة بحماية تنوّع المشهد الإعلامي والتعددية الإعلامية، وبضمان حرية الصحافة والتعبير وذلك من أجل حماية الحياة الديمقراطية ورعايتها. وتزداد الحاجة إلى دور الدولة وتدخّلها في زمن الازمات. والدولة حين تتدخل يجب أن يكون ذلك معلنا لا خفيّا، ووفق القانون لا وفق الأهواء أوالرغبات. ويكون ذلك في إطار سياسة عامة للدولة أو ما يعرف بالسياسة العمومية للإعلام. ويقع على عاتق الدولة اعتماد إطار تشريعي يمكّن من الحق في حرية التعبير والحق في أن تزدهر وسائط الإعلام المختلفة والمستقلة.

ففي البلدان الديمقراطية، تلتزم الدولة بشكل صريح بدعم وسائل الاعلام وذلك لضمان التعددية الإعلامية، وخلال أزمة الصحافة المكتوبة التي بدأت في عديد البلدان الأوروبية في العشرية الأولى من القرن الحالي، سارعت هذه البلدان إلى سن تشريعات تنص على تقديم مساعدة مباشرة وغير مباشرة إلى وسائل الاعلام المطبوعة للمحافظة على استمراريتها، وذلك بالنظر إلى دور الصحافة المطبوعة في إسماع أصوات ثقافية وسياسية مختلفة.

سياسة عمومية للاعلام

وقدّمت منظمة البند  19في ما أسمته بموجز السياسات العامة للاعلام جملة من التوصيات لتنظيم الدّعم المقدم من الدولة وذلك بهدف ”تعزيز تعددية وسائط الاعلام المختلفة والتنوع الثقافي والمساواة في المعاملة وضمان الشفافية والاستقلالية“. ومن أهم التوصيات التي قدّمتها المنظمة هي: أن يقدّم دعم الدولة لوسائل الاعلام وفقا للقانون، وأن يكون هدف قانون الدّعم هو ضمان تعددية وسائل الاعلام وضمان التنوع الثقافي والّلغوي للصحافة. ويجب أن ينص القانون على أن الإعانات المباشرة أو غير المباشرة تخصص بطريقة عادلة ومحايدة. ويحظر القانون صراحة أن تكون أحقّية الإعانات معتمدة على المضمون السياسي أو وجهة نظر المؤسسة الإعلامية، وينبغي أن تكون الإعانات متاحة لجميع الصحف والمجلات، وتعطى الإعانات المباشرة من قبل هيئة مستقلّة على أساس معايير عادلة وشفافة. وينبغي، حسب هذه التوصيات أن تتمكن  وسائل الاعلام التي تحرم من المساعدات من الالتجاء الى المحاكم، و تقدم اللجنة المستقلة المشرفة على إعطاء الدعم تقريرا سنويا عاما الى البرلمان حول الطريقة التي تم بها استخدام الأموال العامة. كما تخضع المؤسسات الحاصلة على الدعم من المال العمومي الخضوع إلى هيئات المحاسبة والرقابة المالية.

الديمقراطيات هل تدعم الاعلام؟

وفي فرنسا على سبيل المثال استفاد سنة 2017وفي إطار دعم الدولة للصحافة المطبوعة 396 عنوانا بمساعدات مباشرة، فضلا عن مساعدات غير مباشرة تمثّلت في المساعدة على التوزيع أو التطوير والإحاطة الاجتماعية. وبلغ حجم الدعم الإجمالي، 121 مليون يورو في عام 2017 .وخلال أزمة كورونا عرض وزير الثقافة فرانك ريستر في 16 أفريل الماضي أمام لجنة الثقافة بمجلس الشيوخ الفرنسي ”خطة عاجلة للصحافة في مواجهة أزمة كورونا“.

فرنسا ليست الاستثناء في البلدان الأوروبية التي تخصص سنويا ملايين الاوروات من مال دافعي الضرائب لدعم وسائل الاعلام، ففي ألمانيا والبلدان السكندينافية التي تتصدر ترتيب حرية الصحافة في العالم، يعتبر الاعلام خدمة عمومية في غاية الأهمية، وترصد الدول ميزانيات ضخمة ليس فقط لدعم الاعلام المحلي، بل أيضا لدعم تجارب الصحافة النوعية والجيدة  في البلدان الأقل نموّا، وخاصة تلك التي تمر بتجارب انتقال ديمقراطي. ويكفي الإشارة أن المركز الوحيد لتدريب الصحفيين في تونس (CAPJC) وهو مؤسسة حكومية يموّل بالكامل من قبل هذه البلدان، وأن الحكومة التونسية لا تنفق فلسا واحدا على تكوين الصحفيين في بلادها.

لماذا اذن كل هذا الرفض لمبادرة الحكومة بمساعدة الصحافة التي تمر بأزمة بسبب كورونا؟ في الحقيقة فإن رفض الهياكل المهنية على غرار نقابة الصحفيين ونقابة الاعلام التابعة لاتحاد الشغل لا يتعلّق بمبدأ الدعم نفسه. العكس هو الصحيح، فطالما طالبت النقابات أن الدولة هي الضامنة لصحافة الجودة، في مواجهة اعلام الرداءة والتضليل. وان أي دعم في الأوقات العادية كما في الازمات، يجب أن يخضع لمقاييس وشروط شفافة، وأن يخضع المستفيدين للتدقيق والمسائلة لمعرفة كيفية التصرف في هذه المساعدات. وقبل كل ذلك، يجب أن يلتزم المستفيدون بالدعم العمومي بجملة من الشروط، على رأسها احترام اتفاقيات الشغل وحقوق الصحفيين والعاملين والالتزام بصحافة الجودة وأخلاقيات المهنة.

كما يجب أن تسند هذا الدعم لجنة مستقلة، حتى ننأى بالحكومة عن كل إمكانية تأثير على وسائل الاعلام المستفيدة. وحتى يدرك المستفيدون أنهم لا يتلقّون منّة من الحكومة ولا من شيوخ السياسة، وإنما من دافع الضرائب الذي من حقّه أن ينتظر منهم منتوجا يحترم ذكائه وذوقه وكرامته.