تختلف الكتابة بالعاميّة التونسيّة في الأدب عن الترجمة بها، لأنّ الكتابة في الأدب تحتمل الذاتيّ ويمكن توظيف اللهجة الأصليّة التي يتكلّم بها الكاتب أو توظيف لهجة شخصيّات القصّة مثلما فعل البشير خريّف في روايته “الدقلة في عراجينها”، حيث استخدم في الحوار لهجة سكّان بلاد الجريد، وبالتالي فإنّ استخدام هذه اللهجة دون غيرها لديه مبرّرها السرديّ. في المقابل تتطلّب الترجمة بالعاميّة أن نختار اللهجة التي سنكتب بها ولن يكون الخيار سهلا لأنّه ليس لدينا عاميّة رسميّة. الأسئلة التي نُدفع إليها دفعا: أي لهجة نعتمدها في الترجمة؟ هل نعتمد لهجة العاصمة ونقصي لهجات المناطق الأخرى أم نقحم الاعتبارات الجهويّة في عمليّة الترجمة بالدارجة وننتصر للهجة على حساب أخرى؟ اعتمد ضياء بوسالمي في ترجمته لرواية “الغريب” للفيلسوف والروائيّ الفرنسيّ الجزائريّ ألبير كامو لهجة سكّان العاصمة معلّلا ذلك بأنّها اللهجة “التي يفهمها الجميع تقريبا“، وهو ما عابه البعض عليه لأنّ ما جعل لهجة العاصمة بمثل هذا الوضوح المغشوش هو مركز القرار السياسيّ الذي فرض لهجة سكان العاصمة وجعلها اللهجة الرسمية في الخطاب الإعلاميّ في تهميش صريح للهجات الأخرى.

الدارجة في الكتابة والترجمة

لنعد مع ضياء إلى بداية قراره الترجمة بالعاميّة بغضّ النظر عن اللهجة المُعتمدة وإشكاليّاتها، حيث تحدّث لنواة عن اختياره قائلا: “اخترت الترجمة بالدارجة حتى أدحض الاعتقاد السائد بأنّ العاميّة التونسيّة لهجة لا يمكن تطويعها واستغلالها في الترجمة. اختياري للترجمة بالعاميّة التونسيّة جاء من منطلق محاولة تحويل لهجتنا من المنطوق إلى المكتوب مع العلم بوجود تجارب في الكتابة بالعاميّة منذ العشرينات إلى اليوم. الأهمّ بالنسبة لي من جلب أكبر عدد ممكن من القرّاء هو تسخير المصطلحات والنسيج اللغويّ الذي تعوّدنا عليه في الشارع في مواضيع أدبيّة وفلسفيّة”.

أمّا مجد مستورة الذي ترجم كتاب “الشأن العام” للباحث الفرنسيّ فيليب دوجاردان تحت عنوان “الشأن العام هو إلّي يلمنا” عن دار الجنوب للنشر، فيقول في تصريح لنواة عن علاقته بالعاميّة التونسية: “علاقتي بالدّارجة التّونسية كعلاقة أيّ تونسي بها، أتحدّث بها، أفكّر بها وأحلمُ بها. يحدث لي كثيرا أن أٌفكّر بيني وبين نفسي بالفصحى أو الفرنسيّة وذلك أمر طبيعيّ لأنّ مراجعي الفكريّة عربيّة وفرنسية ولأنّ العربيّة والفرنسية، بحكم أنّهما لغتان قائمتا الذّات، لهما القُدرة على التّجريد وعلى خلق المفاهيم. في المقابل، بالكاد أتذكّر أنّني حلمت مرّة بالفصحى أو بالفرنسيّة. وعليه فإنّي أعتقد أنّ علاقتي بالدّارجة التّونسية هي علاقة استعمال يوميّ فيه الكثير من العمليّ والذّهني، وأعتقد أنّ ذهني يشتغل أساسا بالدّارجة في ما يتعلّق بكلّ ما هو حميميّ وانفعالي، فحينما تنفَلِتُ من فمي كلمة بتلقائية للتّعبير عن الإعجاب أو السّخط أو التّلذّذ أو التّألم، تخرج بالتّونسية”. ويعتبر مجد أنّ “ما نسمّيه قدرةَ لغة أو لهجة ما على البلاغة هي في حقيقة الأمر قُدرة مستعمليها على التّبليغ، اللّغة هي كائن حيّ أو ميّت بقدر حيويّة أو موت الإنتاج الأدبي والفكريّ لمستعمليها، بالتّالي السّؤال الحقيقيّ بالنّسبة لي هو هل أنّنا قادرون كتونسيّين أن نبدع بالدّارجة؟”، وقد طرح البشير خريّف نفس هذه الإشكاليّة منذ انخراطه في موجة الكتابة الأدبيّة في الثلاثينات.

ويُعتبر البشير خريّف من أهمّ الروائيّين التونسيّين الذين اختاروا وسم أعمالهم الأدبيّة بالمحليّة التونسيّة وذلك باعتماد الدارجة في كتاباته. تحدّث خريّف عن الكتابة بالعاميّة التونسيّة في حوار له يعود إلى سنة 1980 أعيد نشره مؤخّرا في مجلّة الحياة الثقافية، وقد أشار إلى تأثّره الشديد بعلي الدوعاجي الذي قال عنه بأنّه رغم امتلائه بالروح التونسيّة لا يتجرّأ على الكتابة بالدارجة إلاّ القليل. يدافع البشير خريّف عن فكرة أنّ “اللغة العاميّة يلزمها تلقى المتنبّي متاعها وتلقى فولتار متاعها وتلقى غوته متاعها”، على حدّ قوله، معتبرا أنّ الدارجة لها روحها وخصوصياتها ويمكن أن تغيّر هيكل اللفظة العربيّة ومعناها مثل كلمة “ألحّ” بالفصحى التي حوّلتها السليقة التونسيّة إلى كلمة “يلحلح” فتغيّر المعنى لأنّ في الأولى صرامة وقوة وفي الثانية انحاء وتذلّل. كتب البشير خريّف في مجلّة الفكر سنة 1959 مقالا مرجعيّا تحت عنوان “خطر الفصحى على العربيّة” تحدّث فيه بنبرة ساخرة عن التقديس الأعمى للفصحى حيث قال: “إنّي أعتقد أنّه لو قام امرؤ القيس واستمع إلى كلام الناس، ثمّ قُرئت عليه الكتب العصريّة والجرائد لفهم كلام الناس بأيسر ممّا يفهم الفصحى”، مضيفا: “وإنّك لو رجعت قليلا إلى الكتب القديمة مثل كتب الأصمعيّ والجاحظ وابن المقفّع وكتب السيرة والحديث والقرآن لوجدتها أقرب إلى لغتنا العاميّة منها إلى الفصحى”.

البشير خريّف (1917-1983)

 

إشكاليّات الترجمة بالدارجة

لا يتفق الناشط والمدون عزيز عمامي، الذّي قام بسلسلة ترجمات فلسفية بالعاميّة التونسية لغرامشي وبيسوا وكارل بوبر وغيرهم، مع المقولة الشائعة بأنّ “الترجمة خيانة”، حيث يعتبر الترجمة تجسيدا حيّا للولاء في بعديه المقصديّ والإنسانيّ أي ولاء لكاتب النص الأصلي في المقصد وفي اللحظة الانسانية التي كتب فيها نصّه. ويوافق الشاعر الأمريكيّ عزرا باوند في دعوته إلى الترجمة الخلاّقة أي إعادة كتابة نصّ وفيّ للنص الأصليّ في المطلق ولكن بأسلوب آخر قد يبتعد حتّى عن التراكيب والكلمات الأصليّة ويجعل الكاتب ينطق نصّه بلغة أخرى. يؤكّد عزيز على أنّه يترجم فقط النصوص التي يكون له معها رابط عاطفيّ أو جماليّ أو النصوص التي يمكن أن تحقّق الإفادة حتى لقارئ واحد لا غير. يحاول عزيز الابتعاد عن تفسير مقاصد الكاتب عند الترجمة بالعاميّة حتى لا يختلط رأيه الشخصيّ مع رأي الكاتب وحتّى يفسح المجال للقارئ كي يصفّي ذهنه ويتعامل مع الأفكار من منطلقاته الذاتية دون أن يكون مدفوعا بأحكام المترجم.

واجه عزيز عند ترجمته لغرامشي بالعاميّة التونسيّة صعوبة في ترجمة كلمة Partisan وهي من الكلمات المحوريّة والمؤسّسة في نصوص غرامشي الذي يعدّ فيلسوف الماركسيّين الأقدر فكريّا على تطوير الوعي الثوريّ، نظرا لإحداثه نقلة نوعيّة في الأدبيّات اليساريّة. الترجمة الأسهل لكلمة Partisan  هي “متحزّب” خاصّة بالنسبة إلى أولئك الذّين يرون أن “الالتزام اليساريّ لا يمكن أن يكون إلاّ في إطار حزبيّ” وبالتالي فإنّ غياب كلمة “متحزّب” عن الترجمة، يقول عزيز، “قد تُعتبر مشكلة أو حتى تحريفا لنصّ غرامشي”. تبقى كلمة “مُنتمي” التي تمّ استعمالها في عديد الترجمات باللغة العربيّة الفصحى، لكنّ الإشكال في هذه الكلمة، حسب ما أورده عزيز في نصّه “عودة على ترجمة: علاش كلمة نصير“، هو أنّ غرامشي لم يطرح في نصوصه مسألة الانتماء إلى جماعة نظرا لما تحمله من معاني انصهار الفرد ضمن المجموعة وهو ما يتعارض مع فكر غرامشي الذي يؤكّد على الإرادة والفعل والبطولة وهي أفعال فرديّة. خلص عزيز في النهاية إلى كلمة “نصير” بالفصحى، معتبرا أنّ العاميّة بإمكانها الاجتراح من اللغة العربيّة الفصحى كأحد اللغات الأصل للهجة التونسيّة. أمّا مجد مستورة فقد واجه صعوبات في ترجمة كتاب “الشأن العام” على اعتبار أنّ العاميّة التونسيّة لا تحتمل المفردات السياسيّة والمفاهيم النظريّة لذلك اعتمد المصطلحات الفرنسيّة غير المعرّبة.

للترجمة إشكاليّاتها وللترجمة بالعاميّة إشكاليّتها الخاصّة لما تطرحه من تحديّات على مستوى المفاهيم المعتمدة واللهجة المعتمدة والتفسير الاقتحاميّ للنصّ الأصليّ. ما يؤخذ بعين الاعتبار هو أنّ العاميّة التونسيّة لا يمكن أن تظلّ محصورة اليومي المتداول فهي تمتلك من الخصوصيات ما يجعلها لغة ترجمة وكتابة أدبيّة بامتياز. يبقى الإشكال ربّما في تحوّل الكتابة بالعاميّة التونسيّة والترجمة بها إلى موضة محدودة في الزمن و”تُنسى كأنّها لم تكن” دون أن تتحوّل إلى مشروع حقيقيّ له مريدوه وأنصاره الحقيقيّون.