في مناخ ضبابي وحالة من الاحتقان المكتوم، انعقد اجتماع مجلس الشورى في 03 أوت 2019، في الحمامات، للمصادقة على مرشّح حركة النهضة للانتخابات الرئاسيّة أو الاتفاق على دعم إسم من خارجها. موقف الحركة الصارم بأنّها لن تكون محايدة خلال هذا الاستحقاق الانتخابيّ، فتح الباب أمام عشرات التكهّنات، خصوصا مع أخبار من الكواليس تتحدّث عن تصاعد الاختلافات حول الأسماء المطروحة. ليكون القرار ترشيح نائب رئيس الحركة عبد الفتّاح مورو ليخوض الإنتخابات بإسم الحركة في 06 أوت 2019. إختيار سلّط الضوء على الشيخ والمحامي المخضرم وأحد مؤسّسي النهضة الذّي انتقل بسرعة من دائرة المغضوب عليهم إلى مرشّحها لأعلى منصب في الدولة.

من التأسيس إلى تعليق العضوية: “أفضل من في النهضة”… أبعدُهم عنها

جوابا على سؤال صحفيّ حول دوافع اختيار الشيخ عبد الفتّاح مورو ليكون مرشّح النهضة لانتخابات الرئاسيّة القادمة، أجاب رئيس الحركة راشد الغنّوشي بأنّ “النهضة أهدت للشعب التونسيّ أحسن من عندها”. مجاملة يكرّرها هذا الأخير كلّما سئل عن رفيق دربه مورو مخفيا فصولا طويلة تمتد على عقود من الخلافات وتباين وجهات النظر والجفاء خلال مراحل مختلفة من تاريخ البلاد ومنذ فكرة تأسيس حركة الإتجاه الإسلاميّ بعد لقاء الشيخين في جامع الزيتونة سنة 1968. قبل هذا اللقاء، كان مورو يدور في فلك الفكر الإسلاميّ دون إطار تنظيمي واضح، مكتفيا بأنشطة فردية تتمحور حول الدروس الدينيّة والدعوة من بداية الستينات، لتكون سنة 1968 بداية تبلور مشروع هيكلة حركة إسلاميّة منظّمة رفقة راشد الغنوشي المدرّس العائد من الشرق متشبّعا بأدبيات الإخوان المسلمين ليعمل الرجلان في سريّة لتأسيس حركتهما الطموحة وسط مضايقات أمنيّة معدودة خصوصا وأنّ هذا التيّار الناشئ لم يكن بعد قد ناصب نظام بورقيبة العداء. لقاء المدرّس والقاضي، نتج عنه ولادة حركة الإتجاه الإسلاميّ في 06 جوان 1981 ليتولّى أمانتها العامّة عبد الفتّاح مورو الذّي كان قد استقال من سلك القضاء ليواصل عمله كمحام منذ سنة 1977. شهر فقط كان كافيا ليشنّ النظام التونسيّ آنذاك حملة اعتقالات واسعة في صفوف هذه الحركة وعلى رأسهم أمينها العام عبد الفتّاح مورو الذّي تمّت محاكمته على وجه السرعة لينال 10 سنوات سجنا فيما قضت نفس المحكمة بحبس راشد الغنّوشي 11 سنة.

تمرّ ثلاث سنوات ليخرج مورو ورفاقه من السجن بعفو خاص من الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة ووسط مناخ من التقارب مع حكومة محمد المزالي، إلاّ أنّه وبعد تجربة السجن، تراجع دوره في الحركة لتعود الزعامة لراشد الغنوشي وصالح كركر. وسط صعود أسماء جديدة على غرار حمادي الجبالي والصادق شورو، ومع تواصل التضييقات الأمنيّة على عبد الفتاح مورو، غادر هذا الأخير البلاد في جوان 1986 طالبا اللجوء في فرنسا أوّلا ومن ثمّ ألمانيا، لكن وأمام مطلبه هذا لم يجد سوى المملكة العربيّة السعوديّة التّي استقبلته ومنحته الإقامة وجواز سفر سعودي، مقابل الإمتناع عن أي نشاط سياسيّ بحسب شهادته في برنامج شاهد على العصر على قناة الجزيرة. من هناك، كان مورو يراقب المحرقة التّي تتعرّض إليها حركته بعد وصول رشيد صفر إلى الوزارة الأولى، وتصاعد الصدام مع النظام التونسيّ خصوصا في سبتمبر 1987، إثر حملة اعتقالات طالت الآلاف والحكم على راشد الغنّوشي وعشرات من القيادات بالسجن المؤبّد.

يُزاح بورقيبة في 07 نوفمبر 1987 على يد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، الذّي يبادر إلى تلطيف الأجواء في الشهور الأولى مع أشرس معارضيه، عبر إطلاق سراح المعتقلين المنتمين إلى الحركة ومن ثمّ إطلاق سراح راشد الغنّوشي في 14 ماي 1988. أمّا عبد الفتّاح مورو، فيفاجئ بحسب شهادته المتلفزة باتصال من بن علي في أوت 1988، طالبا منه العودة، وهو ما تمّ. لكنّ شهر العسل لم يدم طويلا ليتجدّد الصدام بين النهضة والنظام الجديد بداية من سنة 1991. هذه المرّة، ينجح راشد الغنّوشي في الخروج من تونس إلى الجزائر خلسة، ليعلَق مورو داخل البلاد بعد سحب جواز سفره. أمام موجة القمع الجديدة، والحكم عليه بسنتين سجنا سنة 1991. إستسلم هذا الأخير ليعلن تعليق عضويته في حركة النهضة وإيقاف كلّ أنشطته السياسيّة في تونس سنة 1992.

مورو مرشّحا للرئاسة: واجهة منمّقة والقفز إلى مراكب النجاة

بعد 19 سنة، يعود راشد الغنّوشي إلى تونس، بعد سقوط نظام بن عليّ، غير أنّ رفيق البدايات عبد الفتاح مورو، الذّي آثر الاستكانة في مواجهة الآلة القمعيّة للنظام السابق، لم يكن في دائرة المُرحبّين بهم. جفاء ترجمه هذا الأخير في حواره مع جريدة المغرب في 16 فيفري 2012، حين استعمل كلمة “بهذلوني” لتوصيف تعامل أبناء حزبه الأمّ معه بعد وصولهم إلى السلطة. مشاهد أعطت الإنطباع لوهلة أنّ أحد أهمّ مؤسّسي حركة النهضة قد غادرها إلى الأبد وهو يخوض انتخابات المجلس الوطني التأسيسي منفردا وبقائمة مستقلّة لم تسعفه في نيل مقعد نيابيّ. يستمرّ مورو مُبعدا ضمن حلقة المغضوب عليهم وهو يغيب عن أي منصب رسمي في حكومة حمّادي الجبالي إلى حدود 12 جويلية 2012، تاريخ انعقاد المؤتمر العام التاسع لحركة النهضة أين عاد إلى صفوفها من جديد عضوا في مجلس الشورى ونائبا لرئيسها راشد الغنّوشي. منذ ذلك التاريخ إلى حدود اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، لم يكن لمورو بعد موقع مميّز على الصعيد الداخلي صلب حركة النهضة أو حتى على مستوى الحضور الإعلاميّ، بل اختار مؤقّتا الحياد في الصراع الذّي بدأ يرتفع ضجيجه حول الأزمة في منظومة رئاسة الحركة مع ظهور جناح صلب حركة النهضة بقيادة عبد الحميد الجلاصي وعبد اللطيف المكي والذي بات يطالب بأن يكون المكتب التنفيذي للحركة وباقي المؤسسات منتخبة وغير معينة من قبل راشد الغنوشي. فخلال تلك الفترة، كان يحاول إثبات جدارته بالعودة عبر مجاراة “صقور النهضة” وقيادييها الذّين قفزوا إلى الحكم بعد انتخابات أكتوبر 2011. أبرز مظاهر مسايرة تصاعد خطاب التمكين واستعراض العضلات، تمثّل في اللقاء الشهير بين مورو والداعية المصري وجدي غنيم، حيث كان نائب رئيس حركة النهضة يشرح لغنيم صعوبة استتباب الأمر للحركة الإسلاميّة في تونس بسبب عدم تمكّنهم من السيطرة على جميع مفاصل الدولة، وخصوصا الشرطة والجيش. داعيا نظيره الداعية المصري إلى المحافظة على وحدة الصفّ الإسلاميّ ومواصلة المهادنة وسياسة القضم التّي اتّبعها “الطاغية” بورقيبة بحسب تعبيره، قبل أن ينقلب عليه لاحقا مع تغيّر الظروف.

شخصيّة الشيخ عبد الفتّاح مورو الجانحة للمهادنة وتجنّب الصدام ومسايرة الطرف الأقوى سرعان ما صبغت مواقفه اللاحقة بعد وصوله إلى مجلس نوّاب الشعب نهاية سنة 2014، ليتولّى نيابة رئيس البرلمان. فتلك المرحلة التّي تزامنت مع تقهقر تيّار “الصقور” صلب الحركة واعتزام الشيخين الغنوشي والسبسي التحالف ضمن ائتلاف حاكم بعد فوز حزب نداء تونس بأغلبية برلمانية ورئاسة الجمهورية، أفسحت المجال لمورو ليعرض نفسه كنموذج “للإسلام التونسي” المعتدل وصوت التسامح والحكمة والاعتدال كمحاولة لترميم صورة حركته الأمّ التّي اهتزت بعد الإغتيالات وموجة العمليات الإرهابيّة منذ سنة 2013. دور أتقنه هذا الأخير بلباسه التقليديّ الذّي اعتاد ارتداءه منذ ستينات القرن الماضي وقدرته على الخطابة والمناورة التّي شهد بها رئيسه في الحزب راشد الغنّوشي. رهان مورو على مسار التوافق وعلى ضرورة “تحديث” صورة حزبه وفصل الدعويّ عن السياسيّ كان اختيارا ناجحا ترجمه المؤتمر العام العاشر للحركة سنة 2016 الذّي انتصر لهذا الخيار. أمّا صلب هياكل النهضة، وبعد أن نأى بنفسه خلال السنة الأولى من عودته عن الأصوات المتمرّدة على السلطة المطلقة للزعيم التاريخي للحزب، إختار في نهاية المطاف أن يتدخّل مناصرا الشقّ الداعي لدمقرطة الحركة والتفكير في مرحلة ما بعد الغنّوشي والتّي ظلّ يتزعمها عبد اللطيف المكي. انحياز تجلّى في تصريحاته المتتالية منذ سنة 2016 الرافضة لإمكانية ترشيح رئيس الحركة لمنصب رئاسة الجمهوريّة وعدم قدرته على حلّ مشاكل البلاد إضافة إلى إصراره على حفظ مسافة من شريكه في تأسيس الحركة عبر التأكيد على وجود خلافات عديدة بينه وبين هذا الأخير حول أكثر من ملّف. موقف ظلّ يردّده حتّى الأيّام الأخيرة قبل ترشيح النهضة له، بتزكية مباشرة من الغنوشي لخوض السباق نحو قرطاج.

هذا المنعرج التاريخيّ في تكتيكات حركة النهضة عبر ترشيح أحد قياديّيها للانتخابات الرئاسيّة، يطرح عديد التساؤلات حول جدّية راشد الغنوشي في المراهنة على منصب رئاسة الجمهوريّة “بالتائب” حديثا والمنقسمة حوله قواعد النهضة قبل عموم التونسيّين. فزعيم حركة النهضة الذّي انفضّ من حوله المؤسّسون الأوائل طواعية أو إكراها أو بعد أن غيبهم الموت على غرار منصف بن سالم وبن عيسى الدمني وصالح كركر، لم يبق له من الحرس القديم سوى مورو الذّي لم يجرؤ رغم مشاكساته أن يخرج من ظلّ رفيق دربه كما يحلو له توصيفه، والذّي أتقن طيلة العقود الماضية الإفلات من معارضيه وترضية مناصريه والرقص في جميع الحلبات.