أعلنت النقابة العامة للمياه على لسان كاتبها العام حسين الشارني خلال اتصال هاتفي مع نواة عن الوصول إلى اتفاق مع وزارة الفلاحة بإيقاف النقاشات حول مشروع مجلّة المياه والتركيز على إصلاح وتنقيح المجلّة الساري العمل بها منذ 43 عاما. تصريح جوبه بنفي وزارة الفلاحة وجود أيّ إتفاق أو تفاهم بمثل هذا الشكل وتأكيدها بحسب المكلّفة بالإعلام عايدة فهري إحالة مشروع القانون منذ شهر أفريل الفارط إلى رئاسة الحكومة للبتّ فيه قبل إحالته إلى مجلس نوّاب الشعب. هذا التضارب في المعلومات حول مصير الإطار التشريعيّ المرتقب للثروة المائيّة يشكّل حلقة أخرى من سلسلة الإشكاليّات التّي ترتبط بإستغلال وتوزيع المياه في تونس التّي لا تقتصر على تذبذب الامدادات أو البنى التحتيّة أو الحوادث التّي تلحق بشبكات التوزيع، بل تشمل القانون المنظّم لاستغلال هذه الثروة.

لم تخضع مجلّة المياه القديمة (القانون عدد 16 لسنة 1975 مؤرخ في 31 مارس 1975 المتعلّق بإصدار مجلة المياه) سوى لتعديلات طفيفة في سنة 1987، 1988 و2001. قبل أن تنطلق أولى الخطوات لإعداد مشروع مجلّة مياه جديدة سنة 2009. مسار تعطّل مع اندلاع الثورة التونسيّة وانشغال الرأي العام بالتغييرات السياسيّة التّي شهدتها البلاد طيلة الفترة اللاحقة، ليتمّ طرح النسخة شبه النهائيّة لمشروع القانون سنة 2014 عقب المصادقة على الدستور الجديد في جانفي 2014 تماشيا مع دسترة الحّق في الماء الصالح للشراب كما نصّ على ذلك الفصل 44.  تصريحات متضاربة تتزامن مع بوادر أزمة مرتقبة على ضوء الإضراب المُزمع تنفيذه يوميْ 26 و27 جويليّة الجاريّ في كامل إدارات ومصالح واقاليم ومنشئات الشركة الوطنيّة لاستغلال وتوزيع المياه. وقد لجأت النقابة العامة للمياه وقسم الدواوين والمنشئات العموميّة إلى هذه الخطوة التصعيديّة ردّا على التجاهل الحكوميّ-بحسب البيان الصادر عنهم- لمطالبها الخاصّة بإعادة النظر في آليات حوكمة الشركة والتدّخل لتعديل إختلال التوازنات الماليّة للمؤسّسة وتلبية جملة من الاتفاقيات الخاصّة بتحسين الظروف الماديّة والسلامة المهنيّة لموظّفيها.

المجتمع المدني شريك عن مضض

أضحى وضع إطار تشريعيّ جديد لاستغلال الثروة المائيّة حاجة ملحّة على ضوء تدهور الوضع المائيّ خلال السنوات التي أعقبت الثورة. لتتوّلى وزارة الفلاحة مهمّة إعداد النسخة الأوليّة التّي اكتملت في جويليّة 2014. هذه الورقة التّي انتظرت خمس سنوات لترى النور، لم تكن في مستوى تطلّعات المختصّين في هذا المجال. إذ شهدت جدلا واسعا إثر عرضها على استشارة موسّعة في ماي 2015 ضمّت ممثّلين عن المجتمع المدني من ذوي الاختصاص على غرار الجمعية التونسية للتغيرات المناخية والتنمية المستدامة 2C2D، جمعية المياه والتنمية، REACT، شبكة جمعيات الطبيعة والتنمية، المنتدى التونسي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية، جمعية التربية البيئية بالحمامات،Dynamique autour de l’eau، نوادي اليونسكو–الألكسو، الشبكة الجمعياتية بالحمامات، نادي ليو جالطة، جمعية أحباء البلفدير وجمعية نوماد08. وتمحورت أغلب الانتقادات حينها إلى عدم توافق هذا المشروع في نسخته الأخيرة مع متطلّبات التّصرف المستدام في الثروة المائية.

كما انتقدت الجمعيات المذكورة محافظة مشروع المجلّة المقترحة على نفس الهيكل المؤسّساتي للتّصرف في مجال المياه وعلى نفس أدوار ومسؤوليات كلّ المتّدخلين، وهو ما يتناقض مع مبدأي الشفافية والمسائلة المتبادلة. كما خلصت الاستشارة إلى تغاضى وزارة الفلاحة عن الاعتبارات الجهوية والمحلية في التّصرف في المياه في تناقض واضح مع مسار اللامركزيّة التّي ينصّ عليها الدستور الجديد. وأخيرا، طالبت منظّمات المجتمع المدني الاطّلاع على النصوص المتمّمة للمشروع والتي يبلغ عددها 45 نصّا إضافيا ما بين أوامر وقرارات معتبرة أن عملية التقييم ستكون منقوصة إن لم يتمّ الكشف عن هذه النصوص.

في هذا السياق، يؤكّد المنسّق العام للمصرد التونسي للمياه علاء المرزوقي قائلا: ”تشريك المجتمع المدني في بلورة الرؤية الشاملة لمستقبل هذه الثروة بدا على مضض، إذ تجاهلت الوزارة رغم التنقيحات والملاحظات التّي قدّمها المختصّون في هذا الشأن نقاطا أساسيّة على غرار تعمّد تغييب الجانب المواطني في بعده الشعبيّ في علاقة بالثروة المائيّة“. ليضيف موضّحا: ”حافظ المشروع الجديد على المفاهيم الكبرى الكلاسيكيّة التّي تعلي الدولة كهيكل إداريّ وتخصّه في التصرّف المطلق في قضيّة استغلال المياه والتصرّف فيها. موقف تجلّى بوضوح عبر إسقاط حقّ التقاضي للمواطن إزاء التقصير الذّي قد تنتهجه هياكل الدولة المعنيّة بتوزيع واستغلال هذه الثروة“.

أولاد حفوز، ولاية القيروان. صيف 2016

النقابة العامة للمياه ووزارة الفلاحة والعودة إلى نقطة الصفر

هذه المعارضة الشرسة من قبل منظّمات المجتمع المدنيّ، دفعت الوزارة إلى سحب تلك النسخة من مشروع مجلّة المياه بدعوى التنقيح، حيث ظلّت معلّقة إلى حدود جويليّة 2017، تاريخ طرحها مرّة أخرى للنقاش مع النقابة العامّة للمياه التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل. نقاشات لم تفضي إلى تقدّم يذكر رغم تعدّد الجلسات، بعد اعتراض الطرف النقابيّ على ما اعتبرها بنودا تضرّ بالملك العمومي وتفتح المجال أمام خصخصة الثروة المائيّة وهياكل توزيعها كما جاءت في الفصول 61 حتّى66 من مشروع المجلّة المقترح. إذ كان الاتحاد العام التونسي للشغل ينظر بارتياب إلى الفصل 61 الخاصّ بالشراكة بين القطاعين العام والخاصّ والذّي ينصّ

تشجّع الدولة الشراكة بين القطاعين العام والخاص للتصرّف في الموارد المائية وإدارة المنشآت المائية في نطاق امتيازات أو كّل أشكال الشراكة الخاضعة للنصوص التشريعية الجاري بها العمل.الفصل 61، مشروع مجلّة المياه

على الرغم من عرضه في 13 مارس 2018 على المجلس الوزاري تمهيدا لتمريره إلى مجلس نوّاب الشعب، إلاّ أنّ مشروع مجلّة المياه عاد مجدّدا إلى مكاتب وزارة الفلاحة في انتظار جولات أخرى من النقاشات المستمرّة منذ أربع سنوات والتّي أسفرت في شهر أفريل 2018، بحسب تأكيد الطرف النقابيّ، عن الاتفاق بين النقابة العامّة للمياه ووزارة الإشراف على إسقاط مشروع القانون الجديد. في هذا السياق، يؤكّد الكاتب العام للنقابة حسين الشارني قائلا؛ ”الطرف النقابيّ يرفض دفن مجلّة المياه المعمول بها منذ سنة 1975 والانطلاق من نقطة الصفر خصوصا أنّه قانون عريق ومتكامل رغم ما يشوبه من نواقص تستحق التنقيح.“ ليضيف: ”اتفقنا مع ديوان وزارة الفلاحة على اسقاط مشروع مجلّة المياه باعتبار احترازاتنا العديدة حوله والعودة إلى قانون 1975 كمرتكز وأرضية للعمل والتفاهم.“ ويتضمّن الاتفاق الذّي توصّل إليه الطرف النقابيّ ووزارة الفلاحة نقطتين اساسيتيّن بحسب الكاتب العامة لنقابة المياه الذّي يوضّح قائلا؛ ”النقطة الأولى تتمحور حول تنقيح مجلّة 1975 كإطار وحيد منظّم لاستغلال وتوزيع الثروة المائيّة، أمّا النقطة الثانية فتتضمنّ تشكيل لجنة مشتركة من خبراء الاتحاد العام التونسي للشغل ووزارة الفلاحة للعمل سويّا على تنقيح الفصول الخلافيّة والتّي لم يتمّ تشكيلها بعد.“

منعرج جديد في مسار تركيز الأطر القانونية المنظّمة لاستغلال وتوزيع المياه في ظلّ مناخ من الضبابيّة والتجاذب بين الأطراف المتداخلة. وضع لم تفرزه سياسة ركن الملفات أو تأجيلها بقدر ما اعتبره علاء المرزوقي حالة عامة من الاستهتار بالقوانين والاطر التشريعيّة والتناقض الرهيب بين النصّ وآليات الممارسة والتنفيذ. إذ يؤكّد المنسّق العام للمرصد التونسي للمياه قائلا: ”حتّى مجلّة المياه السابقة التّي صدرت سنة 1975، كانت لتفرز واقعا مغايرا لو تمّ احترام فصولها والإلتزام بما جاء فيها من تدابير وقوانين وقواعد للتصرّف في الثروة المائيّة؛ لكنّ المشكلة الرئيسيّة تكمن في بقاء النصوص القانونيّة دائما حبرا على ورق، وهو ما نخشى تكراره مستقبلا بالنسبة لمشروع المجلّة الجديدة.“