أصدرت كلّ من وزارتَي الصحّة والصناعة والمؤسسات الصّغرى والمتوسّطة بلاغا مشتركا بتاريخ 11 أفريل 2020 تُعلمان فيه عن ”الترخيص للمُصنّعين والحرفيين في مجال النسيج والحياكة لتصنيع كمامات واقية معدّة للاستعمال غير الطبّي […] طبقا لمقتضيات كراس الشروط المُعدّ للغرض“. وقد تمّت المصادقة على كراس الشروط بتاريخ 11 أفريل 2020 وتحديد أسعار الكمّامات بـ1900 ملّيم دون اعتبار الأداء على القيمة المضافة بحضور عدد من الأطراف المتدخّلة في قطاع النسيج والأقمشة مثل المركز الفنّي للنسيج والجامعة التونسيّة للنسيج والملابس إلى جانب عدد من الصّناعيين بالتنسيق مع مصالح وزارة الصناعة ووزارة الصحّة. وقد دعا مجلس وزاري مضيّق انعقد بتاريخ 8 أفريل 2020 إلى ”تكوين فريق عمل على مستوى الوزارة يضمّ ممثلين عن مختلف الوزارات المتدخلة والديوانة وذلك لتصنيع الكمامات الواقية“ وفق بلاغ وزارة الصناعة بتاريخ 13 أفريل 2020. ثمّ أصدرت وزارة الصناعة بلاغا بتاريخ 14 أفريل 2020 تتحدّث فيه عن ”إحداث لجنة متكوّنة من المصالح المختصة بوزارة الصحة، والمصالح المختصة بوزارة الصناعة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة، مدعمة بالاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية“ للنّظر في المعايير التي سيتمّ اعتمادها لإنتاج الكمامات وفقا ”لما تم اعتماده على المستوى الدولي من معايير الجودة والسلامة الصحية“.

”خطأ اتصالي“ أم صفقة مشبوهة؟

ولدى الاستماع إليه داخل لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة في البرلمان بتاريخ 21 أفريل 2020، أفاد عبد المنعم السعداوي مدير عامّ المصالح المشتركة بوزارة الصناعة أنّ قرار إنتاج الكمامات ليس قرارا وزاريّا وإنّما هو قرار صادر عن اللّجنة الوطنية الدائمة لمكافحة فيروس كورونا الّتي كلفت وزارتي الصحة والصناعة بتدارس إمكانية إنتاج 30 مليون كمامة. وأضاف أنّ الأطراف المتدخّلة في هذا القطاع، وهي كلّ من وزارتي الصحة والصناعة والصيدلية المركزيّة وجامعة النسيج والملابس والمركز الفني للنسيج قد اجتمعت في مقرّ وزارة الصحة بتاريخ 4 أفريل 2020 وأحدثت فريق عمل متكوّن من 11 متدخّلا من الهياكل الفنية بوزارتي الصناعة والصحة برئاسة المدير العام للمخبر الوطني لرقابة الأدوية.

وفي الأثناء، قرّرت وزارة التجارة فتح أسواق الجملة، ممّا يُحتّم الإسراع في إنتاج مليونَيْ كمّامة واقية لحماية التُّجّار وروّاد الأسواق. وانعقد اجتماع في الغرض بمقرّ وزارة التجارة مع وزير الشؤون الاجتماعية وممثلين عن الديوانة والحماية المدنية والهياكل الفنية لوزارة الصناعة للتباحث حول الشركات والصناعيين الّذين تتوفّر فيهم شروط إنتاج هذه الكمامات. وأكّد مدير عامّ المصالح المشتركة بوزارة الصناعة أنّ عديد الشركات المختصّة في النّسيج والأقمشة أبدت استعدادها للشروع في تصنيع الكمّامات الواقية بعديد المصانع بالقيروان ومطماطة والمنستير. وقد تمّ تكوين فريق عمل يضمّ الوزارات المتدخّلة إلى جانب الديوانة لمراقبة قنوات تسويق الكمّامات داخل الأسواق المحلّية وعدم توجيهها إلى التصدير.

وذكر عبد الجليل السعداوي أنّ عددا من الشّركات والصناعيين اعتذروا عن تصنيع الكمّامات نظرا لعدم توفّر الموادّ الأولية أو لعدم تطابق خدماتهم مع المواصفات المطلوبة لصنع الكمامات، في حين أنّ شركة النسيج الّتي تعود إلى نائب الشعب جلال الزياتي كانت مستعدّة لذلك وتمّ الاتصال بها للغرض. وأكّد وزير الصناعة أنّه ”لم يكن على علم بأنّ صاحب المؤسسة هو نائب شعب“.

وزير الصناعة صالح بن يوسف

فالمؤكّد أنّ تصنيع مليون كمّامة منفصل عن صفقة الثلاثين مليون كمّامة، من حيث الكميّة وشروط التفاوض وإجراءات التعاقد. ولكنّ الإشكال طُرح في مستوى الشفافية من ناحية، وتضارب المصالح بين صفة النائب ورجل الأعمال مُمثَّلة في جلال الزياتي من ناحية أخرى.

نائب الشعب وتضارب المصالح: موقف البرلمان والأحزاب

جلال الزياتي هو نائب عن كتلة الإصلاح الوطني مترشّح عن قائمة حزب البديل، وهو مدير عام مجموعة Epau-Nova من سنة 1992 الى 2008 ووكيل شركة Ortho Group المختصّة في الموادّ الطبيّة منذ سنة 2008 إلى اليوم. وهو عضو في لجنة الصّناعة ومقرّر مساعد بلجنة الإصلاح الإداري بالبرلمان منذ 13 نوفمبر 2019. في هذا الإطار، وضّح رئيس لجنة الإصلاح الإداري في نقطة إعلامية أنّ اللجنة لم تكن على علم بموضوع صفقة المليونَي كمّامة وذكر أنّ ”الزميل اتّصل بنا كتابيّا وقدّم اعتذاره لعدم إعلامه بهذا النشاط ونيّته في إبرام الصفقة مع الطرف الحكومي“. وأكّد في سياق آخر أنّ اللجنة قد توجّهت بـ15 سؤالا كتابيّا إلى وزارة الصناعة لطلب توضيحات حول تفاصيل العرض الّذي تقدّمت به الوزارة إلى نائب الشعب.

النقطة الإعلامية للجنة الإصلاح الإداري

ومن ناحية أخرى، وخلال اجتماعها بتاريخ 21 أفريل 2020، تداولت لجنة الصناعة برئاسة عبير موسي إمكانية سحب عضويّة النائب جلال الزياتي من اللجنة باعتبار شبهة تضارب المصالح المتعلّقة به في علاقة بصفقة المليوني كمّامة. كما تولّت كتلة الحزب الدّستوري الحرّ توجيه طلب فتح تحقيق في الغرض إلى مكتب المجلس في بيان نشرته على صفحتها على مواقع التواصل الاجتماعي بتاريخ 17 أفريل 2020  حول ”إسناد طلبية المليوني كمامة لمؤسسة على ملك أحد أعضاء مجلس نواب الشعب وتفاوضه شخصيا – وفق تصريحاته بالمنابر الإعلامية – مع وزير الصناعة بخصوص شروط وثمن الصفقة رغم تحجير النظام الداخلي تعاقد النواب لغاية التجارة مع الدولة“. ولكنّ طلب الكتلة قوبل بالرفض نظرا لأنّ التحقيق لا يدخل في اختصاص مكتب المجلس، حيث يُتيح النّظام الداخلي بالبرلمان إحداث لجان تحقيق على معنى فصلَيْه 97 و98.

كما ندّد ائتلاف الكرامة في بيان له بتاريخ 19 أفريل 2020 ما سمّاه ”فضيحة صفقة تصنيع الكمامات“، معتبرًا إيّاها ”صفقة مخجلة ومدوّية“. وطالب بإقالة وزير الصناعة و”رفع الحصانة عن كلّ نائب تتعلّق به قضايا فساد“.

من جهتها أدانت كتلة الإصلاح الوطني التي ينتمي إليها جلال الزياتي في بيان لها صدر بتاريخ 20 أفريل 2020 ”التشويه“ الّذي يتعرض إليه النائب، نافية ”وجود أي علاقة تعاقديّة تربط بين النائب والدولة بل مجرّد اقتراح من الحكومة واستشارة لا ترتقي إلى درجة التعاقد“، وهو ما أكّده نائب رئيس لجنة الإصلاح الإداري في البرلمان، حيث أكّد وجود خطإ اتصالي لا يرتقي إلى شبهة الفساد.

النائب جلال الزياتي

تضارب المصالح وإبرام الصفقات من الناحية القانونية

ينصّ النظام الداخلي للبرلمان في فصله 25 على ما يلي: ”يُحجَّر على أعضاء مجلس نواب الشعب التعاقد بغاية التجارة مع الدّولة أو الجماعات العموميّة أو المؤسسات أو المنشآت العمومية“. كما يمنع الفصل على نوّاب الشعب الجمع بين عضوية البرلمان ووظائف أخرى منصوص عليها بالفصل 35 من القانون الانتخابي، من ذلك ”مثلا خطة تسيير بالمؤسسات والمنشآت العمومية أو الشركات ذات المساهمات العمومية المباشرة أو غير المباشرة“.

كما ينصّ الأمر الحكومي عدد 1039 المؤرّخ في 13 مارس 2014 المتعلق بتنظيم الصفقات العمومية في فصله 41 على ضرورة إبرام الصفقات بعد الدّعوة إلى المنافسة عن طريق طلبات العروض. إلا أنّه أتاح استثنائيّا إبرام صفقات عمومية عبر آليّة التفاوض المباشر، على أن تخضع هذه العمليّة إلى جملة من الشروط، حصرها الفصل 41 في فقرته الثانية على ما يلي:

على المشتري العمومي أن يبرر كتابيا الطبيعة الخصوصية للطلب الذي أدى إلى اعتماد إجراءات استثنائية لإبرام الصفقة. ولا تحول هذه الاستثناءات دون احترام المبادئ الأساسية للصفقات العمومية.

وتخضع الصفقات إلى 4 مبادئ أساسيّة وفق الفصل 6 من الأمر المتعلق بإبرام الصفقات العمومية: ”المنافسة، حرية المشاركة في الطلب العمومي، المساواة أمام الطلب العمومي، شفافية الإجراءات ونزاهتها.“ والمُلاحَظ أنّ هذه العناصر لم تكن متوفّرة في الطلب الّذي عُرِض من وزارة الصناعة على نائب الشعب.

وينصّ القانون عدد 46 لسنة 2018 المتعلق بالتصريح بالمكاسب والمصالح وبمكافحة الإثراء غير المشروع على جملة من المبادئ تهمّ شفافية الحياة العامّة والحياة السياسيّة على وجه الخصوص. حيث ينصّ الفصل 9 منه على ضرورة إيداع التصاريح بالمكاسب والمصالح لدى الحكومة والبرلمان وممثل السلطة المحليّة. كما يُحجِّر الفصل 20 من هذا القانون على نواب الشعب أثناء ”ممارسة مهامهم التعاقد بغاية التجارة مع الدولة أو الجماعات المحلية أو المؤسّسات والمنشآت العمومية“. ويمنع الفصل 24 نائب الشعب من المشاركة في التصويت بخصوص ”موضوع لهم فيه مصلحة شخصية مالية مباشرة“. كما ينصّ الدستور في فصله 15 على تسيير الإدارة العمومية وفقا لقواعد الشفافيّة والنزاهة والنّجاعة والمساءلة.