المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

رغم هذا الإقبال والشهرة التي حظيت بها هذه الجهة في السنوات الأخيرة، فإن البنية التحتية لم ترتق حتى إلى درجة المتوسط، حيث بقيت الطرقات القديمة على حالها، و يصف البعض حمام الاغزاز ببلدة ذات طريق واحد يتجه إلى البحر، هذا الطريق الضيق جعل الإكتظاظ المروري مشهدا يتكرر يوميا في كل موسم صيفي. لم يقع إلى الآن فتح أي طريق آخر يؤدي إلى البحر رغم أن مثال التهيئة العمرانية أقر عديد الطرقات الجديدة، لكنه بقي مجرد حبر على ورق. إضافة إلى أن البناء الفوضوي الذي شهدته الأراضي المطلة على البحر أفسد مثال التهيئة وجمالية المنطقة، وجعل خطة فتح طرقات واسعة وعصرية تؤدي إلى شاطئ البحر أمرا صعب التنفيذ. شاطئ حمام الاغزاز يمتد لأكثر من عشرة كيلومترات من المياه الصافية والشاطئ الرملي الفضي الذي يزدان بالكثبان الرملية الكبيرة، ويحد الشاطئ أيضا سبخة واسعة تمثل المتنفس الوحيد للبحر في فصل الشتاء. إلى جانب ذلك يحد البحر أيضا من الجهة الأخرى بعض الأراضي الفلاحية، وهي بصدد التحول إلى إقامات وفيلات ضخمة يقع كرائها للمصطافين.

في سنة 1993 أمضت الجمهورية التونسية معاهدة ريو بالبرازيل أثناء قمة الأرض التي أكدت على حق الشعوب في بيئة سليمة، وهي بمثابة أول اتفاق عالمي يُمضَى من طرف 108 دولة. إن السلط التونسية عودتنا في عدم ترددها في إمضاء أي اتفاق أو معاهدة دولية حول الحد من التلوث وحماية البيئة، لكن للأسف الشديد ما يتم تنفيذه يتناقض مع ما يصرح به أصحاب السلطة في المؤتمرات الدولية ومع ما تلتزم به الدولة من اتفاقات. على المستوى المحلي، قرر المجلس البلدي بحمام الأغزاز في تلك الفترة أن يجعل من السبخة المصب الرئيسي لجميع أنواع الفضلات المنزلية والصناعية وأحيانا الطبية، والتي تُجمَع هناك ليتم حرقها في ما بعد.

السبخة -مثلما ذكرنا سابقا- تعتبر المتنفس الوحيد للبحر خاصة في فصل الشتاء، أين يتقدم البحر ليصل إلى السبخة. وهي تأوي أيضا أسماك البوري وكانت بمثابة محطة هامة للطيور المهاجرة، كما أنها تتصل بالأراضي الفلاحية وتمتص الملوحة من الأراضي المجاورة. وقد تواصل هذا الفعل المشين بحق البيئة والإنسان لأكثر من ثلاثين سنة. رغم الارتفاع المهول في عدد السكان والزائرين للمدينة، مما يعني الارتفاع في حجم الفضلات، لم تتراجع البلدية عن سياستها في تجميع الفضلات وحرقها بالسبخة رغم تذمرات المواطنين وبعض الجمعيات الناشطة ورغم الارتدادات الكارثية لتلوث السبخة على صحة وراحة المواطنين وعلى التوازن البيئي في الجهة. ومن آثار صب الفضلات وحرقها في السبخة أن الأراضي المحيطة بها أصبحت شبه قاحلة، وذلك بسبب الفضلات السامة التي لا يقع فرزها قبل عملية الحرق.

للهواء أيضا رائحة كريهة، وهو عبارة عن خليط من رائحة الفضلات والدخان الناجم عن حرقها، أما المياه الراكدة ذات اللون الأسود القاني، تتجمع فيها مياه الأمطار والبحر وأحيانا مياه الصرف الصحي الفائضة، حيث ركز ديوان التطهير محطة مُجاورة للسبخة لتصريف المياه المستعملة حتى يُسهل سكب المياه المستعملة الملوثة في السبخة أثناء أي عطب فني بالمحطة، ويَزيد بالتالي من درجة تلوث مياه البحر. أما بالنسبة لحياة الإنسان، فهناك ارتفاع كبير في نسبة الإصابة بالأمراض الخبيثة لدى سكان المنطقة. هذا بالإضافة إلى أن السبخة لم تعد مكانا لإيواء الأسماك أو محطة للطيور المهاجرة، ولم تعد الضفادع والسلاحف وحتى الحلزون يسكنها، فكل الكائنات الحية نفرت منها وهجرتها باستثناء عملة النظافة البلدية الذين تدفعهم لقمة العيش وأوامر المجلس البلدي للذهاب إلى السبخة من أجل صب وحرق الفضلات الخطيرة.

تمثل السبخة أيضا مصدر إغراء لبعض رجال الأعمال غير الواعين بأهمية النظام البيئي الذي يرتكز عليها، إذ يريد البعض منهم ردمها والاستيلاء عليها من أجل تحويلها إلى بناءات، وهذا ما حدث بعد سنة 2011 حيث عمد البعض إلى تسييج أجزاء منها وحرثها، إلا أن السلطة أوقفتهم بعد مدة طويلة ومازالت محاولاتهم متواصلة إلى حدود هذه الفترة. وكأن هناك صراع في أجهزة الدولة بين طرف يساندهم للاستيلاء على الأرض وطرف آخر يتحرك لردعهم أحيانا. فماذا ننتظر حتى يتم إزالة كل ما قاموا بتشييده ومحاسبتهم؟

السبخة غرفة مظلمة أغلقتها المجالس البلدية المتعاقبة، وهي الرقعة السوداء الشاسعة المطلة على أجمل الشواطئ التونسية. ودائما ما يتفاخر أعضاء المجلس ومناصريهم بجمال الشاطئ ولا يريدون الحديث عن موضوع التلوث والضرر الذي يهدد الشاطئ، حجتهم في ذلك أن البلدية تفتقر إلى الموارد المالية، حتى أن القرارات الحاسمة المنتظرة بعد الانتخابات البلدية ستذهب سدى. إذ أن أول مجلس بلدي منتخب ديمقراطيا قرر المواصلة في استعمال السبخة كمصب، خاصة في الموسم الصيفي حين يرتفع حجم الفضلات، وأيضا بحجة ضعف الموارد.

دمرت بلدية حمام الاغزاز النظام البيئي الذي يجمع البحر والسبخة والشريط الساحلي المتكون من كثبان رملية وشريط غابي صغير، وبسبب سوء التصرف في هذا الموروث الطبيعي المتنوع فقدَت رمال شاطئ البحر لونها الفضي وتراجع عدد الكثبان الرملية وانخفض حجمها وهجرتنا دون عودة الطيور المهاجرة، وانجرف الشاطئ وتراجع الصيد البحري وفَقَد الشريط الغابي لونه الأخضر بعدما غطته ألوان البلاستيك. وليس مستبعدا أن يسير أهالي المنطقة إلى الحسرة في السنوات القليلة القادمة على جودة البحر، فهذا ما حدث في سواحل خليج قابس وتونس الكبرى، بعد ما تأثرت سلبا بفضلات المصانع وبسوء التصرف البلدي ورعونة القرارات الرسمية، وبسبب صب مياه الصرف الصحي دون معالجتها.

اليوم أصبح من الضروري اتخاذ قرار نهائي حول مستقبل السبخة، بما يتماشى مع مصلحة الجهة والحفاظ على جودة شاطئ المدينة، واحترام حق السكان في بيئة سليمة وتنمية مستدامة، فإلى متى تستمر هياكل السلطة المختصة كالوكالة الوطنية للتصرف في النفايات أو الوكالة الوطنية للحفاظ على المحيط في عدم التدخل لحماية هذا النظام البيئي، الذي يمكن تحويله إلى مشروع بيئي نموذجي.