رغم نفي المكلف العام بنزاعات الدولة الشاذلي الرحماني انتهاء قضيّة البنك الفرنسي التونسي، واستمرار النزاع القضائيّ، إلاّ أنّ هذا الأخير لم ينفي صدور قرار العقلة على الأصول والسندات التونسيّة في الخارج وفي فرنسا بالتحديد. هناك، في باريس، يمثّل بنك تونس الخارجي أحد أهمّ الاستثمارات العموميّة التونسيّة في القطاع المصرفيّ والتّي تمّ بعثها سنة 1977 وتصل قيمة رأس مالها حاليا ما يفوق 49 مليون أورو. هذه المؤسّسة البنكيّة التّي سُلّطت عليها الأضواء منذ 02 سبتمبر 2019، إثر قرار  لجنة التحكيم الدوليّة CIRDI، ليست سوى أحد الاستثمارات الخارجيّة للشركة التونسيّة للبنك التّي تمتلك بدورها 78.53% من رأس مال البنك الفرنسي التونسي، والتّي ستجد نفسها تدفع ثمن فتح أحد أكبر ملفّات الفساد في القطاع المالي والبنكي، وهي تترنّح منذ سنة 1992 نتيجة تنامي عجزها الماليّ وسوء التصرّف ومعالجة الأزمة التّي تمرّ بها.

بنك تونس الخارجي: تاريخ طويل من الصعوبات الماليّة

لا تنفصل المشاكل الماليّة التّي يعاني منها بنك تونس الخارجي عن واقع القطاع المصرفيّ العموميّ. فهذه المؤسّسة البنكيّة التابعة للشركة التونسيّة للبنك بنسبة مساهمة تبلغ 44.04% تعاني منذ سنوات من تراكم الخسائر الماليّة وفق ما تبيّنه تقاريرها السنويّة على موقعها الرسميّ والتّي تتوقّف عند سنة 2015. كما أن الوثيقة التّي سرّبها موقع نواة في 08 جوان 2016، والمتمثّلة في محضر اجتماع مجلس الوزراء بتاريخ 15 ديسمبر 2015 المخصّص لمناقشة وضعية البنك الفرنسي التونسي، تناولت في جانب منها استعراض الأزمة التي يعيشها بنك تونس الخارجي وخيارات الإنقاذ.

هذا الإجتماع الذّي ترأسه رئيس الحكومة الأسبق الحبيب الصيد في 15 ديسمبر 2015، بحضور عدد من مثلي الأجهزة الحكومية المالية على غرار وزير المالية سليم شاكر ووزير الاستثمار ياسين إبراهيم ومحافظ البنك المركزي الشاذلي العياري ووزير أملاك الدولة حاتم العشّي إضافة إلى عدد من كتّاب الدولة والمديرين في البنك المركزي، عكس حجم الأزمة التي يعيشها هذا المصرف العمومي الاستراتيجي. حيث يكشف محضر الجلسة الوزارية (من الصفحة 9 حتى الصفحة 20) تواصل التراجع الحاد لمؤشّرات نشاط البنك للسنة الثالثة على التوالي. إذ انحسر نشاط المصرف بالخارج، (وهو الهدف الاستراتيجي من تأسيسه)، حيث لم تتجاوز إيداعات التونسيين بالمهجر 30% من إجمالي الإيداعات التي تبلغ قيمتها الجملية 120 مليون أورو. وقد أقرّ المسئولون عن القطاع المالي أنّ بنك تونس الخارجي وصل إلى وضعيّة حرجة، لم يتمكن إثرها من الاستمرار لولا القروض الممنوحة من البنوك التونسيّة العموميّة لضمان توفير السيولة اللازمة للمعاملات. حيث تفاقمت خسائر البنك التشغيليّة نتيجة عجز الناتج البنكي الصافي عن تغطية أعباء الاستغلال. ومن جهة أخرى، كشفت التقارير الموردة في الوثيقة المذكورة انخفاض قيمة الموارد المعبّأة ب36% أي ما يناهز 43 مليون أورو في مقابل تفاقم حجم القروض المصفاة ب19 مليون أورو. وتكشف النقاشات صلب المجلس الوزاريّ أنّ الوضع الحرج لبنك تونس الخارجيّ بدأ مبكّرا، حيث بلغت خسائره سنة 1992 ما يقارب 43 مليون فرنك فرنسي، كما تم اللجوء سنة 2009 إلى الترفيع في رأس ماله ب30 مليون أورو، دون أن تفضي هذه التدخلات إلى إيقاف التدهور نظرا لاستهلاك الخسائر للمبالغ التي يتم ضخّها. لتكون نهاية هذا المسار ارتفاع الخسائر المتراكمة لبنك تونس الخارجي التي بلغت قيمتها الإجمالية لسنة 2014 نصف رأس المال المحرّر أي ما يناهز 35.5 مليون أورو.

مشاكل بنك تونس الخارجي تجاوزت اختلال التوازنات المالية، ليكشف الاجتماع أنّ الأزمة تفاقمت مع سلطات الرقابة الحذرة والإنقاذ الفرنسية، نتيجة عدة خروقات في التسيير وغياب الشفافيّة وتأخّر التصريح بالمعاملات المالية لدى المصالح الفرنسيّة المختصّة، إضافة إلى انخفاض الأموال الذاتية للبنك دون نصف رأس المال المحرّر. هذه الوضعيّة الكارثية لبنك تونس الخارجي وضعته تحت طائلة الفصل 39-L612 من المجلّة المالية والنقدية الفرنسية، حيث أصبح هذا الأخير مهدّدا بسحب رخصة النشاط، أو بصريح العبارة إيقاف نشاطه على الأراضي الفرنسية.

تعيين سياسي رغم أنف البنك المركزي

قبل أشهر من الإجتماع الوزاري المذكور، كان بنك تونس الخارجي يستقبل الرئيس المدير العام الجديد حياة كبيّر في 19 أوت 2015، عوضا عن سابقها صلاح الدين العجيمي الذّي لم يكمل سنته الأولى في منصبه على رأس هذه المؤسّسة. هذه التغييرات التّي تواترت على مستوى إدارة هذا البنك قد تبدو للوهلة الأولى في إطار البحث عن حلول لتراكم مشاكله خصوصا بعد خضوعه سنة 2013 لعمليات تدقيق من السلطات التعديلية المالية الفرنسية والتي كشفت عدة خروقات في التسيير انجرّت عنها خطية مالية ناهزت 700 ألف أورو، لكنّ الهويّة السياسيّة للوافدة الجديدة على هذه المؤسّسة المالية العموميّة وإمتعاض البنك المركزيّ من هذا الإجراء تقلب المشهد رأسا على عقب.

وقد تحصّلت نواة في 20 أكتوبر 2015، على مذكرة وجهّها البنك المركزي التونسيّ إلى وزير الماليّة بتاريخ 19 أوت 2015 معبّرا من خلالها عن رفضه التعيين الجديد. حيث استغرب البنك المركزيّ خرق الحكومة لمعايير الحوكمة الرشيدة دون التشاور مع المساهمين الكبار في البنك. كما استنكر البنك المركزيّ عزل مدير بنك تونس الخارجي السيّد صلاح الدين العجيمي بعد أقلّ من سنة على تعيينه ودون إجراء تقييم لأدائه ولطريقة تسييره والنتائج المنجزة خلال مباشرته لمهامه. وقد اشادت المذكّرة بكفاءة الرئيس المدير العام السابق وشروعه في إصلاحات عديدة على الصعيد الداخليّ المتعلّق بهيكلة الإدارة والتنظيم وعلى مستوى توطيد العلاقات مع مصالح الرقابة الفرنسيّة والحرفاء، إضافة إلى العمل على وضع خطّة إستراتيجية للنهوض بالبنك والتقليص من خسائره المتراكمة.

الوثيقة المذكورة حذّرت من الانعكاسات السلبيّة لمثل هذا القرار كإرباك المساهمين المرجعيّين ودفع السلطات الفرنسيّة إلى مزيد التشدّد إزاء حالة عدم الاستقرار وتقطّع التواصل بين الإدارة وسلطات الرقابة نتيجة التغييرات المستمرّة التي يشهدها البنك. وقد اعترض البنك المركزي على قرار تغيير المسئول الأوّل عن تسيير بنك تونس الخارجي في هذا الظرف بالذات، نظرا لخشيته من أن تُؤوّل السلطات الفرنسيّة هذه التسمية كإجراء ذو صبغة سياسيّة خصوصا وأنّ الرئيس المدير العام الجديد حياة كبيّر ليست سوى نائبة نداء تونس عن دائرة بنزرت. كما تضمّنت المذكّرة تشكيكا صريحا ومباشرا في كفاءة المديرة الجديدة مقارنة بسابقها.

رغم أنّ جميع النذر كانت واضحة ودالّة على قرب الكارثة التّي ستعصف بالبنك الفرنسي التونسي، ورغم تحذيرات تقارير الرقابة الفرنسيّة وسلسلة التقارير الماليّة السنويّة لبنك تونس الخارجي التّي كانت تزداد سوءا سنة تلو الأخرى، إلاّ أنّ التعاطي الرسميّ مع هذين الملفيّن المترابطين، لم يكن بمستوى المخاطر المحتملة، لتكون النتيجة اليوم، إفلاسا غير معلن للبنك الفرنسي التونسي وقرارا بالعقلة على الذراع المالية الخارجيّة للشركة التونسيّة للبنك ومزيدا من إهدار المال العموميّ ضمن ممارسات تتجاوز سوء التصرّف لترتقي لشبهات فساد.