قُنّنَت مسألة تصويت الأمنيين والعسكريين في الانتخابات البلدية والجهوية دون سواهما بعد أن صادق مجلس نواب الشعب في 31 جانفي 2017 على تعديل الفصل السادس من القانون الأساسي المتعلق بالانتخابات والاستفتاء الذي بات -بصيغته الجديدة- يسمح للقوات الحاملة للسلاح بالترسيم في سجل الناخبين. وقد فتح هذا التعديل أمام حوالي 187705 من المنتسبين للأسلاك الأمنية والعسكرية باب الذهاب إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات البلدية لسنة 2018، ولكن لم ينخرط في عملية التسجيل سوى 36495، أي بنسبة 19،44 بالمائة من مجموع القوات الحاملة للسلاح. منذ المصادقة على هذا التعديل لاح الانقسام في صفوف النقابات الأمنية، ففي الوقت الذي اعتبره الاتحاد الوطني لقوات الأمن التونسي “مكسبًا دستوريا” رفضته النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي التي اعتبرته “حقا مبتورا” سيضرب حيادية المؤسسات الأمنية والعسكرية.

الأمن الجمهوري: مظلة الصراع النقابي

كان الصراع بين النقابات الأمنية يأخذ بعدا سياسيا، يُسارع فيه كل طرف إلى الالتحاف بشعار “الأمن الجمهوري”. وفي هذا السياق خاضت النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي حملة المقاطعة تحت عنوان “أمن جمهوري محايد…لاينتخب”. ولكن يلوح هذا الحياد مقتصرا فقط على الانتخابات البلدية، حيث ذهب شكري حمادة، الناطق الرسمي باسم النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي، إلى أن المقاطعة هي وسيلة احتجاج تهدف إلى توسيع مشاركة الأمنيين في العملية الانتخابية برمتها، سواء من خلال الترشح أو من خلال المشاركة في الانتخابات التشريعية والرئاسية، مشيرا بالقول “المشرّع اعتبرني مواطن من الصنف الثاني”. وهنا يظهر أن المطالبة بتوسيع المشاركة الأمنية في الفعل الانتخابي تتعارض مع شعار “الحياد” المرفوع، الذي كان يهدف إلى إظهار القدرة النقابية على تنشيط المقاطعة في صفوف الأسلاك الأمنية، وتُعد المقاطعة موقفا سياسيا يهدف إلى التأثير في العملية السياسية عبر الجهاز الأمني رغم مظلة الحياد التي يختفي وراءها الداعون إليه.

من جهته أسَّسَ الاتحاد الوطني لنقابات قوات الأمن التونسي موقف المشاركة في الانتخابات البلدية على نفس الشعار “الأمن الجمهوري”، وفي هذا السياق قال عماد الحاج خليفة الأمين العام للاتحاد “نريد بناء أمن ديمقراطي وجمهوري، فنحن ندفع الضرائب وسنختار من سيُمثلنا في المجالس البلدية لنعرف لمن ندفع هذه الضرائب”. ويلوح أن هذا الموقف يدفع أيضا نحو تأثير الأسلاك الأمنية في الحياة السياسية عبر صناديق الاقتراع التي ستشكل إطارا جديدا للضغط على الأحزاب من أجل تحقيق مطالب الأمنيين، وهو ما عبّر عنه عماد الحاج خليفة بالقول “سننتخب من نراه كفء لإدارة الشؤون اليومية للأمنيين”. من جهة أخرى يرتبط موقف المقاطعة الانتخابية بالضغط على مضامين التشريعات المتعلقة بالشّأن الأمني، حيث أشار شكري حمادة، الناطق الرسمي باسم النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي، إلى أن “المشرّع يعطي حقوقا مبتورة للأمنيين”، مذكّرا بالاستياء الأمني من المعارضة البرلمانية التي جُوبِهَ بها قانون زجر الاعتداء على القوات الحاملة للسلاح. ويُذكر أن هذا القانون لقي معارضة حقوقية وإعلامية وسياسية واسعة، في حين اتحدت في الدفاع عنه جل النقابات الأمنية.

الصراع حول تمثيل القاعدة الأمنية

سعت النقابات الأمنية إلى محاولة توظيف النتائج الانتخابية لإثبات قدرتها على التأثير في القاعدة الأمنية، في هذا السياق اعتبر شكري حمادة أن الدعوة إلى المقاطعة كانت ناجحة، قائلا “النتيجة الانتخابية أثبتت أن هذا الهيكل يحظى بمصداقية عند الأمنيين بمختلف أسلاكهم”. من جهته سعى مهدي بالشاوش، الناطق الرسمي باسم نقابة موظفي الإدارة العامة لوحدات التدخل المنضوية تحت الاتحاد الوطني للنقابات، إلى التقليل من تأثير المقاطعة في عزوف الأمنيين، مشيرا إلى أن ”36 ألف أمني وعسكري لا يمكن أن تؤثر عليهم نقابة قد تؤثر قليلا لكن ليس بصفة كبيرة”. وقد ذهب بالشاوش إلى أن موقف المقاطعة يتماهى مع مواقف أخرى تُحرّم الانتخابات، وهو ما جعل النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي تهاجمه عبر صفحتها الرسمية بموقع فايسبوك وتصف تصريحه بـ”النذالة والانحطاط الأخلاقي”، معتبرة أنه شبّههم بـ”الدواعش”.

خاضت النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي حملة المقاطعة من خلال إظهار الحرص على افتكاك الحقوق الاجتماعية والدستورية للأمنيين بشكل كامل، محاولة بذلك عزل الموقف النقيض الداعي إلى المشاركة. وهو ما جعل الاتحاد الوطني لنقابات قوات الأمن التونسي -الذي تزعّم الدعوة إلى المشاركة- يبحث عن الحجج من أجل تبرير العزوف عن التصويت، الذي أرجعه عماد الحاج خليفة إلى أسباب تقنية، مشيرا إلى تعارض التاريخ الانتخابي مع الالتزامات المهنية للأمنيين و”غياب حملات التوعية والتحسيس في صفوف الأمنيين الذين لم يتأقلموا بعد مع حقهم في الانتخاب” على حد تعبيره. كما سعت النقابات المشاركة إلى إخراج الموقف المُقاطع من دائرة الإجماع النقابي والسياسي من خلال البحث عن تقاربات منسجمة مع مواقف الأحزاب والمجتمع المدني والهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وهو ما عبّر عنه مهدي بالشاوش الذي وصف المقاطعة بأنها “تشويش على العملية الانتخابية وعلى الأمنيين ودعوة خارج السرب وخارج الإجماع النقابي الأمني”.

شكلت الانتخابات البلدية محطة كاشفة لجزء من الصراع السياسي الذي يعتمل داخل النقابات الأمنية والذي يتغذى في جزء منه من معركة التنافس على تمثيل القاعدة الأمنية ومحاولة التأثير فيها من بوابة المطالب الاجتماعية والقانونية، أما في جزءه الآخر فهو ليس معزولا عن المعادلة السياسية برمتها التي لاتبدو فيها الأجهزة الأمنية بمنأى عن الصراع على السلطة رغم شعار الحياد الذي يرفعه الجميع.