على الأقل، الجدران مازلت تحمل ذاكرة الثورة، منزل بوزيان. صورة لكالوم فرانسيس هوغ

مساء الاثنين 3 ديسمبر الجاري، “عودة الهدوء بعد ليلة ساخنة”، هكذا وصفت جوهرة اف ام ما حدث. شمس اف ام أيضا تحدّثت عن حرق مركز الحرس وسيارة تابعة له. ماذا يحدث في منزل بوزيان؟ ولماذا انطفئ كلّ شيء بين ليلة وضُحاها دون أية متابعة تُذكرُ؟ الطريق إلى منزل بوزيان مرورا عبر قرية “الخرشف” كان صعبا بسبب ضيق الاسفلت معظم الوقت. كان الهواء جافّا والشّمس حارقة رغم أننا في ديسمبر. زهور أشجار اللّوز لا تزال نظرة. منزل بوزيان، “كمّاشة” بين الجبال التي تحيط بها من كلّ ناحية.

بداية الاحتقان: القائمة الشّبح

أنيس بن عمر، معتمد منزل بوزيان هو أحد أقدم “شباب حركة النهضة”. استقال منها في فيفري 2017، على الأقل على الورق. في البداية، كان الاعتصام. في سنة 2016، اعتصم مجموعة من الشباب مطالبين بالتشغيل. تحوّل الاعتصام إلى اضراب جوع ثمّ إلى اضراب جوع وحشي، فالتزم عدد من نوّاب ولاية سيدي بوزيد بإيصال صوت المضربين وتمّ تقديم قائمة من 64 اسما ليتمّ تشغيلهم باتفاق مع وزارة التربية وذلك حسب أقدميّة تخرّجهم. السيّد معتمد منزل بوزيان، لم يكن راضيا عن هذه القائمة حسب عبد الحليم حمدي عضو التنسيقية الوطنية للحركات الاجتماعية، باعتبار أنها تحمل الكثير من الأسماء القريبة من الأحزاب اليسارية. فعمد إلى تكوين قائمة بديلة تحمل 81 اسما ودعا إلى دعمها وتشغيلها رغم أن القائمة الأولى ضربت أشواطا كبرى في السعي نحو الحلّ. القائمة الثانية، التي عطّلت الأولى، لا أحد يعلم فحواها و “ليست موجودة أصلا” كما يقول كاتب عام الاتحاد المحلي للشغل بمنزل بوزيان فتحي العباسي، الطرف الرئيسي في المفاوضات حول هذه المسألة. بعد سنتين من الاعتصام، لم يقع التوصل إلى حلّ للمذكورين في القائمة الأولى التي تمّ تعويمها ولم يتمّ التعرّف على الموجودين في القائمة الثانية أصلا. كان هذا الحادث الذي رفع جدارا من الجليد بين المعتمد وأهالي المدينة.

ويكي ويكي“ ، قرصان منزل بوزيان”

في الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر، قام حساب على الفايسبوك يدعى “ويكي ويكي” باختراق الحساب المنسوب للمعتمد أنيس بن عمر ونشر عديد الصور من محادثات هذا الأخير مع أشخاص يدعوهم إلى التجسس على مناضلي الحراك الاجتماعي في مختلف مناطق سيدي بوزيد ويحثّهم على التقاط صورهم وتتبع تحركاتهم وقنص أخبار زياراتهم. مستخدم هذا الحساب كان يعد مخاطبيه بالترقيات وبتشغيل أقاربهم وأبنائهم إن أعطوه أسماء من يسمّيهم ب”المعارضين”. تظهر المحادثات استقصاء أخبار “المعارضين من الشباب” وأسماءهم مقابل تشغيل احدى قريبات الشخص الواشي.

(الكتابة على اليمين هي المنسوبة إلى المعتمد).

شخص آخر يعتبره المعتمد أحد أذرعه –أو عينه في بعض الجهات ان صحّ التعبير- أرسل له صورة كان يعتقد أنها لعبد الحليم حمدي عضو التنسيقية الوطنية للحركات الاجتماعية. الواشي يبلغ المعتمد أن عبد الحليم زار منطقة المقاديم تحضيرا لمسيرة في اليوم الموالي.

يقول الشّاب بلال العماري، أحد النّاشطين في التحركات التي شهدتها المدينة : “التسريبات أغضبت المواطنين قبل المسؤولين النقابيين و السياسيين. هذه الصور وغيرها أصبحت حديث المقاهي لا فقط في منزل بوزيان، بل في جميع أنحاء ولاية سيدي بوزيد”. بعد ذلك، أول خطوة قام بها متساكنو منزل بوزيان كانت عريضة تطالب بعزل المعتمد وأمضاها المئات من المواطنين.

ورغم ذلك، فإن المعتمد واصل تنقّله إلى مكتبه ويتحدّث المحتجّون حتى عن تحدّ صريح واستفزاز من قبله. إحتقان ساهمت فيه أقوال جاءت في محادثات الحساب المنسوب للمعتمد بفايسبوك كنعت المحتجين ب”الجواعى”. عادل ضيف الله، عضو تنسيقية الجبهة الشعبية بمنزل بوزيان وأحد الوجوه البارزة في الاعتصام يقول: ” الوضع كان مشحونا إلى أقصى الحدود. المعتمد لم يدّخر جهدا لشتمنا ونعتنا بأقذع الألفاظ. وأحيانا كان يعمد إلى الإيقاع بيننا. ذات يوم، خرج أنيس بن عمر وتوجّه لي بالكلام بصوت عالٍ أمام كلّ المعتصمين وقال: “تفضل معي سيد عادل. أنا أستاذ وأنت كذلك. يمكننا أن نتفاهم. أنا لا أتحدّث مع العامّة والهمجيين.”

طرد المعتمد

عندما اعتصم المواطنون، سارعت بمساندتهم عديد المنظمات والاحزاب كالاتحاد المحلي للشغل بمنزل بوزيان باعتبار أن كاتبه المحليّ السيد فتحي العباسي، كان ضحيّة تتبّع من طرف المعتمد في احدى الصور المسرّبة من الحساب الفيسبوكي المنسوب له. تواصل الاعتصام لأيام عديدة دون أي حادث عنيف يُذكر. إلى أن قرّر أنيس بن عمر يوم 7 نوفمبر الفارط أن يتّصل بالحرس الوطني ليسارع بإخراجه من مقر المعتمدية مدّعيا أن المعتصمين اعتدوا عليه بالعنف الشديد. غادر أنيس بن عمر المعتمدية صحبة قوات الحرس تتبعه صرخات المعتصمين الغاضبين. إدّعى كلّ من الوالي والمعتمد في ذلك الوقت أن هذا الأخير تمّ الاعتداء عليه بالعنف الشديد وتهشيم نظّاراته من طرف المحتجين وقام أنيس بن عمر باستخراج شهادة طبية تستدعي الراحة لمدة 9 أيام. عاد الهدوء إلى المدينة بعد مغادرة المعتمد وعوّضت خيبة الأمل شعور الغضب لدى المواطنين لأن المعتمد لم يُعزل ولم يكن هناك أي تفاعل من السلطة تجاه القضية. التفاعل الوحيد جاء من طرف والي سيدي بوزيد الذي ساند المعتمد في حوار على جوهرة اف ام.

ارتباك بين السلطة التنفيذية و القضائية

قام المعتمد أنيس بن عمر بتقديم شكاية لدى وكيل الجمهورية ضدّ كلّ من عادل بن ضيف الله وصفوان بوعزيز، الوجهان البارزان في الاعتصام ثمّ انتقل إلى العاصمة حيث أكد لنا النائب نزار عمامي أنه شاهده صحبة نواب من النهضة داخل مجلس نواب الشعب.  بثّ أنيس بن عمر هذا الفيديو من العاصمة يوم 14 نوفمبر 2018 أثناء “فترة نقاهته” ويبدو جليّا أنه لا آثار للعنف على وجهه وعلى نظّاراته. رغم الادعاءات الخطيرة التي قدّمها أنيس بن عمر حول “الملثّمين المجهولين” وأكّد أنهم ينتمون إلى الجبهة الشعبية، فإن منزل بوزيان لم تشهد تحركات، إلى أن تمّ إيقاف عادل ضيف الله وصفوان البوعزيزي في غرّة ديسمبر منتصف النهار. على الساعة السابعة مساء، قام وكيل الجمهورية بإطلاق سراحهم وتبقى عديد الأسئلة مطروحة حول هذا الارتباك. يقول الأستاذ نجيب الخصخوصي محامي الدفاع عن عادل وصفوان: “قرار الاحتفاظ في حدّ ذاته غريب. فالمسألة تتعلق بالاعتداء بالعنف الشديد. إن كان الأمر صحيحا ويستوجب الإيقاف، لماذا لم يتم ايقافهم يوم الاعتداء مباشرة. الأمنيون كانوا حاضرين في إجلاء المعتمد. ”

Safouen Bouaziz, jeune activiste et opposant à Ben Ali, poursuivi par la justice pour son militantisme.
صفوان بوعزيز- صورة لكالوم فرانسيس هوغ

محضر البحث المفقود !

يوم الاثنين 3 ديسمبر، أي يوم مثول عادل وصفوان أمام المحكمة، حضر المتّهمان منذ الصباح الباكر ولكن محضر البحث الذي يجب أن تأتي به فرقة الأبحاث والتفتيش بسيدي بوزيد لم يحضر حسب المحامي خالد عواينيّة. بعد محاولات عديدة من طرف المحامين وبعد انتظار امتدّ إلى الساعة الخامسة مساء، أتي محضر البحث ولكنّه كان فارغا تماما. “لم نجد غير الغلاف الخارجي. الملفّ لا يحمل حتّى أوراقا بيضاء. ولا أحد يعلم لماذا.” هكذا صرّح المحامي الخصخوصي. عند اعلام وكيل الجمهورية، ارتبك ولم يعط أية إجابة. على الساعة الخامسة والنصف مساء، طُلِب من المتهمين العودة إلى منازلهم حتّى اشعار آخر. هذا الاشعار لم يأتِ إلى حدّ كتابة هذه الأسطر. تقول آمنة الزويدي إحدى المحتجّات في وقفة مساندة المتّهمين يوم 3 ديسمبر أمام محكمة سيدي بوزيد: “عندما غادر رفاقنا المحكمة، عدنا كلّ إلى منزله. لم يكن هناك أي داع للاحتجاج. ضربنا موعدا آخر للمساندة إذا تمّ استدعاؤهم مرّة أخرى. ما راعنا إلا أننا سمعنا في الليل أخبارا تقول أن منزل بوزيان تحترق و أن المحتجين، أي نحن، أحرقنا المركز و سيارة تابعة لمركز الحرس. ليس لدينا أي سبب لذلك. عادل وصفوان حرّان طليقان.”

Khaled-Aouinia
المحامي خالد عواينية – صورة لكالوم فرانسيس هوغ

في تلك الليلة، تتالت الأخبار عن منزل بوزيان: حرق سيارة الحرس، حرق مركز الحرس، حرق المستودع البلدي، زجاجات حارقة، حرق القباضة، إصابات في صفوف الأمنيين. في الحقيقة، لم يحترق شيء غير السيارة الإدارية. مركز الحرس لم يمسسه خدش، أما القباضة التي قال والي سيدي بوزيد أنها احترقت فهي غير موجودة تماما. ليس في منزل بوزيان قباضة أصلا. ولم يتمّ اعتقال أي شخص من هؤلاء المخربين ولا أحد يعرفهم.

عندما وصلت إلى منزل بوزيان بعد يومين من “الليلة السّاخنة”، لم أجد آثارا لأية أحداث تذكر. حتّى مركز الحرس المغلق كان في حالة عاديّة. لا آثار حرق على الحيطان. لم يتمّ القبض على أي من المخرّبين. المعتمد غير موجود في المدينة أساسا ويرفض التصريح بأي معلومة. اتصّلت به هاتفيّا وردّ بأنه لا يستطيع التحدث في الموضوع إلّا بترخيص من الوالي. اتصلت بالوالي و رفض مكتبه أن يعطينا موعدا معه باعتبار أنه لن يتحدّث إلا بترخيص من رئيس الحكومة. المجلس البلدي لا يريد أن يكون له أية علاقة بأي طور من أطوار هذه القضية. وحتّى قضية عادل وصفوان غريبة و لم تفض إلى أي حكم لا بالاحتفاظ و لا بإطلاق السراح إلى حدّ الآن. وكيل الجمهورية لا يدري شيئا حسب المحامين. المجلس البلديّ المنتخب حديثا لا يستطيع اصدار أيّ موقف رسمي حسب عضو لجنة التربية و الثقافة داخله، السيّد عبد الباسط قندوزي و يعود ذلك إلى انقسامات داخلية مفزعة.

كنت في طريق العودة إلى تونس وذهني يعجّ بالأسئلة، إلى أن اتّصل بي السيد أنيس بن عمر، معتمد بوزيان. تحدّث لي كثيرا عمّا حدث و لكنه طلب منّي أن لا أنشر أي تصريح إلّا الآتي: “كنت أستطيع تقديم استقالتي من المعتمدية. أنا أستاذ أول فوق الرتبة. ولكن منزل بوزيان لم تعش رخاء ونماء كالذي عاشته في عهدي.”