وخلال أزمة كورونا الحالية، وجّهت عديد انتقادات إلى وسائل الاعلام التونسية، وخاصة العمومية منها، في الاكتفاء بما يصدر عن الجهات الرسمية من بلاغات وتصريحات، وغابت القصص والتحقيقات الاستقصائية التي تذهب أبعد مما تقدّمه المصادر الحكومية، والتقصّي في عديد الاخبار التي راجت عن حالات فساد في علاقة بإدارة أزمة كورونا، مثل قضايا صفقة الكمامات الطبية والمنح الاجتماعية والاحتكار وغيرها. بل وصل الامر بالتلفزة التونسية الى حد تكريم مسؤول حكومي (نصاف بن علية مديرة المرصد الوطني للامراض المستجدة) وهو ليس دور الصحافة! تأتي هذه الانحرافات في ظل تهديدات حقيقية تواجه حرية الصحافة في تونس، خاصة ما ينتظرها ما بعد أزمة كورونا.

تهديد للتنوع والتعددية

الخطر الأول يتعلّق بالمؤسسات الإعلامية والتي تأثّرت بالأزمة، فهناك من أغلقت على غرار مؤسسات الصحافة الورقية، وهناك من تقاوم من أجل البقاء، مثل الإذاعات الصغرى الجهوية والجمعياتية. وهو خطر يهدّد تنوّع المشهد الإعلامي وتعدّديته. وقد كان أولى ضحايا الازمة مئات الصحفيين والعاملين الذين فقدوا مواقع عملهم وأحيلوا على البطالة. كما أن وسائل الإعلام الأكثر تأثيرا في الجمهور وهي مؤسسات الإعلام السمعي البصري، هي من الأساس وفي أغلبها لا تستند الى نموذج اقتصادي واضح وسياسة تحريرية معلنة، وضلت هذه المؤسسات خلال فترة ما قبل كورونا تنتقل من ممول إلى أخر بشكل يفتقر إلى أبسط قواعد الشفافية.

ومن المنتظر أن تساهم الأزمة الاقتصادية في مزيد ارتهان هذه المؤسسات للمال مجهول المصدر. وجدير بالذكر أن السياسة التحريرية لهذه المؤسسات تتغير بتغير الممولين. كما أن الأزمة جعلت وسائل الإعلام تتوجّه إلى الإنتاج السهل وغير المكلف، وأيضا الذي يفتقر إلى الجودة، وباستمرار تتراجع الاعمال المعمّقة التي تتطلّب جهدا وإمكانيات مادية لترك المجال إلى “الأعمال الترفيهية” التي لا تحتاج الى جهد او مال.

الخطر الثاني ويتمثّل في نهاية عهدة الهيئة التعديلية للاتصال السمعي البصري، الهايكا، ومن المنتظر أن يعرض مشروع القانون المتعلق بالاتصال السمعي البصري والمحدث للهايكا الجديدة على البرلمان قريبا، وهو مشروع قانون تضييقي ويتراجع عن المكاسب التي حققها المرسوم 116. واذا تمت الموافقة على المشروع الجديد وهو وارد جدا باعتباره يحظى بدعم حركة النهضة وقلب تونس، فإن تركيبة الهايكا ستكون مناصفة بين هذين الحزبين. وجدير بالذكر أن حركة النهضة كانت مواقفها خلال السنوات الماضية معادية للهايكا في صيغتها الحالية، وغير راضية عن وجود مجلس مستقل للهايكا، وهو نفس الموقف لنبيل القروي وحزبه، ولكن بأكثر تطرّفا، فنبيل القروي تحدّى الهايكا وهو يستعمل قناة تلفزية غير قانونية ودعت الهايكا لغلقها، وهو نفس الأمر مع قناة الزيتونة المقرّبة من حركة النهضة.

قوانين زجرية

الخطر الثالث هو عدم تمرير الحكومة لمشروع القانون الذي سيعوّض المرسوم 115 المتعلق بحرّية الصحافة والنشر والذي سينصّ، لأول مرة في تونس، على بعث مجلس الصحافة. وأمام تنامي الأخطاء المهنية والانحرافات التي تقوم بها وسائل الاعلام المختلفة، تحتاج مهنة الصحافة أكثر من أي وقت مضى الى مجلس لأخلاقيات المهنة كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية، مجلس يراقب مدى التزام الصحفيين ووسائل الاعلام باحترام أخلاقيات المهنة وصحافة الجودة، كما يحمي الجمهور من انحرافات وسائل  الإعلام، ويعمل على دعم التربية على الاعلام وحماية الجمهور من الوقوع في فخ الاخبار الزائفة والمضللة ومن خطابات الكراهية والخطابات العنيفة والتي تنتهك حقوق الانسان.

والجدير بالذكر، ومن خلال تجارب الدول المختلفة أن عدم إرساء مجلس للصحافة أو مجلس لأخلاقيات المهنة، يفتح المجال لتدخل السلطة التنفيذية بذريعة حماية الجمهمور وحماية الذوق العام، وأيضا يمهّد لتشريعات تضييقية على غرار مشروع القانون الذي تقدم به بعض النواب منذ شهر تحت عنوان أخلقة الحياة السياسية، وهو في الحقيقة يهدف الى التضييق ومعاقبة منتقدي أعضاء المجلس ومسؤولي الأحزاب السياسية.

إرث الماضي

الخطر الرّابع هو حالة الاعلام العمومي، ففي الوقت الذي كان ينتظر من هذا القطاع، المموّل من دافعي الضرائب، أن يكون القاطرة لبقية وسائل الإعلام في صحافة الجودة وفي خدمة الجمهور والالتزام بمفهوم المرفق العام، إلا أن الإعلام العمومي ظل حبيسا لسوء الإدارة وغياب الروية وتخبّطه في الممارسات القديمة الموروثة عن زمن الاستبداد. كما ساهمت الحكومات المختلفة في إغراقه في مشاكل التسيير وعدم تمكينه من استقلاليته المالية والإدارية. أضف إلى كل ما تقدم غياب سياسة عمومية للإعلام، للتعامل معه كمرفق لتقديم خدمة عمومية على غاية من الأهمية وفي علاقة مباشرة بالمسألة الديمقراطية شبه المعطّلة.

هذا الوضع يذكّرنا بالحملة التي أطلقتها النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بالتعاون مع منظمة مراسلون بلا حدود، في شهر أوت من سنة 2015، بعنوان “حرّية الصحافة شادّة في خيط”، جاءت تلك الحملة كردّ على الانتكاسة التي شهدتها حرية الصحافة في تلك الفترة، والتي تميّزت بهجمة على المدوّنين وعلى الصحفيين، واستعمال القضاء ضدهم، بمحاكمتهم خارج إطار المرسوم 115 واستعمال القوانين الزجرية من المجلة الجزائية ومجلة المرافعات العسكرية ومجلة الاتصالات. وأمعنت السلطة السياسية آنذاك في التضييق باقتراح مشاريع فاشية لمعاقبة الصحفيين والناشطين على غرار مشروع زجر الاعتداءات على القوات الحاملة للسلاح. وقتها أطلقت المنظمتين حملة، هي بمثابة التحذير من تراجع حرية الصحافة.

اليوم ونحن نحيي للمرّة العاشرة زمن الثورة اليوم العالمي لحرية الصحافة، يبدو أن حرية الصحافة والتعبير في تونس مازالت رهينة نفس الخيط.