يوم 23 مارس الماضي توقفت الصحف الورقية عن الصدور لأول مرة في تاريخ البلاد، وذلك بعد أن دعت الجامعة التونسية لمديري الصحف إلى “التوقف عن طبع الصحف الورقية توقّيا من انتشار فيروس كورونا”، واكتفت مواقع بعض الصحف بنشر محتويات تتضمن الحد الأدنى من الأخبار في شكل PDF.

لكن كورونا ليست السبب الرئيسي في موت الصحافة الورقية المرتقب، وإن كانت قد عمّقت أزمتها وعجّلت بموتها المحتمل. فقبل كورونا بسنوات بدأت صحة الصحافة الورقية تعتلّ، وتسوء مع كل أزمة أو ضائقة اقتصادية تشهدها البلاد. مما أدى إلى احتجاب بعض الصحف اليومية والأسبوعية بشكل نهائي.

ولدت مأزومة

ليست الصحافة الورقية وحدها من تعيش أزمة خانقة تهدد بفنائها، فقبل أسابيع قليلة من بداية أزمة كورونا، حاول الديوان الوطني للإرسال الاذاعي والتلفزي قطع البث على بعض القنوات التلفزية والإذاعية، والسبب أن الديون المتخلدة بذمة هذه المؤسسات بلغت أرقاما قياسية، حتى أن إحدى الإذاعات لم تسدد فلسا واحدًا مقابل استغلالها لخدمات الديوان مند انبعاثها.

وخلال فترة الحجر الصحي وحظر التجول، سجلت سلسلة ” شوفلي حل” التي أنتجتها التلفزة الوطنية قبل الثورة أعلى نسب مشاهدة من ضمن الأعمال التي تقدمها القنوات التلفزية، على الرغم من أن السلسلة وقع إعادتها عديد المرات، حتى ان المشاهدين حفظوها عن ظهر قلب. وينتظر أن يكون شهر رمضان بمثابة الضربة القاصمة لمؤسسات الاعلام السمعي البصري، المثقلة بالديون وسوء التصرّف. وذلك لمحدودية الانتاجات وخواء المضامين الإعلامية من ناحية، وتراجع ميزانيات سوق الإشهار بسبب الأزمة من ناحية أخرى.

الحقيقة أن أزمة كورونا لم تكن شرّا مطلقا، بل كان لها بعض الإنعكاسات الإيجابية، فإضافة لإعادة الروح للحياة البيئية وانحصار منسوب التلوّث، كان لكرونا الفضل في رفع الغطاءعن كثير من الامراض والاعطاب في عديد القطاعات، في الصحة والتعليم والرقمنة، وأيضا أمراض الاعلام. من هذه الأمراض هشاشة النموذج الاقتصادي لوسائل الاعلام التونسية، عمومية كانت أو خاصة، ورقية أو الكترونية أو مؤسسات سمعي بصري. وكان يفترض أن تراجع المؤسسات الإعلامية، منذ وقت طويل، النموذج الاقتصادي الذي تعتمده، وهو في الغالب أبعد ما يكون عن الإدارة العلمية وعن الحوكمة والشفافية، وكل ما من شأنه أن يضمن ديمومتها كمؤسسة اقتصادية.

مناعة القطيع

مباشرة بعد اندلاع ازمة كورونا اتخذت الدولة التونسية مجموعة من الإجراءات لفائدة المواطنين المتضررين من الازمة وكذلك لفائدة المؤسسات الاقتصادية، وفي حزمة الإجراءات التي أعلن عنها، استثنى الفخفاخ وسائل الاعلام والصحفيين. وطبّق على قطاع الصحافة مبدأ مناعة القطيع، أي لتترك هذه المؤسسات تواجه مصيرها لينطبق عليها قانون البقاء “للأقوى”. وقد كانت أولى ضحايا هذه السياسة الصحافة الورقية ومآت الصحفيين والعاملين بمختلف وسائل الاعلام الذين تم تسريحهم بتعلّة الأزمة. ولكن مبدأ مناعة القطيع لن يبقي مع نهاية الأزمة على الأصلح، أو الأكثر جودة واكثر احتراما للجمهور، وإنما قد ينقل الاعلام إلى مشهد أحادي ولكن بوجهين: مؤسسات عمومية تحت سيطرة السلطة التنفيذية وفي خدمتها، واعلام اللوبيات والمافيا، نجهل تمويله وادارته ومن يتحكم فيه إلى حين إجراء الانتخابات، حيث يظهر “الممول” لخدمة حملاته الانتخابية. والدليل على ذلك أن من بدأ بدفع فاتورة سياسة مناعة القطيع هي الصحف الورقية والاذاعات الجمعياتية والجهوية، باختصار المؤسسات ذات التمويل المحدود، والصغرى التي ساهمت في تنوع المشهد الإعلامي.

الاعلام مرفق عام

ولكن لسائل ان يسأل ما الذي يجبر المجموعة الوطنية على ضخ أموال دافعي الضرائب لقطاع جزء منه مورّط في الفساد وفي التضليل وخدمة أجندات أطراف سياسية أو مالية؟ وهل نحن مجبرون على بثّ الروح في بعض المؤسسات التي كانت في ما مضى بوقا للاستبداد وكان يفترض أن ترحل مع رحيل النظام السابق، وتواصل الان في بث مضامين رديئة ومعادية للثقافة الديمقراطية؟

المشكلة أنّه وفي غياب رؤية وطنية لدور وسائل الاعلام المختلفة، عمومية او خاصة، والتزامها بمبدأ الخدمة العامة، لا يمكن أن ننتج مشهدا مغايرا وإن تغيرت الأسماء والعناوين. والنتيجة الطبيعية لسياسة مناعة القطيع هو القضاء على التعددية الكمية والنوعية للاعلام، والذهاب الى مشهد أحادي بوجهين، السلطة التنفيذية من جهة، وبارونات الفساد من جهة أخرى.

في الأنظمة الديمقراطية يعتبر قطاع الاعلام مسدي خدمة عمومية مثل باقي القطاعات الحيوية، مثل الصحة والأمن. وسائل الإعلام بهذا المعنى هي من تتيح الفضاء ذو المصداقية لممارسة النقاش العام، النقاش السياسي والمدني والثقافي، فضلا عن دورها في الإخبار والتثقيف والترفيه. وهي من تمكن المواطنين من النفاذ الى المعلومة والمساهمة في الشأن العام وفي مناقشة السياسات، وإبداء الرأي، كما تمكّن السياسيين والفاعلين في المجتمع من النفاذ الى الجمهور لعرض أفكارهم ومشاريعهم السياسية. والدور الأساسي لوسائل الاعلام في مجتمع ديمقراطي هي مسائلة بقية السلط، التنفيذية والتشريعية والقضائية، لمنع انحرافها أو تغوّلها.

إذن المطلوب ليس إعادة اختراع العجلة، وإنما سياسة عمومية للإعلام لا غنى فيها عن تدخل الدولة ودعمها، وفق شروط واضحة وشفافة، تلتزم من خلالها الدولة بتوفير البيئة التشريعية والمادية لاستمرارية وسائل الاعلام بعيدا عن الضغوطات مهما كان مصدرها، وتلتزم من خلالها وسائل الاعلام بصحافة الجودة وأخلاقيات المهنة الصحفية وخدمة الجمهور في مناخ ديمقراطي. عدا ذلك فهو إطلاق لرصاصة الرحمة وبالتالي العودة بالإعلام إلى زمن الماضي البغیض.