خلال خطاب التكليف حدد الفخفاخ التوجهات العامة لحكومته والشركاء المحتملين. والخيار هو حكومة بتشكيلة مصغرة تمثل مزيج من قيادات الاحزاب والمستقلين من الطيف السياسي الذي ساند الرئيس قيس سعيّد في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية.

حكومة بأي لون؟

ألمح الفخفاخ في الوثيقة التعاقدية التي قدّمها للأحزاب أن حكومته ستكون بتوجّه اجتماعي ديمقراطي، حيث تلعب الدولة دورها الأساسي في الحد من الفوارق الاجتماعية وفي رعاية الطاقة الشرائية للمواطنين ودعم الخدمات العامة، وحضورها القوي في القطاعات الاستراتيجية على غرار الصحة والتعليم وحماية المؤسسات العمومية، فضلا عن مكافحة الفساد. والتزم الفخفاخ وفق الوثيقة التعاقدية المقترحة بتحقيق أولويات عاجلة على رأسها تحسين القدرة الشرائية للمواطنين والتحكم في الأسعار ومحاربة الاحتكار والتهريب بالإضافة إلى إنعاش الإقتصاد الوطني وتفعيل آليات مكافحة الفساد لتحقيق ما أسماه : “إرساء شروط الدولة العادلة القوية، دولة تنصف جهاتها الأضعف وتنهي عقود الفقر والتهميش”. كما جاء في وثيقة التعاقد المقترحة التزام حكومة الفخفاخ على المدى المتوسط بإطلاق سبعة مشاريع وطنية كبرى تتمثل أهمّها في “تنفيذ برنامج هيكلي لإصلاح الدولة واستكمال تكريس اللامركزية لملائمتها مع الدستور إصلاح منظومة التربية والتعليم العمومي وإصلاح الصحة العمومية”، إضافة إلى الإصلاح الجبائي لتحقيق العدالة الجبائية.

المتأمّل بتمعّن في ملامح حكومة الفخفاخ يلاحظ بوضوح توليفة بين أطروحات الرئيس قيس سعيّد وحزبي التيار الديمقراطي وحركة الشعب وبدرجة أقل حزب تحيا تونس. وهو ائتلاف لا يتجاوز بحساب عدد النواب 52 نائبا، وهو تحالف غير قادر على فرض الخيارات والسياسات المعلنة سواء على مستوى صياغة التشريعات اوعلى مستوى اقتراح الميزانية واولوياتها.

واقع عكس نوايا الفخفاخ

في مقابل نوايا الفخفاخ بحكومة ذات توجّه اجتماعي ديمقراطي  يبرز بوضوح التوجه الليبرالي، لطيف واسع داخل مجلس النواب، الذي يؤمن بالحد الادنى من تدخّل الدولة في الجهاز الاقتصادي-الاجتماعي، والتفويت في المؤسسات العمومية كأحد سبل إنعاش المالية العمومية، وإخضاع الخدمات العامة لمنطق السوق تحت مسمّى خلق “شراكة” بين القطاع العام والخاص لتحمل اعباء الخدمات العامة.

ويتجلى ذلك بوضوح في برنامج قلب تونس خلال الحملة الانتخابية للتشريعية : “احداث ثورة اقتصادية تستند على تحرير الطاقات مع رفع كل العراقيل التي تعوق الاستثمار والقيام بتعديل جذري لمنظومة الصرف، مع العمل على ضمان الاستقرار الضريبي لبناء الثقة بين المستثمرين”، وهو تقريبا نفس توجّه حركة النهضة والمتعلق ب “مناخ أفضل للاستثمار والاستقرار الضريبي لتعبئة الموارد المالية”. هنا تبرز اولى عراقيل الحرب على الفساد، سياسة الحوكمة والشفافية وتوسيع قاعدة الجباية وجعلها أكثر عدالة في مقابل رفع كل عراقيل الاستثمار وضمان الاستقرار الضريبي.

النظام الاقتصادي القائم على الإنفتاح على السوق الأجنبية ومواصلة الخضوع للجهات المانحة وسياسة الانفتاح الاقتصادي و تبنيها المنوال تنموي ليبرالي يهدف إلى ضرب دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي واقتصارها على العمل الأمني و الدفاع. ليست حركة النهضة وقلب تونس وحدهما من يتبنّان ويمارسان فعليّا هذا التوجّه الليبرالي، والذي يتضارب مع ما أعلنه الفخفاخ في توصيف لون حكومته المستقبلية، وإنّما أيضا تشكيلات مثل ائتلاف الكرامة وحزب الرحمة ومشروع تونس وحركة آفاق وحزب البديل، بل أنّ عبير موسي وحزبها الدستوري الحر تتماهى كلّيا وتوجّه حركة النهضة وقلب تونس.

يمين ليبرالي بشقّين

نحن إزاء تشكيلتين أساسيتين، من جهة يمين ليبرالي بشقّيه المتديّن وتمثّله كل من حركة النهضة وائتلاف الكرامة وحزب الرحمة ويمين حداثي ويمثّله كل من قلب تونس والدستوري الحر إضافة الى التشكيلات السياسية الممثلة لكتلتي الإصلاح الوطني والمستقبل. ومن جهة أخرى تشكيلة الوسط الاجتماعي والذي يمثّله بشكل واضح التيار الديمقراطي وحركة الشعب، وحليفهما المفترض تحيا تونس.

نقاط الالتقاء بين التشكيلات السياسية لليمين الليبرالي لا تبرز فقط في الجانب الاجتماعي والاقتصادي، وفي دور الدولة، وإنّما أيضا في ما يتعلّق بالحقوق والحرّيات. إذ ليس من المفارقة في شيء أن تلتقي كل من حركة النهضة والحزب الدستوري الحر فيما يتعلّق بالإصلاحات المقترحة والتي جاءت في تقرير الحريات الفردية والمساواة. اذ تصرّح عبير موسي بوضوح أن حزبها “سيعمل على فضح النوايا الخفية لهذا التقرير المضلل. وأن المساواة التي تحرم المرأة من النفقة ليست مساواة مهما كان دخلها لأن من واجب الرجل الإنفاق على زوجته وهذه حقوق مكتسبة للمرأة لا تراجع عنها، وننبّه إلى تفشي ظاهرة العلاقات خارج إطار الزواج”. وهو موقف قريب ممّا عبّر عنه رئيس حزب قلب تونس نبيل القروي خلال المناظرة التلفزية.

قد يجد الفخفاخ حزاما واسعا يتجاوز بكثير 109 نائبا (العدد المطلوب لمرور حكومته) وذلك من خلال تمكين بعض الأحزاب بمقاعد وزارية، فضلا عن رفض عدد كبير من النواب المرور إلى سيناريو حل البرلمان وإعادة الانتخابات. لكن كيف سيحكم الفخفاخ بعد انتصاب حكومته ونيلها ثقة البرلمان؟ ومن سينفّذ مشروعه الاقتصادي والاجتماعي ذو المرجعية الاجتماعية الديمقراطية؟ وكيف سينفّذ مشروع الرئيس في “استكمال تكريس اللامركزية لملائمتها مع الدستور”؟

في بلد أنهكته الازمة الاقتصادية وتزايد حجم المديونية وتهدده في كل لحظة التوترات الاجتماعية في ظل تنامي المطلبية وضعف مؤسسات الدولة وارتفاع معدّلات البطالة، أغلب الظن أي حكومة ستكون رهينة الأغلبية البرلمانية والتي ستفرض شروط أي اصلاح لا سيما الاجتماعي والاقتصادي. شروط  الدولة القوية العادلة التي وعد بها الفخفاخ وحلفائه، وفي مقدّمتها حرب حقيقية على الفساد وإرساء دولة القانون التي تستند إلى سلطة قضائية قوية ومستقلة فعليا ومناخ من الحريات الفردية والعامة، ستصطدم بأغلبية جزء منها متورّط في الفساد وجزء آخر يخشى من سلطة القضاء وكلاهما لا يرى في البرلمان غير الحصانة والقدرة على الإفلات من العقاب.