أكدت كل المحطات الانتخابية التي عاشتها تونس منذ الثورة وجود فرق شاسع بين الوعود الانتخابية أثناء الحملة وبين التطبيق. وبعيدا عن المنطق الذي يقول إن “الوعود الانتخابية لا تُلزم إلا من يصدقها”، فإن أخطر ما يمكن أن يضرب العملية الانتخابية والتجربة الديمقراطية هو عدم الإيفاء بالوعود وما سينجر عنه من عزوف للناخبين عن التوجه إلى صناديق الاقتراع، وذلك بسبب اعتقاد ترسخ شيئا فشيئا مفاده أن أصواتهم لن تُغير شيئا وأن الأحزاب، كل الأحزاب، تعدهم ثم تخذلهم.

مسيرة التراجع عن الوعود

الانتخابات الأخيرة لم تشذ عن هذه القاعدة، وأبرز مثال على ذلك هو الصراع الشرس بين حركة النهضة وحزب قلب تونس والذي غطى على بقية الحملات الانتخابية حيث اشتد الاستقطاب الثنائي بين الحزبين على أساس أن النهضة لن تتحالف مع حزب الفساد ورئيسه نبيل القروي، في حين بنى القروي حملته على أساس أنه منقذ الحداثة ومكاسب المرأة ضد المد الإخواني الذي تمثله النهضة. طبعا كل هذا جاء في صيغة “لن الزمخشرية” وأغلظ الإيمان بأنه لا مجال للتحالف أو التقارب بين هذين الحزبين مهما كانت الظروف وحتى لو كلف ذلك إعادة الانتخابات.

منذ التكليف الأول وإلى حدود تقديم إلياس الفخفاخ حكومته لرئيس الجمهورية، أعلنت النهضة عن مواقف متعددة ومتناقضة في مختلف مراحل التشكيل، فقد اقترحت تشكيل حكومة يقودها الحبيب الجملي دون تشريك حزب قلب تونس والدستوري الحر. ثم طالبت بحكومة كفاءات وطنية مستقلة بعد تعثر المشاورات بينها وبين أحزاب التيار وتحيا تونس وحركة الشعب، وسقطت حكومة الكفاءات الوطنية في امتحان نيل الثقة أمام مجلس نواب الشعب رغم أنها ضمت داخلها شخصيات محسوبة على حركة النهضة وعلى حزب قلب تونس.

بعد ذلك طالبت المكلف بتشكيل الحكومة إلياس الفخفاخ بتشريك حزب قلب تونس في المشاورات، وهي التي بنت حملتها الانتخابية التشريعية والرئاسية ضد هذا الحزب تحديدا باعتباره رمزا للفساد، بل واعتبرت أن وجودها في الحكومة متربط أساسا بوجود حزب قلب تونس. وساهم رئيسها راشد الغنوشي في تقريب وجهات النظر بين المكلف بتشكيل الحكومة ورئيس قلب تونس واستضافهما في بيته رغم رفض الفخفاخ لأي مشاركة لحزب القروي في حكومته المرتقبة.

وبعد مناورات سياسية ودستورية خاضتها النهضة واستعملت فيها جميع الأساليب أهمها التصريحات الهجومية من قبل قياداتها والتي استهدفت أحزابا مشاركة في المشاورات مثل التيار الديمقراطي وحركة الشعب وأعلنت خلالها عدم مشاركتها في الحكومة، عادت النهضة إلى المشاورات وفاوضت على توسيع مشاركتها في الحكومة وطلبت حقائب وزارية بعينها. ولما تحصلت النهضة على ما تريده في الساعات الأخيرة من المهلة الدستورية لتكوين الحكومة، صرح رئيس مجلس الشورى عبد الكريم الهاروني بأن “مشاركة حزب قلب تونس في الحكومة لم يكن شرطا للنهضة مقابل عودتها إلى المشاورات”.

العبرة بالنتيجة مهما كانت الوسائل

لسنا هنا بصدد العودة على إستراتيجية النهضة أو أي حزب في مفاوضات تشكيل الحكومة، بل تهمنا مسألة واحدة وهي الإيفاء بالوعود والتنصل منها بكل سهولة، التغيير الجذري في موقف حركة النهضة من حزب قلب تونس جاء بطريقة فجة مفاجئة ودافعت عنه النهضة بكل بساطة بالقول إن “نعم بنينا حملتنا ضد حزب قلب تونس على أساس أنه حزب فاسد وتبين أننا كنا خاطئين في ذلك” حسب تصريح للقيادي النهضوي سمير ديلو. وسبقته إلى ذلك يمينة الزغلامي بالقول إن “كل ما صرحنا به في حق حزب قلب تونس لم يكن سوى حملة انتخابية”، هكذا بكل بساطة وكأن شيئا لم يكن.

ربما من البديهي القول إن السياسة تقوم على قواعد أهمها أن “لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة” وأن “في السياسة العبرة بالنتائج” وأنها “فن إيجاد التوافقات والتسويات والمصالح المشتركة بين الخصوم”، أي أنه من حق كل الأحزاب تغيير مواقفها حسب اللحظة السياسية وهو ما تطلبه البراغماتية. لكن هذا يتطلب من الأحزاب تنسيب مواقفها حتى لا تصبح العملية الانتخابية مجرد كذب على الناخبين وما سينجر عنه من عزوف على المشاركة في الحياة السياسية والانتخابات، كيف تطلب من مواطن أن يحترم السياسية والأحزاب وهو يعرف جيدا أنها تكذب عليه من أجل الظفر بصوته ثم تهرول مسرعة نحو من كانت تتهمه بالفساد وغيرها من الاتهامات الأخرى. كيف ستواجه ناخبيك بعد أن بذلت جهدا في إقناعهم بأن قلب تونس هو الفساد ثم يجدونك تشترط وجودك في الحكومة بوجود حزب الفساد؟

ما يُعرف عن حزب النهضة هو اتقان المناورة وحسن قراءة اللحظة السياسية والمعرفة الجيدة بنقاط قوة الخصم ونقاط ضعفه، واتبعت في مسار المشاورات سياسة الدفع بالأمور إلى أقصاها أو ما يمكن توصيفه بالوصول إلى حافة الهاوية. تفاوض وتنسحب مع اقتراب انتهاء آجال المشاورات حتى يقتنع الجميع بحتمية السقوط في الهاوية أي سقوط الحكومة في امتحان الثقة أمام البرلمان، لتعود بعدها إلى المفاوضات من موقع قوة وتتحصل على مزيد من المكاسب وفي أسوأ الحالات تخرج من المفاوضات بمنطق لا غالب ولا مغلوب وهو ما حصل بالضبط مع حكومة إلياس الفخفاخ. فرغم فشلها في تغيير وزير الداخلية (المحسوب على رئيس الجمهورية) والظفر بوزارة تكنولوجيات الاتصال، إلا أنها أبعدت لبنى الجريبي من هذه الوزارة المهمة ورفعت حصتها من الحقائب الوزارية ومنحت وزيريها أنور معروف ولطفي زيتون رتبة وزير دولة، مع إمكانية قوية لتعيين عماد الحمامي في منصب وزير مستشار بالقصبة ليكون عينا لها ترصد كل ما يحدث في مركز السلطة التنفيذية.

قد لا يختلف اثنان على أنه من حق أي حزب أو فاعل سياسي تغيير موقفه من قضية ما مهما كانت اللحظة السياسية، لكن المواقف المتقلبة والتي تتغير بين ساعة وأخرى أربكت المشهد السياسي وخاصة المواطنين الذين لم يعودوا قادرين على فهم واستيعاب ما يحدث. بل لعلهم استخلصوا من كل هذا أن أصواتهم لن تغير شيئا باعتبار أن نتيجة الانتخابات ليست سوى ورقة إضافية للأحزاب لتدعيم موقفها وترسيخ مكانتها وليس فرصة لخدمة المواطنين، وأن العمل السياسي لا يهدف إلى خدمة المواطنين وتوفير ظروف عيش كريم بل لضمان مستقبل سياسي لقيادات الأحزاب، وأن الابتعاد عن النزاهة وأخلاقيات العمل السياسي سيجعلنا نعيش حالة حرب سياسية مستمرة قائمة على تبادل الشتائم وتبادل التهم ثم تبادل المصالح والغنائم وتُبعدنا تماما عن أهداف الثورة والبناء الديمقراطي السليم.