جاءت إقالة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى عبد الله الوصيف بسبب الرسالة التي بعثها المجلس إلى الإذاعة الوطنية في 26 جوان 2015، داعيا إدارتها إلى إيقاف البرنامج الذي يقدمه المفكر والباحث في الإسلاميات يوسف الصديق، بسبب ما اعتبره المجلس إساءة للهوية والعقيدة و”تحريفا للقرآن الكريم“. كشفت تلك الرسالة عن النزعة الإكليركية التي تقود المجلس الإسلامي الأعلى، فهو من جهة يدعو إلى مصادرة رأي ديني مخالف باسم احتكار شرعية التأويل، ومن جهة أخرى يتحدث باسم الشعب المسلم ويقترح على الإذاعة الوطنية التعاون معه من أجل إنتاج برامج دينية وثقافية. وقد سبق للمجلس الإسلامي الأعلى أن دعى المجلس التأسيسي في جانفي 2014 إلى حذف ”حرية الضمير“ و”منع التكفير“ من الفصل السادس من الدستور.

حركة النهضة والهيمنة على المجلس


في 07 أوت 2013 أصدرت حكومة علي العريض أمرا بالرائد الرسمي، تم بموجبه تعيين أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى، وقد ضمت التركيبة عضوي مجلس شورى حركة النهضة، هما عبد المجيد النجار المدير التنفيذي لفرع تونس للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وأحمد الأبيض أحد مؤسسي الحركة، إضافة إلى بثينة بن يغلان النائبة بمجلس نواب الشعب عن دائرة نابل 1. وقد سعت حركة النهضة إلى الإيهام بتنوع التركيبة من خلال تعيين أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد عضوا بالمجلس الإسلامي، ولكنه صرح آنذاك أنه رفض هذا التعيين على اعتبار أن الحكومة لم تستشره قبل اتخاذ هذا القرار.

تغيير تركيبة المجلس الإسلامي سبقتها دعوة إلى دَسترته من قبل حركة النهضة. في أفريل 2013 اقترحت كتلة النهضة بالمجلس التأسيسي دسترة المجلس الإسلامي، ولكن لجنة الهيئات الدستورية رفضت التصويت لصالح هذا المقترح بـ11 صوتا مقابل 10 أصوات. كان الخطاب السياسي لحركة النهضة آنذاك يدفع نحو إيجاد مؤسسة دينية رسمية تنظم الشأن الديني وتتصدى للفتاوي التي تصدرها التيارات السلفية المتطرفة، ولكنها كانت تسعى إلى التحكم في الشأن الديني من خلال هذه المؤسسة بعد أن تعطيها سلطة أعلى من القوانين، وهو ما ظهر من خلال التركيبة المذكورة سابقا التي ضمت بالأساس أعضاء من حركة النهضة ومقربين منها. وأمام عدم نجاح الحركة في تمرير مقترح الدسترة اكتفى المجلس الإسلامي بالإبقاء على صبغته الإستشارية. ومع تغير المشهد السياسي في أواخر 2014 وتراجع نفوذ حركة النهضة داخل مؤسسات الحكم، حافظ على تركيبته التي عينتها حكومة علي العريض، باستثناء إقالة رئيسه عبد الله الوصيف في جويلية 2015، حتى أن التركيبة الجديدة التي عينتها حكومة مهدي جمعة في جانفي 2015 لم تشهد تغييرا كبيرا وحافظت على أغلب الأسماء القديمة. و خلال السنوات التي صعد فيها نداء تونس للحكم، سعى المجلس الإسلامي إلى محاولة فرض سلطته الرمزية من خلال التدخل في بعض المسائل الدينية، على غرار السعي إلى منع برنامج ”عيال الله“ الذي كان يقدمه المفكر يوسف الصديق على موجات الإذاعة الوطنية، إضافة إلى معارضته الأخيرة لتقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة.

المجلس الإسلامي الأعلى: هيئة دينية على مقاس الأنظمة

تم بعث المجلس الإسلامي الأعلى أواخر الحقبة البورقيبة، في أفريل من سنة 1987، بوصفه هيئة استشارية تنظر في المسائل التي تعرضها عليها الحكومة، وكانت هذه المؤسسة إطارا جديدا يهدف إلى تنظيم العلاقة بين الدين والدولة ضمن مقاربة رسمية قديمة قائمة على وضع الشأن الديني تحت وصاية الدولة. ومع قدوم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي إلى سدة الحكم، قام في سنة 1988 بتعيين تركيبة المجلس الذي ترأسه آنذاك التهامي نقرة، وقد لاحظت دراسة حول المجلس الإسلامي الأعلى أنجزتها الباحثة و أستاذة العلوم السياسية بكلية الحقوق بتونس أسماء نويرة، أن الرئيس بن علي ”حرص على تعزيز المجلس في إطار إعادة ترتيب المجال الديني وإعادة تحديد العلاقة بين الدين والدولة تحت شعار ”إعادة الاعتبار للدين الإسلامي“، وكان ذلك في سياق محاولة كسب المشروعية التقليدية للنظام السياسي الجديد“. وقد أشارت نفس الدراسة إلى انفتاح نظام بن علي على حركة الاتجاه الإسلامي من خلال تعيين عبد الفتاح مورو -أحد مؤسسي الحركة- عضوا بالمجلس الإسلامي الأعلى في سياق سياسة رسمية تهدف إلى استمالة الإسلاميين إلى المؤسسات الدينية الرسمية.

عضوية عبد الفتاح مورو داخل المجلس الإسلامي انتهت سنة 1992، وهي الفترة التي شهدت ذروة التصفية الرسمية للحركة الإسلامية، وقد تم في تلك السنة الإعلان عن تركيبة جديدة للمجلس الإسلامي، أظهر فيها النظام انفتاحا على الأوساط الأكاديمية من غير النخب الدينية من خلال تعيين محمد الطالبي وكمال عمران عضوين بالمحلس، وقد سبق أن تم تعيين أستاذ علم الاجتماع عبد الوهاب بوحديبة في تركيبة 1989. طيلة فترة حكم بن علي مارس المجلس مهامه دون صخب في ظل حالة الانسداد السياسي والغلق النظامي للفضاء العام خاصة الفضاءين السياسي والديني، ولكنه ظل نظريا يحتفظ ”بصلاحيات واسعة“، لخصتها دراسة أسماء نويرة في ”الضبط الاجتماعي“ و”النظر في سير المؤسسات الإسلامية“ و”حماية العِلم الديني“، وبالمقابل لاحظت نويرة أنه ”رغم اتساع نطاق هذه الصلاحيات لم يٌمنح المجلس الآليات الكفيلة لضمان نجاعة تدخله في مختلف هذه المجالات. إذ يعطيه النص صلاحية تقديم المقترحات وإصدار التوصيات دون اتخاذ قرارات نافذة“.

ارتباط المجلس بالسلطة التنفيذية، جَعل دوره الديني يرتبط بسقف السلطة السياسية، وهو ما أدخل عليه دينامية جديدة بعد سقوط نظام بن علي، فبعد أن استغله هذا الأخير لكسب مشروعية سياسية لنظامه وحاول من خلاله احتواء الإسلام السياسي الصاعد ثم عمد إلى تهميشه، سعت حركة النهضة إلى دسترته خدمة لسياسياتها الدينية والتشريعية. وتظل هذه المؤسسة قابلة للاستخدام السياسي في ظل ارتباط مهامها بتنفيذ الفصل الأول من الدستور الذي ينص على أن الإسلام دين الدولة. فصل يتميز بقابلية التأويل في اتجاهات مختلفة.