المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

في ثلاثينات القرن الماضي، قدّم برتولت بريشت ورفاقه فيلمهم “بطون جامدة” للمكلّف بالرقابة. فيلم “بطون جامدة” ينطلق من حكاية انتحار معطّل عن العمل زمن الأزمة الاقتصادية في برلين السنوات العشرين. تحدّث بريشت عن الصعوبات التي واجهتهم خلال محاولات إقناعه بالتأشير على شريطهم. لكن في نفس الوقت، لم يخف إعجابه بذلك الرجل الذي استطاع الغوص عميقا في نواياهم الفنية، أعمق حتى من أكثر النقاد حبّا ومودّة تجاهه: “لقد أعطانا درسا عن الواقعية من وجهة نظر الشرطة”. الواقف أمام آخر أيام المدينة تواجهه حيرة كبرى: ما الذي رآه الشرطي في هذا الفيلم؟ هو فيلم لا يتحدث عن الثورة، لا يوجه سهامه لا للسيسي ولا للإخوان ولا لحسني مبارك، لا يدعو إلى الثورة وقلب النظام ولم نر ميدان التحرير أكثر من بضع ثوان. إلا أن ما رسب في الأذهان وفي الوجدان بعد أن أضيئت القاعة هو شعور خانق بأنه يتحدث عنا، نحن من نحمل يوميّا همّ هذا الوطن، وعن لحظات وقوفنا العاجز أمام السؤال الأزلي: ما العمل؟

السياسي في مرآة الذاتي

نتابع في بداية الفيلم خطوات خالد في بحثه عن شقة في القاهرة ونقاشه مع الوسيط. ثم نجده يتحدث حديثا متقطعا مع حنان في سيارتها. فجأة يتحرّك إطار الصورة وتخطو الكاميرا خطوات إلى الوراء لتضع حنان في شاشة صغيرة يشاهدها خالد مع مساعده…  ونفهم أن مشهد حنان هو مشهد صوره خالد في وقت سابق وهو الآن بصدد تركيبه على شاشة كمبيوتر. ومن هنا لا تكون حنان شخصية في الفيلم الذي نحن بصدد مشاهدته، بل هي شخصية من فيلم وثائقي يصوّره خالد. ومن هنا أيضا يعلن لنا المخرج ثامر سعيد عن شرخ بين جنسي الرواية والوثائقي يشق “آخر أيام المدينة”: شرخ مرّت عبره الشخصية الرئيسية للفيلم حاملة معها ذاتية المخرج: فحملت تلك الشخصية اسم “خالد” وهو اسم الممثل الذي يلعب الدور خالد عبد الله وأردف إليه لقب “سعيد” وهو لقب المخرج ثامر سعيد. قتشكّلت الشخصية الرئيسية وحملت صورة “خالد سعيد”، مواطن مصريّ من القاهرة يحمل وزر أزمات حياته اليومية كمرض الأم وابتعاد الحبيبة والبحث عن شقة، يُثقل كاهله بهواجس ثامر سعيد في بحثه عن سبيل لتصوير مدينته.

سرد مرآتي (Mise en abîme)

اتفق خالد مع ثلاثة من أصدقائه أن يصوّر كل منهم فيلما عن مدينته: باسم اللبناني الذي عاش الحرب الأهلية عن بيروت، طارق اللاجئ العراقي في برلين، حسن العراقي كذلك الذي فضل البقاء في بغداد وخالد عن القاهرة. الكل عبّر عن صعوبة تصوير فيلم عن مدينته ولعلّ هذه الصعوبة كانت التعلّل الأمثل ليحوّل ثامر سعيد وجهة الكاميرا ليوجهها صوب ذاته في حركة سرد مرآتي (Mise en abîme). في الحقيقة لن نرى الكثير لا عن بغداد ولا عن بيروت بل ستكون القاهرة بمثابة أنموذج لكل مدن العالم العربي ويكون خالد تمثيلا لحيرة المثقف الذي يأبى أن ينخرط في سرديّات النظام. فيُرينا ثامر سعيد عبر خالد سعيد ما طبعته تلك المدن على أناسها وما تخلق لديهم من حيرة وأزمات عوض أن يكتفي بتصوير ما ظهر من تلك المدن.

يفتتح الفيلم على مشهد غروب على النيل فيبعث لنا تنبيها بنسق الألوان الذي سيرافقنا: لن يمكنّنا ثامر سعيد ولو للحظات من زرقة السماء بل سيمعن في إرساء ألوان خانقة على مدينة صارت أشبه بالسجن. من منّا نسي تلك العاصفة الرملية التي غطّت بغداد عشية سقوطها على يد الجيش الأمريكي؟ إن صحّ التعبير، ذلك هو لون الفيلم: لون أصفر رمليّ قاتم حزين لمدينة تحت الحصار. هذا هو ما ستطبعه المدينة على سكانها: شعور الحصار والاختناق، تماما ما يطبعه السجن على السجين. فلا غرابة أن يكون مشهد السعادة والمرح الوحيد هو مشهد خروج الأصدقاء لتصوير المدينة في الصباح الباكر، لما تكون الشوارع خالية وجميع مظاهر الرقابة غائبة. كأيّ سجين، لجأ خالد إلى الذاكرة ليعيش ويُبقي لنفسه مجالا للحلم. و ليحكي مدينته سلك طريق الغوص في ذاكرة بعض سكانها فعاش بعضا من أحزانهم ومن حيرتهم علّهم يشكّلون من جديد ذاكرة المدينة ويبثون فيها الحياة من جديد.

تنافر الصورة والصوت أو “الخوف من الدموع الحقيقية”

في حديثه عمّا دفع المخرج البولوني كريستوف كيشلوفسكي إلى الانتقال من الوثائقي إلى الفيلم الروائي، أشار سلافوي زيزاك إلى صعوبتين تعترضان صانع الوثائقي: الأولى ألاّ  يجعل شخوصه يسقطون في فخ لعب دورهم الخاص وهو ما يقضي على تلقائيتهم. الثانية ذات بعد إيتيقي وهي الحرج الذي يلقاه المخرج في  تصوير خصوصيات الشخصيات التي يتابعها. كانت النقطة الفارقة في مسيرة كيشلوفسكي لما صوّر دموع أم أثناء الولادة فهل كان من حقه أن يغوص إلى ذلك الحد في ذاتيّة تلك المرأة؟ حسم كيشلوفسكي الأمر بمروره النهائي إلى الفيلم الروائي وعوّض الدموع الحقيقيّة بدموع اصطناعيّة تجري من أعين الممثلين إلا أن أغلب أفلامه بقيت مطبوعة بهواجس صانع الوثائقي التي من أهمها ازدواجية المعنى في توجيه الكاميرا نحو الشخصيات: هي في نفس الوقت ولوج لذاتيتها وإطلاق الأحكام عليها. “آخر أيام المدينة” فيلم في منزلة بين منزلتي الرواية والوثائقي: تفادى الخطاب السياسي المباشراتي بأن دفع بأحداث المدينة إلى خلفيّة الرواية الرئيسيّة واكتفى بأن يجعلها إطارا زمكانيا وصوتيّا لحياة خالد اليومية. في نفس الوقت ترك بعض المسافة مع شخوص الرواية كأنهم أناس حقيقيّون ندين لهم باحترام خصوصيّاتهم ومراعاة لحظات ضعفهم.

بين رقابة الشرطة وصوت البروباغندا

تبرز رغبة المخرج في البقاء في منزلة بين منزلتين عبر افتعاله المكثف للتنافر بين الصوت والصورة وأحيانا حتى فك الارتباط بينهما. في تصويره لحياة المدينة، يلبس المشاهد اليومية للمدينة بصوت الراديو الرنان ببروباغاندا النظام. مثل مشهد الطفلة بائعة المناديل في مفترق الطريق حيث نراها تمر من سيارة لأخرى لتبيع بضاعتها ونسمع في نفس الوقت في الراديو خطابات عن الحس الوطني لحزب الرئيس ومراعاته لمصالح الشعب أولا وقبل كل شيء. كذلك نرا المظاهرات وفي نفس الوقت نسمع أخبار تشجيع الرئيس والمستمعين لمنتخب لكرة القدم. في المقابل، لجأ ثامر سعيد إلى فك الارتباط بين الصوت والصورة في تصويره لشخصياته: فكلّما تحدّثت شخصية حديثا خصوصيّا مع أخرى أو كلّما أسرّت إحدى الشخصيات بما يخالجها أو تحدّثت عن ماض أو عن ألم أو عن رغبات إلاّ ورأينا صورتها تتوقف عن الحديث لكن صوتها يواصل الحكاية. كمن غض الطرف حياءً في مدينة لا تستحي أن تتكشف عن جميع خصوصيات سكانها وتتدخل فيها. حتى لمّا أراد خالد أن يصوّر رجلا يعنّف زوجته من خلال نافذته التي تطل على منزلهم فوق سطح البناية المقابلة، تراجع عن ذلك بعد أن توجه إليه ذلك الرجل مباشرة لمّا تفطّن إليه. ما إن نظر الرجل مباشرة إلى الكاميرا إلاّ وأنزلها خالد من يده وارتبك كمن يقول لنفسه: لا تكن رقيبا مثل السجان!

لا تكن رقيبا 

رحلة الهروب إلى الماضي: “طريقك مسدود يا ولدي”

يشق الفيلم طريقه متابعا لرحلة خالد بين شوارع المدينة وأزقة الذكريات في ترافلينقات طويلة. بين ذكرى وأخرى وشقة وأخرى، يقودنا خالد في زيارة عبر شوارع مدينة صاخبة لا نشعر البتة أنه ينتمي إليها. يمر بين مظاهرة وأخرى دون أن يشارك في أي منها. يمر بين جماعة وأخرى فرشت سجاداتها على قارعة الطريق أو في أروقة المكاتب لتقيم الصلاة دون أن يشاركهم الخشوع. يمر بين جماهير الكرة دون أن يشاركهم فرحة الانتصار. كل هذا تحت أعين الشرطة الحاضرة في كل مكان بسبب أو دونه. يمر خالد عبر كل هذا بوجه باهت كأنه يكتشف المدينة لأول مرة. أو لنقل كإنسان يرفض القبول بأن تلك المدينة مدينته: مدينة لا يرى منها سوى الرقابة على الأجساد والضمائر ومظاهر التخدير. فيتّبع خالد سبيل الذكريات ليبحث عن صورة مدينة جميلة تروق له وتكون إطارا جميلا لأحلامه.

اعتماد

تنتهي رحلتا البحث عن الشقة وعن أحلام المدينة الغابرة معا. يصل طريق الذاكرة إلى شقة “اعتماد” في الإسكندرية. اعتماد التي أجبرت على مغادرة منزلها بعد أن عاشت فيه ستين سنة. نراها تجول الشقة في صمت بين المطبخ وأريكتها حذو النافذة ونرى الجار في الشرفة المقابلة فيما تبقى من حياة في ذلك المكان على نغم “يا جارة الوادي”. إلا أنه فقط سراب: فقد هدّمت البناية كلها ليتم تشييد مركز تجاري مكانها، هُدّمت دون رأفة بما تبقى من الذكرى. تنتهي كذلك رحلة البحث عن شقة بأن وجد خالد ضالّته في منزل كأن الزمن توقف فيه في خمسينيات القرن الماضي أو ستينياته. لكن خالد لا يقدر على توفير المبلغ اللازم لكرائها… الذاكرة رحلت والحلم صعب المنال. رحلت الأم ورحلت الحبيبة. تنتهي الرحلة إلى مأزق، هكذا قرّر ثامر سعيد لخالد وللفيلم.

هُدّمت البناية ومُزّقت الذكرى

الخاتمة: نحو كسر القضبان؟

المدينة-السجن، هذه هي الخلاصة. لا خلاص في محاولة الهروب عبر الماضي فهذا الماضي اندثر. ولا خلاص في أن تعيش حياة المدينة مثلما فعل حسن في بغداد: فقد رفض مغادرتها وأصرّ أن يبقى بين أسوارها إلى أن قُتل في أحد تفجيراتها اليومية. حينها ذهب خالد إلى شقته وكمن أراد أن يحسم أمره نهائيا، فتح النافذة لأوّل مرة في حركة توحي أنه يهمّ بالانتحار مادامت كل السبل مسدودة. لكنه لم ينتحر: بقي جالسا على الحافة ينظر إلى المدينة.

انتحار؟

يُنهي كيشلوفسكي فيلمه “أحمر” كذلك بمشهد شخصية القاضي ينظر من وراء نافذة مهشمة الزجاج. على عكس ثامر سعيد، اختار كيشلوفسكي أن يختتم ثلاثيته  أزرق – أبيض – أحمر (وكانت ختام مسيرته كمخرج) بإنقاذ جميع شخصيات الثلاثية من غرق حتمي واختار لهم طريق الخلاص ويتنازل بذلك عن إطلاق الأحكام من موقع المخرج-القاضي الجالس وراء الكاميرا. في حركة مشابهة، يتنازل ثامر سعيد عن موقعه: ثامر سعيد أنقذ خالد-الشخصية من الانتحار. لكنه في نفس الوقت أعدم سعيد-المخرج-الملاحظ المتجرّد. لأوّل مرة، لا ينظر خالد إلى المدينة من وراء النافذة، بل يصير جزءا منها!

عبور

يبقى لنا هنا مجال للتأويل لكن يصلنا من أعماق الفيلم صوت الحكمة، صوت حنان التي تدفع بخالد كل مرة إلى أن يكف عن الفرجة ويتفاءل وينطلق صوب الحياة: “الأهم أن خيالك يبقى شغّال”. يقول جون لوك قودار أنه “في 48، دخل الصهاينة عالم الرواية وفي نفس اللحظة دخل الفلسطينيون عالم الوثائقي”: فسجن المنهزمون في خانة توثيق مآسيهم بينما فتح مجال الخيال واسعا للمنتصرين لصياغة السرديّات التي تُثبّت موقعهم. وقوف خالد على النافذة هو إذا نقطة فاصلة من موقع الملاحظ (حتى وإن كان ملتزما بقضية) إلى موقع صانع الحكايات المتحرر من قيود الواقع والمطلق العنان لخياله. نقطة فاصلة يتفادى بعدها مثلا أن بكتفي بتوثيق وفاة الأم، بل يصوّر قطعة سكر تذوب في الماء لتبعث الحياة في وردة بيضاء.

يبقى السؤال قائما: هل حقّا اعتبرت شرطة النظام في مصر من مديري مهرجانات ومن مكلّفين بالرقابة أن “آخر أيام المدينة” يمثل خطرا أم أنها فقط أحقاد شخصية تواجه كل مبدع؟ في الحقيقة لا يمكن الفصل بين هاتين الفرضيّتين: فأعوان النظام هم أكبر المستفيدين من وضع الرتابة القائم، وهذا الوضع يضمن ديمومته عبر السرديّات التي يروّج لها كل نظام. حملنا ثامر سعيد إلى النظر من وراء ستار هذه السرديّات لنفهم أنها ليست سوى زينة لقضبان زنزانة عظيمة يقبع فيها الجميع. إلاّ أنه لا يقوم بذلك من موقع السياسي بل من موقع الفنان الذي حمل على عاتقه هاجس كسر تلك القضبان. ورغم جو التشاؤم العام الذي يسود الفيلم، فإنّه بمثابة الدعوة إلى إقامة الحداد على مدينة تعيش آخر أيامها ليولد الجديد على أنقاضها.