بين سنتي 2017 و2018 تم الترخيص لـ133 مدرسة ابتدائية خاصة، وهو ما يعتبر ارتفاعا ملحوظا مقارنة بالارتفاع الذي شهدته السنوات الفاصلة بين 2004 و2010، حيث فتحت 44 مدرسة جديدة أبوابها طيلة 6 سنوات. ولئن كانت الهجرة إلى التعليم الابتدائي الخاص ظاهرة اقتصرت، أواخر التسعينات وبداية الألفية الثالثة، على المراكز الحضرية الكبرى مثل تونس العاصمة وسوسة وصفاقس، فإنها خلال السنوات الخمس الأخيرة امتدت جغرافيا لتشمل مناطق داخلية على غرار سليانة وجندوبة وتطاوين التي لم تكن تحتوي على مدارس خاصة في سنة 2014. بالمقابل لا يحظى التعليم الإعدادي والثانوي الخاص بجاذبية اجتماعية مشابهة للتعليم الابتدائي، إذ لم تشهد السنوات الفاصلة بين 1994 و2016 سوى زيادة بـ32 مؤسسة جديدة، كما أن عدد التلاميذ الذين يؤمّون المدارس الإعدادية والثانوية الخاصة لم يشهد استقرار، واتجه نحو الانخفاض في بعض الأحيان، إذ شهدت سنة 2015 حوالي 69235 تلميذ في حين بلغ عددهم في سنة 2016 حوالي 58706.

انقسام المشهد التعليمي

لا تُنكر وزارة التربية أفضلية التعليم الابتدائي الخاص على التعليم العمومي، إذ يُرجع المخطط الاستراتيجي القطاعي التربوي 2016-2020، الذي أصدرته الوزارة في سنة 2016، دوافع الاتجاه الاجتماعي نحو هذا الصنف من التعليم إلى ”ملاءمة الحياة المدرسية بهذه المؤسسات لظروف عيش العائلة في الوسط الحضري وإلى البحث عن تكوين جيد للأبناء والتمدرس المبكر وكذلك توفر آليات المتابعة والمرافقة وإلى ملاءمة الزمن المدرسي لهذه المؤسسات للزمن الاجتماعي وإيقاع الحياة“. ويشير ذات التقرير إلى أن هجرة المتعلمين إلى القطاع الخاص، جعلت التعليم في تونس ”مهددا بالإنقسام إلى نظامين: نظام عمومي متواضع الخدمات لفائدة حشود من المتعلمين الفقراء ونظام خاص رفيع الخدمات لفائدة أقلية محظوظة“.

من داخل هذا التشخيص الرسمي، يُفهم أن التعليم الابتدائي الخاص أصبح مصعدا جديدا للتفوق والجودة، ومن داخله تتحدد معايير النجاح المستقبلية، علاوة على أنه يواكب الإيقاع الاجتماعي المَدِيني ويلبّي تطلعات الشرائح الوسطي والمُرَفهة، وهو ما يجعله نموذجا للاحتذاء. الإنبهار الرسمي بالمشروع التعليمي الخاص انعكس في التشجيع على الاستثمار في هذا القطاع من خلال الارتفاع المتزايد لعدد الرخص الممنوحة، إضافة إلى أن المشروع الإصلاحي الذي تسوق له وزارة التربية في السنوات الأخيرة –رغم تعاقب الوزراء عليها- يربط دور المدرسة العمومية بالدورة الاقتصادية وبالنجاح الاجتماعي، وهو تقريبا ما يسوق له التعليم الابتدائي الخاص. وفي الأثناء تدفع السياسات التعليمية والاقتصادية –بشكل أو بآخر- نحو تهميش المدرسة العمومية والحد من دورها المجتمعي والمعرفي.

تهميش المدرسة العمومية

يقر التشخيص الرسمي بالأزمة الشاملة التي بلغتها المدرسة العمومية، سواء في الجانب المتعلق بالبنية التحتية أو على المستوى المعرفي والتربوي، مما جعل العملية التربوية ذات مردودية ضعيفة مقارنة بالتعليم الابتدائي الخاص، وهو ما يذهب إليه المخطط الاستراتيجي المذكور سابقا من خلال الإشارة التالية:

تعود ظروف العمل الصعبة في أغلب المدارس إلى ضعف البنية التحتية والتجهيزات التربوية المهترئة والمتقادمة مع غياب الوسائل التعليمية الضرورية.

رغم هذا الإقرار فإن السياسة المالية الحكومية لم تتجه نحو ضخ اعتمادات جديدة من أجل الشروع في تدارك الانهيار المادي والمعنوي الذي بلغه التعليم العمومي، وهو ما ينعكس في ميزانية وزارة التربية لسنة 2018، التي تشهد اختلالا كبيرا بين نفقات التصرف التي تستحوذ على 95.74 بالمائة من الميزانية، في حين لا تتجاوز نفقات التنمية الـ4.26 بالمائة. وفي نفس السياق يُذكر أن الكثير من المدارس العمومية في المناطق الداخلية شهدت خلال سنتي 2016 و2017 انتشارا لفيروس الالتهاب الكبدي صنف (أ) بسبب الحالة المتردية لدورات المياه، على غرار منطقة بئر علي بن خليفة التي سجلت في فيفري 2017 وفاة تلميذة وإصابة 33 آخرين، إضافة إلى منطقة القصرين التي سجلت في 2016 إصابة 9 تلاميذ بهذا الفيروس، ومنطقة سيدي بوزيد سجلت 8 حالات أواخر 2017.

من جهة أخرى اتسمت أهداف الإصلاح التي تضمنتها جل التقارير التي أذاعتها وزارة التربية منذ سنة 2015 بالرهان الكمي المحصور أساسا في الحد من الاكتظاظ في الفصول والتقليص من نسب الرسوب والتحكم في ظاهرة الإنقطاع المدرسي، وهو ما يجعل المدرسة العمومية إطارا وظيفته تقليص الأمية والترفيع في نسب التمدرس. وفي الأثناء غابت الرهانات النوعية المتعلقة بمراجعة الدور الاجتماعي والعلمي والقيمي للمدرسة، إذ أصبحت المدرسة منتجا لليائسين والمنقطعين والمعطلين وفاقدي الأفق، بسبب عدم قدرة السياسات العامة على مواكبة التحولات الاجتماعية وتغذيتها لنموذج سَلعنة التعليم وتكريس التفاوت الاجتماعي والجهوي، وهو ما مثل أرضية خصبة للاستثمار الخاص في التعليم. إضافة إلى غياب مشروع قِيمي ومعرفي يجعل من المدرسة العمومية مَصنعا للمواطنة الجديدة، ويضمن تكافؤ الفرص بين جميع الشرائح والمناطق.

أما المقاربة التعليمية التي تربط المدرسة العمومية بالاقتصاد فتبدو فاقدة لأساسها الواقعي، نظرا للمحدودية التي يتميز بها سوق الشغل بسب الأزمة البنيوية التي يعيشها الاقتصاد التونسي، الذي لا ينتج الثروة بسبب هشاشة بناه الصناعية والفلاحية وتعويله على الريع والخدمات. هذا الانكماش الكيفي والكمي جعل الاقتصاد غير قادرا على استيعاب الأدفاق السنوية لخريجي الجامعات، خصوصا النوعية منها، وهو ما نلاحظه في اطراد ظاهرة هجرة الأدمغة.