المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة
محمد الدغباجي، من ابطال معركة الذهيبة

في سنة 1897 عُيّن ضابط من هذا المكتب للإشراف على بناء برج ذهيبة ومنذ ذلك التاريخ أصبحت ذهيبة مركزا متقدما تابعا لتطاوين يصل قطاعها جنوبا إلى غدامس وشرقا إلى مشهد صالح. وجهة ذهيبة لم تكن مأهولة قبل قدوم الفرنسيين وصحيح أن الودارنة كانت تعبر تلك النواحي، لكن الإقامة بها توقفت منذ قرار عرش الذهيبات الإلتحاق بمرتفعات مطماطة. ولسنا ندري متى تم ذلك، لكن الثابت أنه كان بسبب انعدام الأمن. وكان الذهيبات يقيمون بين الظاهر وادي سمنة وكانوا متصلين شرقا بوزان. كما تجدر الإشارة إلى أن وَجيه الذهيبات “خلفة بن مليان” بادر بالرجوع إلى أرض الأجداد سنة 1898 صحبة مجموعة من العائلات، التي تصل إلى 100 عائلة تقريبا. ولعل الهدوء الذي ساد في تلك الفترة سمح للضباط الفرنسيين بإصدار تقارير تفيد باستتباب الأمن، لكن الواقع كان غير ذلك حيث اندلعت بالجنوب انتفاضة بداية من سنة 1915، سُمِّيت معركة ذهيبة.

معركة ذهيبة: الحالة العامة

سبقت المعركة عدة مناوشات بين الفصائل الفرنسية المتنقلة داخل القطاع وبعض المقاومين آنذاك، ففي يوم 13 سبتمبر 1915 اعترض محمد بن مذكور الشهيدي مع أربعين فارسا عنصر استطلاع بقيادة النقيب “مقربي” في وادي المرطبة، وبالتحديد قبالة العلامة الحدودية 108، وقد سقط فيها من الجانب الفرنسي عريف وجندي. وفي يوم 14 سبتمبر 1915 اصطدمت فرقتان من القومية وسرية مشاة وفصيل بقيادة النقيب “مقربي” بحوالي 500 مقاوم في جبل عفينة (5 كلم/ ذهيبة) وسقط 12 قتيلا و10 جرحى من الجانب الفرنسي و100 قتيل وجريح تونسي. ربما كان المقاومون قد استنتجوا أن الفرنسيين قد ركنوا إلى الراحة ودخلوا في الروتين بعد 10 سنوات من الهدوء بالجنوب وأن هذه الفترة كانت كافية لأن يستجمع المقاومون قواهم.

مقارنة بين القوتين

عبر مقارنة سريعة بين القوتين المتقابلتين يمكن القول أن الكفة متعادلة في المعدات وخاصة أن رجال المقاومة قد استطاعوا الاستيلاء على عدد كبير من الأسلحة والذخيرة الإيطالية في ليبيا أوالفرنسية في تونس، والتي بدأ استعمالها إبان الحرب العالمية الأولى. كانت أبرز أسماء الأسلحة بندقية الموزر “أم العشرة” (لأنها ذات عشر طلقات) وكذالك بندقية إيطالية سٌميت “الدقرة”، وبوصوانة وأم حربية ومسدس بوستت أو بوجرارة. أما الأفراد فقد تقابل في الواقعة 800 مقاوم ضد فرقة من الشاسور دافريك وفصيل رشاشات، تبدو الكفة راجحة كما يبدو لفائدة المقاومين وسوف يسارع الفرنسيون بعد معركة ذهيبة إلى جلب آلاف العسكريين مدججين بأسلحة متطورة لمجابهة الوضع.

الوضع التكتيكي

مكنت المناوشات التي جدت أيام 13 و14 سبتمبر 1915 المقاومين من استطلاع الحالة وجمع المعطيات عن المنشآت العسكرية الفرنسية، كما أن السكان كانوا يساعدونهم في ذلك. كان هذا الوضع ملائما لزيادة التحرش بالحاميات الفرنسية بأقصى الجنوب.

ميدان المعركة

الظاهر، هي مرتفعات يبلغ علوها ما بين 400 و600 متر تتقوس باتجاه الشرق عند المرور برمادة في اتجاه ذهيبة وتتواصل هذه الجبال إلى ليبيا. الظاهر أجرَد وغير صالح للزراعة وتقل به المياه، أما فصل المعركة فهو آخر الصيف حيث تشتد الحرارة. نسجل إذن عدم تعود الفرنسيين على هذا الميدان وهذا الطقس.

المعركة

في صبيحة يوم 15 سبتمبر قرّر قائد حامية ذهيبة الرائد “ابات” الانتقام من المقاومين المنتصبين على الحدود بين وازن وذهيبة نتيجة الخسائر الفادحة في الأرواح والعتاد التي تكبدها الفرنسيون في اليوم السابق بمعركة جبل عفينة. وكانت القوة الفرنسية المهاجمة متكونة من فرقة من “الشاسور دافريك” وفصيل رشاش. ونرى من الضروري تسجيل الملاحظة التالية؛ الفرقة في مصطلح التشكيلات العسكرية هي عبارة عن ثلاثة ألوية معززة والراجح أن مؤلف الكتاب الذي رجعنا له قد خلط بين الفرقة والكتيبة علما وأنه ترجم المعلومة من وثيقة فرنسية. أما عدد المقاومين فقد كان يبلغ الثماني مائة مقاتل. ولعل المقاومين كانوا يتوقعون الهجوم حيث اعترضوا الفرنسيين في مكان يُعرف بضهرة النصف، في الطريق الرابط بين ذهيبة ووازن. والميدان كما ذكرنا جَبلي حجري وعر، زيادة على حرارة طقس سبتمبر مما كان له تأثير سلبي على الجنود الفرنسيين.

اندلعت الواقعة على الساعة السابعة صباحا وانتهت على الرابعة عشر بعد زوال  نفس اليوم أي أنها دامت سبع ساعات. انتهت المعركة بانتصار ساحق للمقاومين ولولا وصول النجدة التي طلبها الفرنسيون في الوقت المناسب لتأمين انسحابهم لتمت إبادتهم على آخرهم، فقد قامت ثلاثة عناصر بقيادة الرائد “لامبير” والرائد “مارسيل” والنقيب “بن داود” بتغطية ارتداد أصدقائهم ونجحوا في فك حصارهم وأنقذوهم من كارثة كانت ستلحق بهم. من الجانب الفرنسي، قُتل 28 عسكريا كان من ضمنهم الملازم أول “مارييه ” وجُرح 37 عسكريا كان من بينهم النقيب “مقربي” والنقيب “بتي” والملازم أول “جائي”. أما من المقاومين فقد قُدّرت الخسائر بحوالي 150 مابين قتيل وجريح.

الدروس العسكرية المستخلصة

استعمل الفرنسيون الاحتياط كأحسن ما يكون، وهو مبدأ حربي معروف ولولاه لدارت الدائرة عليهم. أما عنصر المفاجأة فقد أحسن المقاومون استخدامه وتمكنوا من مباغتة الفرنسيين. وبالنسبة للاستعلامات فقد تمكّن المقاومون من الإستعلام عن تحركات الفرنسيين نحوهم وهذا يُفسر الدور الهام الذي تشغله الإستعلامات قبل الحرب. كما اعتمد المقاومون على الوازع الديني الذي حثهم على الجهاد في سبيل الله وأبلوا البلاء الحسن بواسطة هذا الدافع القوي. إضافة إلى معرفة الميدان والتعود عليه، حيث دارت المعركة في منطقة صحراوية ذات مناخ حار وتضاريس جبلية متحجرة لم يتعوّد الفرنسيون القتال فيها، فسَهّل على المقاومين المتأقلمين مع هذا المناخ الانتصار عليهم.

ساهمت معركة ذهيبة في تردّي الوضع الأمني في أقصى الجنوب فأصبحت لا تنتهي مناوشة إلا لتبدأ أخرى، ولعل الحادثة الملفتة للانتباه هي إقدام مخزن مشهد صالح، المتكون من 28 فردا، يوم 23 سبتمبر 1915 على إخلاء المركز والإلتحاق بالمقاومين حاملين أسلحتهم وذخائرهم وتبعهم 6 مخازنية من مركز الشقيقة. واضطر العقيد “تريسترنيل” القائد العسكري لمنطقة ورغمة المنتصب بمدنين للتحّول إلى ذهيبة بعد توقف الاتصال بين مدنين وتطاوين وذهيبة إثر قطع المقاومين خطوط الهاتف. وصدرت الأوامر بالجلاء عن مراكز بيربيستور وبرج بارفانكيار وجنين، وتم جلب جيوش جديدة بداية من 25 سبتمبر 1915 متكونة من أربع كتائب زواف، وكتيبة ترايول وكتيبتان شاسور دافريك، وخمس كتائب مدفية وخمس كتائب سباييس ومجموعة مَهاري، وعُيّن الجنرال “بوايي” لقيادة الجنوب التونسي وتنظيمه. وفعلا كانت نتائج معركة ذهيبة وخيمة على الفرنسيين، فهل سيُرهب السلاح الجديد والجيش الجرار الثوّار؟ يمكن أن يكون هذا موضوعا لدراسة المواجهات التي حدثت بعد معركة ذهيبة.

المراجع المعتمدة في المقال:

محمد المرزوقي: صراع مع الحماية محمد المرزوقي، ص 197

فتحي ليسير: من الصعلكة الشريفة إلى البطولة الوطنية، ص 147

خليفة بن عسكر: بيوغرافيا قائد ليسر، ص 161

Historique du bureau des affaires indigènes de Tataouine 1931 page 3

منصور بوليفة، انتفاضة الودارنة عام 1915، مجلة الحياة الثقافية مارس 1997